تفسير الآيات ( 24 - 30 ) من سورة الرحمن . حفظ
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وأصلّي وأسلّم على نبيّنا محمّد خاتم النّبيّين وإمام المتّقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء التّسعون بعد المائة التي يعبّر عنها بلقاء الباب المفتوح، التي تتمّ كلّ يوم خميس، وهذا الخميس هو اليوم الثامن من شهر رجب عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللّقاء بما اعتدناه من الكلام على آياتٍ من كتاب الله عزّ وجلّ، ابتدأنا بسورة: (( الرّحمن * علّم القرآن )) حتّى انتهينا إلى قوله تعالى: (( وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام )):
وله: أي لله عزّ وجلّ ملكاً وتدبيراً وتيسيراً، الجوار: بحذف الياء بالتّخفيف وأصلها الجواري جمع جارية وهي السّفينة تجري في البحر، كما قال الله عزّ وجلّ: (( ألم تر أنّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله )).
المنشئات: أي: التي أنشأها صانعوها ليسيروا عليها في البحر، وقوله: (( في البحر )): متعلّق بالجوار، أي: الجوار في البحر وليست فيما يظهر متعلّقة بالمنشئات يعني الجواري التي أنشأت في البحر لأنّ السّفن تصنع في البرّ أوّلا ثمّ تنزّل في البحر، وقوله كالأعلام: تشبيه، والأعلام جمع علم وهو الجبل كما قال الشّاعر:
" وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به *** كأنّه علمٌ في رأسه نار ":
أي: كأنّه جبل، ومن شاهد السّفن في البحار رأى أنّ هذا التّشبيه منطبق تمامًا عليها، فهي كالجبال تسير في البحر بأمر الله عزّ وجلّ، وإنّما نصّ الله عليها لأنّها تحمل الأرزاق من جانب إلى جانب، ولولا أنّ الله تعالى يسّرها لكان في ذلك فواتٌ خير كثير للبلاد التي تنقل منها والبلاد التي تنقل إليها.
في هذا العصر جعل الله تبارك وتعالى جواري أخرى لكنّها تجري في الجوّ كما تجري هذه في البحر وهي الطّائرات، فهي مِنّة من الله عزّ وجلّ كمنّته على عباده في جوار البحار.
بل ربّما نقول: إنّ السّيّارات أيضًا من جوار البرّ فتكون الجواري ثلاثة أصناف: بحريّة وبرّيّة وجوّيّة، وكلّها من نعم الله عزّ وجلّ.
ولهذا قال: (( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )) أي: بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبان والخطاب للإنس والجنّ.
ثمّ قال عزّ وجلّ: (( كلّ من عليها فان * ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )):
كلّ من عليها: أي: على الأرض، فان: أي: ذاهب، من الجنّ والإنس والحيوان والأشجار، قال الله تبارك وتعالى: (( إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً * وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزًا )) أي: خالياً، وقال الله تعالى: (( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً )) أي: يذر الأرض قاعاً صفصفاً، أو يذر الجبال بعد أن كانت عالية شامخة قاعاً كالقيعان مساوية لغيرها (( صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أَمْتًا ))
(( ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )) أي: يبقى الله عزّ وجلّ ذو الوجه الكريم، وكان بعض السّلف إذا قرأ هاتين الآيتين وصل بعضهما ببعض، قالوا ليتبيّن بذلك كمال الخالق ونقص المخلوق، لأنّ المخلوق فانٍ والرّبّ باقٍ وهذه ملاحظة جيّدة أن تصل فتقول: (( كلّ من عليها فانٍ ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )) وهذا هو محطّ الحمد والثّناء على الله عزّ وجلّ أن تفنى الخلائق إلاّ الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى: (( ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )) فيه إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى، ولكنّه وجه لا يشبه أوجه المخلوقين لقوله تعالى: (( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير )) يعني: أنت تؤمن بأنّ لله وجهاً لكن يجب أن تؤمن بأنّه لا يماثل أوجه المخلوقين بأيّ حال من الأحوال، لقوله تعالى: (( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير )).
