تفسير الآيات ( 04 - 12 ) من سورة القمر . حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وأصلّي وأسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء الثاني والثّمانون بعد المائة من اللّقاءات المعروفة باسم: لقاء الباب المفتوح، التي تتمّ كلّ يوم خميس، وهذا الخميس هو الخامس والعشرون من شهر محرّم عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللّقاء بما كنّا نعتاده من الكلام على الآيات الكريمة، وفي اللّقاء الماضي انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: (( حكمةٌ بالغة فما تغن النّذر )): نعم (( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النّذر )):
أكّد الله تعالى في هذه الجملة (( ولقد جاءهم من الأنباء )) بأنّهم أي: قريشًا جاءهم من الأنباء، أي: الأخبار التي فيها رشدهم وصلاحهم وفلاحهم.
(( ما فيه مزدجر )) أي: ازدجار عن الشّرك والعصيان لكنّهم لم ينتفعوا بذلك.
وهذه الجملة كما تسمعون فيها اللّام وفيها قد وهما من أدوات التّوكيد، وفيها قسَمٌ مقدّر دلّت عليه اللّام في قوله: (( ولقد جاءهم )) وعليه فتكون هذه الجملة مُؤكّدة بثلاثة مؤكّدات: القسم واللّام وقد، والله سبحانه وتعالى صادقٌ بغير توكيد لخبره، لكنّ هذا القرآن بلسانٍ عربيّ مبين، واللّسان العربيّ من بلاغَته تأكيد الأشياء الهامّة حتى تثبت وترسخ في الذّهن.
قال الله تعالى: (( حكمة بالغة )) يعني: أنّ الأنباء التي جاءتهم حكمة وهذا كقوله تعالى: (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ))، والحكمة هي: موافقة الشّيء لموضعه ويعبّر عنها بقولهم: " تنزيل الشّيء منزلته اللّائقة به "، ولا شكّ أنّ شريعة الله كلّها حكمة، كلّها مطابقة لما فيه صلاح العباد في معاشهم ومعادهم.
وقوله: (( بالغة )) أي: تامّة واصلة إلى الغرض المقصود منها .
(( فما تغن النّذر )) ما: هذه يحتمل أن تكون نافية، يعني أنّ النّذر لا تغنيهم شيئا، ويحتمل أن تكون استفهاماً على وجه التّوبيخ يعني: فأيّ شيء تغنيهم، وكلاهما صحيح، فالنّذر لم تغنهم شيئاً، وإذا لم تغنهم هذه النّذر المشتملة على الحكمة البالغة فأيّ شيء يغنيهم؟
الجواب: لا شيء لأنّهم معاندون مستكبرون.
ثمّ قال عزّ وجلّ: (( فتولّ عنهم )) وإلى هنا ينتهي الكلام، تولّى: الخطاب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن هؤلاء لأنّهم معاندون مستكبرون (( وما تغن الآيات والنّذر عن قوم لا يؤمنون ))، (( وإن يروا كلّ آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمرّ فتولّ عنهم )) سوف يأتيهم ما وعدوا به، وسوف يتحقّق لك ما وُعدت به، ويحسن هنا أن تقف (( فتولّ عنهم )) ثمّ تستأنف وتقول: (( يوم يدع الدّاع ))، لأنّك لو وصلت لأوهم أنّ التّولّي يكون يوم يدع الدّاعي ومعلوم أنّ التّولّي في الدّنيا وليس يوم يدع الدّاعي.
وقوله: (( يوم يدع الدّاع )) هو ظرف، والظّرف لا بدّ له من عامل كالجارّ والمجرور لا بدّ له من عامل وكجميع المفعولات لا بدّ لها من عامل، فما هو العامل في قوله: (( يوم يخرجون من الأجداث ))؟
العامل قوله: يخرجون، (( يوم يدع الدّاع إلى شيء نكر خشّعا أبصارهم يخرجون )) فهي متعلّقة بيخرجون، أي: سوف يأتيهم العذاب في ذلك الوقت (( يوم يخرجون من الأجداث كأنّهم جراد منتشر )).
وقوله: (( يوم يدع الدّاع إلى شيء نكر )) هو داعي يوم القيامة، (( إلى شيء نُكُر )) أي: منكر عظيم لشدّة أهواله، فإنّه لا شيء أنكر على النّفوس من ذلك اليوم لأنّهم لم يشاهدوا له نظيراً.
(( خشّعا أبصارهم )) يعني: أنّ أبصارهم خاشعة ذليلة كما قال الله عزّ وجلّ: (( ينظرون من طرف خفيّ )) هم الآن مستكبرون رافعوا رؤوسهم يرون أنّ النّاس تحتهم وأنّهم فوقهم لكن سيأتي اليوم الذي يكون بالعكس.