ولما ظنّ أهل التّعطيل أنّ إثبات الوجه يستلزم التّمثيل أنكروا أن يكون لله وجها وقالوا المراد بقوله: (( ويبقى وجه ربّك )) يعني: ثوابه، أو أنّ كلمة وجه زائدة وأنّ المعنى: ويبقى ربّك، ولكنّهم ضلّوا سواء السّبيل، خرجوا عن ظاهر القرآن وحرّفوه وخرجوا عن طريق السّلف الصّالح، ونحن نقول: إنّ لله وجها لإثباته في هذه الآية، لا يماثل وجه المخلوقين لنفي المماثلة في قوله: (( ليس كمثله شيء ))، وبذلك نسلم ونجري النّصوص على ظاهرها المراد بها.
وقوله: (( ذو الجلال )) أي: ذو العظمة، (( والإكرام )) أي: إكرام من يطيع الله عزّ وجلّ كما قال تعالى: (( أولئك في جنّات مكرمون )).
فإذن الإكرام أي: أنّه يكرم من يستحق الإكرام من خلقه، ويحتمل أن يكون لها معنى آخر وهو: أنّه يُكرم من أهل العبادة من خلقه، فيكون الإكرام أي: المصدر صالحاً للمفعول وللفاعل فهو مُكرِم ومُكرَم.
(( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )): وهذه الآية تكرّرت عدّة مرّات في هذه السّورة وبيّنّا معناها: أنّه بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبان يا معشر الجنّ والإنس، وهذا كالتّحدّي لهم، لأنّه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذه النّعم.
ثمّ قال سبحانه وتعالى: (( يسأله من في السّماوات والأرض )) يسأله أي: يسأل الله من في السّماوات والأرض، الذين في السّماوات هم الملائكة، يسألون الله عزّ وجلّ، ومِن سؤالهم أنّهم يستغفرون للذين آمنوا، يقولون: (( ربّنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلمًا فاغفر للذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم )) الآية.
ويسأله من في الأرض من الخلائق، وسؤال أهل الأرض لله عزّ وجلّ قسمان:
الأوّل: السّؤال بلسان المقال، وهذا إنّما يكون من المؤمنين، فالمؤمن يسأل ربّه دائماً حاجاته لأنّه يعلم أنّه لا يقضيها إلاّ الله عزّ وجلّ، وسؤال المؤمن ربّه عبادة، نفس السّؤال عبادة، سواء حصل مقصودك أم لم يحصل، فإذا قلت: يا ربّ أعطني كذا فهذه عبادة كما جاء في الحديث: ( الدّعاء عبادة )، وقال تعالى شاهدًا لهذا الحديث: (( وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين )) فقال: ادعوني ثمّ قال: إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي وهذا دليل على أنّ الدّعاء عبادة، هذا دعاء بلسان المقال.
النّوع الثاني: دعاء بلسان الحال، وهو أنّ كلّ مخلوق مفتقر إلى الله ينظر إلى رحمته، فالكفّار مثلا ينظرون إلى الغيث النّازل من السّماء، وإلى نبات الأرض، وإلى صحّة الحيوان، وإلى كثرة الأرزاق، وهم يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يوجدوا ذلك بأنفسهم فهم إذن يسألون الله بلسان الحال، ولذلك إذا مسّتهم الضرّاء واضطُروا إلى سؤال الله بلسان المقال، سألوا الله بلسان المقال: (( وإذا غشيهم موج كالظّلل دعوا الله مخلصين له الدّين )).
إذن (( يسأله من في السّماوات ومن في الأرض )) من الذي في السماوات؟
السائل : الملائكة.
الشيخ : طيب، الملائكة وضربنا لكم مثلا من أسئلتهم.
من في الأرض؟
الإنس والجنّ، وسؤال أهل الأرض ينقسم إلى قسمين:
بلسان المقال ولسان الحال.
(( كلّ يوم هو في شأن )) ومن يحصي الأيّام؟
لا أحد، إلاّ الله عزّ وجلّ، ومن يحصي الشّهور التي تقع في الأيّام؟
لا أحد إلاّ الله عزّ وجلّ.