(( يخرجون من الأجداث كأنّهم جراد منتشر )) الأجداث هي: القبور، (( وكأنّهم جراد منتشر )): الجراد المنتشر أي المنبثّ في الأرض الذي لا يدري أين وجهه، ليس له طريق قائمة يعرف كيف ينتهي، ولكنّهم منتشرون، وهذا من أدقّ التّشبيهات لأنّ الجراد المنتشر، تجده يذهب يمينا ويساراً لا يدري أين يذهب، فهم سيخرجون من الأجداث على هذا الوجه بينما هم في الدّنيا لهم قائد، لهم أمير، لهم موجّه، يعرفون طريقهم وإن كان طريقًا فاسدًا.
(( مهطعين إلى الدّاع )): يعني أنّهم مسرعون خاضعوا الأعناق كالرّجل إذا أسرع وركض تجده يقدّم رأسَه يخضعه، فهم يخرجون من الأجداث (( مهطعين إلى الدّاع )) أي: مسرعين خافضوا رؤوسهم من الفزع والهول والشّدّة.
(( يقول الكافرون هذا يوم عسر )): وتأمّل قوله: يقول الكافرون، ولم يقل: يقول النّاس، لأنّ هذا اليوم العسر لا شكّ أنّه في حدّ ذاته عسر شديد، عظيم، لكنّه على الكافرين عسير وعلى المؤمنين يسير، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وكان يوماً على الكافرين عسيراً )) وقال تعالى: (( على الكافرين غير يسير ))، وأمّا على المؤمنين فهو يسير ولله الحمد جعلنا الله وإيّاكم منهم.
السائل : آمين.
الشيخ : (( يقول الكافرون هذا يوم عسر )) ثمّ بدأ الله عزّ وجلّ بقصص الأنبياء على وجه مختصر في هذه السّورة لكنّه مؤثّر تأثيراً بالغاً لو قرأتها بتمهّل وتدبّر لوجدت أنّها مؤثّرة جدّا، كلمات مختصرة لكنّها رادعة تماماً:
(( كذّبت قبلهم قوم نوح )) ونوح هو أوّل الرّسل، أوّل رسول أرسله الله إلى الأرض هو نوح عليه السّلام بدلالة القرآن والسّنّة، قال الله تبارك وتعالى: (( إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وإلى النّبيّين من بعده ))، وقال تعالى: (( ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النّبوّة والكتاب ))، وبهذا نعرف أنّ ما ذكره بعض المؤرّخين من أنّ إدريس هو الجدّ لنوح كذب لا شكّ فيه، وليس قبل نوح رسول، حتّى في حديث الشّفاعة فيه التّصريح أنّه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، ولذلك كان من عقيدتنا أنّ أوّل الرّسل نوح وأنّ آخر الأنبياء محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وهو نبيّ رسول.
(( كذّبت قبلهم قوم نوح )) ولم يفصّل الله عزّ وجلّ هذا التّكذيب، لكنّه أنزل في ذلك سورة تامّة وهي؟
السائل : سورة نوح.
الشيخ : سورة نوح، فصّل الله فيها تفصيلا تامّا في تكذيبهم وأخذهم.
(( فكذّبوا عبدنا )) وهو نوح وصفه الله بالعبوديّة، لأنّ العبوديّة أشرف ألقاب البشر، العبوديّة لله أشرف ألقاب البشر وهي: التّذلّل له بالطّاعة والإنابة والتّوكّل وغير ذلك، وهي ثلاثة أنواع:
عبوديّة عامّة تشمل جميع الخلق وهي: التّذلّل للأمر الكونيّ كقوله تبارك وتعالى: (( إن كلّ مَن في السّماوات والأرض إلاّ آتي الرّحمن عبدًا )) إن كلّ يعني ما كلّ من في السّماوات والأرض إلاّ وهذه حاله أنّه آتي الرّحمن عبدًا وهذه العبوديّة للأمر الكونيّ، لأنّ أمر الله عزّ وجلّ الكونيّ لا أحد يمكنه أن يفرّ منه مهما كانت قوّته.
النّوع الثاني: العبوديّة الخاصّة بالمؤمنين مثل قوله تعالى: (( وعباد الرّحمن الذين يمشون على الأرض هَونًا )) هذه عامّة لكلّ مؤمن.
الثالث: العبوديّة الخاصّة بالأنبياء، وهذه مثل قوله تعالى: (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ))، (( تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ))، (( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ))، ومن ذلك هذه الآية (( فكذَّبوا عبدنا )).
وقد لبث فيهم نوح عليه السّلام ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى الله، لكنّهم كلّما دعاهم إلى الله ليغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قوله واستغشوا ثيابهم حتّى لا يروه، واستكبروا استكباراً، ولا أبلغ من هذا الإستكبار أن يضع الإنسان يده في أذنيه حتّى لا يسمع قول الدّاعي وأن يستغشي ثوبه يتغطّى به حتّى لا يراه.
(( وقالوا مجنون )): المجنون فاقد العقل الذي يهذي بما لا يدري، قالوا إنّه مجنون، هذه القولة قيلت لكلّ الرّسل، قال الله تعالى: (( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون ))، و " أو " هنا إمّا للتّنويع يعني بعضهم يقول ساحر وبعضهم يقول مجنون، أو أنّها للتنويع يعني بمعنى أنّ بعضهم يقول ساحر وبعضهم يقول مجنون، أو أنّهم يقولون هذا وهذا، وعلى كلّ حال فأول ما قيل لنوح أنّه مجنون.