(( كلّ يوم هو في شأن )) يغني فقيرًا ويفقر غنيًّا، ويمرض صحيحًا ويشفي سقيمًا، يؤمّن خائفًا ويخوّف آمنًا، وهلمّ جرّا، كلّ يوم يفعل الله تعالى ذلك، وهل هذه الشّؤون التي تتبدّل هل هي عبث أو عن حكمة؟
الأوّل ولاّ الثاني؟
السائل : الثاني.
الشيخ : الثاني، عن حكمة لا شكّ قال الله تعالى: (( أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا ))، وقال تعالى: (( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ))، فنحن نؤمن أنّ الله لا يقدّر قدراً إلاّ لحكمة، لكن قد نعلم هذه الحكمة وقد لا نعلم، ولهذا قال: (( كلّ يوم هو في شأن )).
ولكن اعلم أيّها المؤمن أنّ الله تعالى لا يقدّر لك قدراً إلاّ كان خيراً لك، إن أصابتك ضرّاء؟ ما موقفك يا أخ.
السائل : الصبر.
الشيخ : هاه؟
السائل : الصبر.
الشيخ : الصّبر؟
السائل : نعم.
الشيخ : طيب، إن أصابته ضرّاء صبر وانتظر الفرج، وقال: " دوام الحال من المحال " ، فينتظر الفرج فيكون خيراً له، ( وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وليس هذا لأحد إلاّ للمؤمن ).
(( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )) نقول فيها ما قلنا في الآيات السّابقة: أنّ المعنى بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبان، الجواب؟
السائل : لا نكذب.
الشيخ : لا نكذّب ولاّ نكذّب؟
السائل : لا نكذّب.
الشيخ : لا نكذّب بشيء من نعم الله بل نقول هي من عند الله فله الحمد والشّكر، من نسب النّعمة لغير الله فهو مكذّب؟ نعم مكذّب وإن لم يقل إنّه مكذّب.
قال الله تعالى: (( وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون )) وهذه الآية يعني بها قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدّث أصحابه على إثر مطر كان قال لهم على إثر صلاة الصّبح: ( هل تدرون ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمّا من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ).
ونقتصر على هذا وإلى اللّقاء القادم إن شاء الله تعالى، ونبدأ بالأسئلة.
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء التّسعون بعد المائة التي يعبّر عنها بلقاء الباب المفتوح، التي تتمّ كلّ يوم خميس، وهذا الخميس هو اليوم الثامن من شهر رجب عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللّقاء بما اعتدناه من الكلام على آياتٍ من كتاب الله عزّ وجلّ، ابتدأنا بسورة: (( الرّحمن * علّم القرآن )) حتّى انتهينا إلى قوله تعالى: (( وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام )):
وله: أي لله عزّ وجلّ ملكاً وتدبيراً وتيسيراً، الجوار: بحذف الياء بالتّخفيف وأصلها الجواري جمع جارية وهي السّفينة تجري في البحر، كما قال الله عزّ وجلّ: (( ألم تر أنّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله )).
المنشئات: أي: التي أنشأها صانعوها ليسيروا عليها في البحر، وقوله: (( في البحر )): متعلّق بالجوار، أي: الجوار في البحر وليست فيما يظهر متعلّقة بالمنشئات يعني الجواري التي أنشأت في البحر لأنّ السّفن تصنع في البرّ أوّلا ثمّ تنزّل في البحر، وقوله كالأعلام: تشبيه، والأعلام جمع علم وهو الجبل كما قال الشّاعر:
" وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به *** كأنّه علمٌ في رأسه نار ":
أي: كأنّه جبل، ومن شاهد السّفن في البحار رأى أنّ هذا التّشبيه منطبق تمامًا عليها، فهي كالجبال تسير في البحر بأمر الله عزّ وجلّ، وإنّما نصّ الله عليها لأنّها تحمل الأرزاق من جانب إلى جانب، ولولا أنّ الله تعالى يسّرها لكان في ذلك فواتٌ خير كثير للبلاد التي تنقل منها والبلاد التي تنقل إليها.
في هذا العصر جعل الله تبارك وتعالى جواري أخرى لكنّها تجري في الجوّ كما تجري هذه في البحر وهي الطّائرات، فهي مِنّة من الله عزّ وجلّ كمنّته على عباده في جوار البحار.