(( وازدجر )): ازدجر: يعني زجر زجرا شديدًا، والزّجر هو النّهر بشدّة وعنف والدّال هنا منقلبة عن تاء وقد قال العلماء: إنّ زيادة المبنى يدلّ على زيادة المعنى، والمعنى أنّه زجر شديد.
وقوله: (( وازدجر )) ينبغي أن لا توصل بما قبلها لأنّك لو وصلت وقلت (( وقالوا مجنون وازدجر )) لتوهّم السّامع أنّهم يقولون: مجنون وازدجر يعني: زجره غيره، لكنّ المعنى خلاف ذلك، فكذّبوا عبدنا، وازدجر، هذا المعنى، كذّبوا وازدجر إذن الأولى أن تقف (( وقالوا مجنون )) ثمّ تصل وتقول: (( وازدجر )) فيكون هنا لم يقتصر هؤلاء المكذّبون على التّكذيب، بل كذّبوا وزجروا وتوعّدوا وسخروا.
لما طال الأمد دعا ربّه: (( أنّي مغلوب فانتصر ))، الله أكبر كلمتان (( أنّي مغلوب فانتصر ))) ولقد دعا أهلًا للإجابة جلّ وعلا، أجاب الله قال: (( ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر )):
(( فتحنا )) وفي قراءة: (( فتّحنا ))، وكلاهما حقّ، وينبغي لمن علم القراءة أن يقرأ بهذه تارة وبهذه تارة بشرط أن لا يكون ذلك بحضرة العوامّ، لأنّ العوامّ لا ينبغي أن تقرأ عليهم بقراءة خارجة عن المصحف الذي بأيديهم فتحدث لهم تشويشاً وربّما تهبط منزلة القرآن مِن نفوسهم، أو ينسبوك إلى الغلط والتّحريف، لكن عند طلبة العلم وعند التّعليم أو فيما بينك وبين نفسك يبنبغي أن تقرأ بالقراءات الثّابتة مرّة بهذه ومرّة بهذه، كما نقول هذا أيضا في العبادات المتنوّعة تفعل هذا مرّة وهذا مرّة كالاستفتاحات ونحوها.
(( ففتحنا أبواب السّماء )) أبواب، كلّ باب في السّماء انفتح.
(( بماء منهمر )) أي: منصبّ صبًّا شديدًا فكان كأفواه القرب ليس كالذّرّات المعروفة، لا، أشدّ.
(( وفجّرنا الأرض عيوناً )) أي: عيونًا من المياه، وتأمّل قوله تعالى: (( وفجّرنا الأرض عيوناً )) ولم يقل: عيون الأرض، كأنّ الأرض كلّها كانت عيوناً متفجّرة، حتى التّنّور الذي هو أبعد ما يكون عن الماء لحرارته ويبوسته صار يفور كنا قال الله عزّ وجلّ: (( حتّى إذا جاء أمرنا وفار التّنّور )).
وفي هذا من الدّلالة على قدرة الله تبارك وتعالى ما لا يخفى، وأنّ هذه الفياضنات التي تحدث الآن ومن قبل الآن إنّما تحدث بأمر الله عزّ وجلّ، وليست كما قال الطّبائعيّون أنّها من الطّبيعة، يقول: هاجت الطّبيعة، غضبت الطّبيعة، وما أشبه ذلك نسأل الله العافية بل هي بأمر من يقول للشّيء كن فيكون.
(( وفجّرنا الأرض عيوناً * فالتقى الماء على أمر قد قدر )) هنا ماءان: ماء نازل من السّماء دلّ عليه قوله: (( ففتحنا أبواب السّماء )) وماء من الأرض نابع دلّ عليه قوله: (( وفجّرنا الأرض عيوناً ))، فلماذا لم يقل فالتقى الماءان؟
لأنّ المراد ماء السّماء وماء الأرض، قال العلماء: إنه أراد الجنس، لأنّ جنس الماء هنا واحد، ماء الأرض وماء السّماء، أو يقال: لأنّه لما كان المقصود بهذين الماءين شيئاً واحداً وهو عذابهم صحّ إفراده.
(( التقى الماء على أمر قد قدر )) أي: على شيء قد قضاه الله تعالى وقدّره في الأزل، فإنّه ما من شيء يحدث إلاّ وهو مكتوب، قال الله تعالى: (( وكلّ شيء أحصيناه في إمامٍ مبين )) يعني من أعمال بني آدم وممّا يقع في الأرض، كلّ شيء محصى، ولهذا قال: (( على أمرٍ قدْ قُدر )).
ثمّ قال الله عزّ وجلّ: (( وحملناه على ذات ألواح ودسر )) إن شاء الله يأتي الكلام عليها في اللّقاء القادم لنتفرّغ إلى الأسئلة ونبدأ باليمين.