بل ربّما نقول: إنّ السّيّارات أيضًا من جوار البرّ فتكون الجواري ثلاثة أصناف: بحريّة وبرّيّة وجوّيّة، وكلّها من نعم الله عزّ وجلّ.
ولهذا قال: (( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )) أي: بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبان والخطاب للإنس والجنّ.
ثمّ قال عزّ وجلّ: (( كلّ من عليها فان * ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )):
كلّ من عليها: أي: على الأرض، فان: أي: ذاهب، من الجنّ والإنس والحيوان والأشجار، قال الله تبارك وتعالى: (( إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً * وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزًا )) أي: خالياً، وقال الله تعالى: (( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً )) أي: يذر الأرض قاعاً صفصفاً، أو يذر الجبال بعد أن كانت عالية شامخة قاعاً كالقيعان مساوية لغيرها (( صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أَمْتًا ))
(( ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )) أي: يبقى الله عزّ وجلّ ذو الوجه الكريم، وكان بعض السّلف إذا قرأ هاتين الآيتين وصل بعضهما ببعض، قالوا ليتبيّن بذلك كمال الخالق ونقص المخلوق، لأنّ المخلوق فانٍ والرّبّ باقٍ وهذه ملاحظة جيّدة أن تصل فتقول: (( كلّ من عليها فانٍ ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )) وهذا هو محطّ الحمد والثّناء على الله عزّ وجلّ أن تفنى الخلائق إلاّ الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى: (( ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام )) فيه إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى، ولكنّه وجه لا يشبه أوجه المخلوقين لقوله تعالى: (( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير )) يعني: أنت تؤمن بأنّ لله وجهاً لكن يجب أن تؤمن بأنّه لا يماثل أوجه المخلوقين بأيّ حال من الأحوال، لقوله تعالى: (( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير )).
ولما ظنّ أهل التّعطيل أنّ إثبات الوجه يستلزم التّمثيل أنكروا أن يكون لله وجها وقالوا المراد بقوله: (( ويبقى وجه ربّك )) يعني: ثوابه، أو أنّ كلمة وجه زائدة وأنّ المعنى: ويبقى ربّك، ولكنّهم ضلّوا سواء السّبيل، خرجوا عن ظاهر القرآن وحرّفوه وخرجوا عن طريق السّلف الصّالح، ونحن نقول: إنّ لله وجها لإثباته في هذه الآية، لا يماثل وجه المخلوقين لنفي المماثلة في قوله: (( ليس كمثله شيء ))، وبذلك نسلم ونجري النّصوص على ظاهرها المراد بها.
وقوله: (( ذو الجلال )) أي: ذو العظمة، (( والإكرام )) أي: إكرام من يطيع الله عزّ وجلّ كما قال تعالى: (( أولئك في جنّات مكرمون )).
فإذن الإكرام أي: أنّه يكرم من يستحق الإكرام من خلقه، ويحتمل أن يكون لها معنى آخر وهو: أنّه يُكرم من أهل العبادة من خلقه، فيكون الإكرام أي: المصدر صالحاً للمفعول وللفاعل فهو مُكرِم ومُكرَم.
(( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )): وهذه الآية تكرّرت عدّة مرّات في هذه السّورة وبيّنّا معناها: أنّه بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبان يا معشر الجنّ والإنس، وهذا كالتّحدّي لهم، لأنّه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذه النّعم.
ثمّ قال سبحانه وتعالى: (( يسأله من في السّماوات والأرض )) يسأله أي: يسأل الله من في السّماوات والأرض، الذين في السّماوات هم الملائكة، يسألون الله عزّ وجلّ، ومِن سؤالهم أنّهم يستغفرون للذين آمنوا، يقولون: (( ربّنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلمًا فاغفر للذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم )) الآية.
ويسأله من في الأرض من الخلائق، وسؤال أهل الأرض لله عزّ وجلّ قسمان:
الأوّل: السّؤال بلسان المقال، وهذا إنّما يكون من المؤمنين، فالمؤمن يسأل ربّه دائماً حاجاته لأنّه يعلم أنّه لا يقضيها إلاّ الله عزّ وجلّ، وسؤال المؤمن ربّه عبادة، نفس السّؤال عبادة، سواء حصل مقصودك أم لم يحصل، فإذا قلت: يا ربّ أعطني كذا فهذه عبادة كما جاء في الحديث: ( الدّعاء عبادة )، وقال تعالى شاهدًا لهذا الحديث: (( وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين )) فقال: ادعوني ثمّ قال: إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي وهذا دليل على أنّ الدّعاء عبادة، هذا دعاء بلسان المقال.
النّوع الثاني: دعاء بلسان الحال، وهو أنّ كلّ مخلوق مفتقر إلى الله ينظر إلى رحمته، فالكفّار مثلا ينظرون إلى الغيث النّازل من السّماء، وإلى نبات الأرض، وإلى صحّة الحيوان، وإلى كثرة الأرزاق، وهم يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يوجدوا ذلك بأنفسهم فهم إذن يسألون الله بلسان الحال، ولذلك إذا مسّتهم الضرّاء واضطُروا إلى سؤال الله بلسان المقال، سألوا الله بلسان المقال: (( وإذا غشيهم موج كالظّلل دعوا الله مخلصين له الدّين )).
إذن (( يسأله من في السّماوات ومن في الأرض )) من الذي في السماوات؟
السائل : الملائكة.
الشيخ : طيب، الملائكة وضربنا لكم مثلا من أسئلتهم.
من في الأرض؟
الإنس والجنّ، وسؤال أهل الأرض ينقسم إلى قسمين:
بلسان المقال ولسان الحال.
(( كلّ يوم هو في شأن )) ومن يحصي الأيّام؟
لا أحد، إلاّ الله عزّ وجلّ، ومن يحصي الشّهور التي تقع في الأيّام؟
لا أحد إلاّ الله عزّ وجلّ.
(( كلّ يوم هو في شأن )) يغني فقيرًا ويفقر غنيًّا، ويمرض صحيحًا ويشفي سقيمًا، يؤمّن خائفًا ويخوّف آمنًا، وهلمّ جرّا، كلّ يوم يفعل الله تعالى ذلك، وهل هذه الشّؤون التي تتبدّل هل هي عبث أو عن حكمة؟
الأوّل ولاّ الثاني؟
السائل : الثاني.
الشيخ : الثاني، عن حكمة لا شكّ قال الله تعالى: (( أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا ))، وقال تعالى: (( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ))، فنحن نؤمن أنّ الله لا يقدّر قدراً إلاّ لحكمة، لكن قد نعلم هذه الحكمة وقد لا نعلم، ولهذا قال: (( كلّ يوم هو في شأن )).
ولكن اعلم أيّها المؤمن أنّ الله تعالى لا يقدّر لك قدراً إلاّ كان خيراً لك، إن أصابتك ضرّاء؟ ما موقفك يا أخ.
السائل : الصبر.
الشيخ : هاه؟
السائل : الصبر.
الشيخ : الصّبر؟
السائل : نعم.
الشيخ : طيب، إن أصابته ضرّاء صبر وانتظر الفرج، وقال: " دوام الحال من المحال " ، فينتظر الفرج فيكون خيراً له، ( وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وليس هذا لأحد إلاّ للمؤمن ).
(( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )) نقول فيها ما قلنا في الآيات السّابقة: أنّ المعنى بأيّ نعمة من نعم الله تكذّبان، الجواب؟
السائل : لا نكذب.
الشيخ : لا نكذّب ولاّ نكذّب؟
السائل : لا نكذّب.
الشيخ : لا نكذّب بشيء من نعم الله بل نقول هي من عند الله فله الحمد والشّكر، من نسب النّعمة لغير الله فهو مكذّب؟ نعم مكذّب وإن لم يقل إنّه مكذّب.
قال الله تعالى: (( وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون )) وهذه الآية يعني بها قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدّث أصحابه على إثر مطر كان قال لهم على إثر صلاة الصّبح: ( هل تدرون ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمّا من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ).
ونقتصر على هذا وإلى اللّقاء القادم إن شاء الله تعالى، ونبدأ بالأسئلة.