تفسير الآيات ( 46 - 61 ) من سورة الرحمن . حفظ
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد خاتم النبيّين وإمام المتقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .
أمّا بعد:
فهذا هو اللّقاء الثّاني والتّسعون بعد المئة من اللّقاءات التي يعبّر عنها بلقاء الباب المفتوح، والتي تتمّ كلّ يوم خميس من كلّ أسبوع، وهذا الخميس هو الثّلاثون من شهر رجب عام 1419 ه.
نبتدأ هذا اللقاء كما هي العادة بالكلام على شيء من آيات الله عزّ وجلّ وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: (( ولمن خاف مقام ربه جنتان )) يعني: أنه من خاف مقام الله بين يدي الله يوم القيامة فإن له جنتين، هذا الخوف يستلزم شيئين:
الشّيء الأوّل: الإيمان بلقاء الله عزّ وجلّ، لأنّ الإنسان لا يخاف من شيء إلاّ وقد تيقّنه.
والثّاني: أن يتجنّب محارم الله وأن يقوم بما أوجب الله خوفاً من عقاب الله تعالى، فعليه يلزم كلّ إنسان أن يؤمن بلقاء الله عزّ وجلّ لقوله تعالى: (( يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحًا فملاقيه ))، وقال تعالى: (( واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين ))، فمن خاف هذا المقام بين يدي الله عزّ وجلّ فله جنّتان.
(( فبأي آلاء ربّكما تكذّبان )) سبق الكلام عليها.
(( ذواتا أفنان )) أي: صاحبتا أفنان، والأفنان جمع فَنَن وهو الغصن أي: أنّهما مشتملتان على أشجار عظيمة ذواتي أغصان كثيرة، وهذه الأغصان كلّها تبهج النّاظرين وفيها من كلّ فاكهة زوجان.
قال: (( فيهما عينان تجريان )) فيهما أي: الجنتين عينان تجريان، وقد ذكر الله تعالى أنّ في الجنّة أنهاراً من أربعة أصناف فقال جلّ وعلا: (( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ))، والعينان اللّتان تجريان يظهر والله أعلم أنّهما سوى هذه الأنهار الأربعة.
وقوله: (( فيهما من كلّ فاكهة زوجان )) أي: في هاتين الجنّتين من كلّ فاكهة، والفاكهة : كلّ ما يتفكّه الإنسان به مذاقا، ونظرا، وشمّا، فيشمل أنواع الفاكهة الموجودة في الدّنيا وربّما يكون هناك فواكه أخرى ليس لها نظير في الدنيا.
(( فبأي آلاء ربّكما تكذّبان * متّكئين على فرش بطائنها من إستبرق )) يعني: يتنعمون بهذه الفاكهة حال كونهم متّكئين، وعلى هذا فكلمة متّكئين تكون حالاً من فاعل الفعل المحذوف، أي: يتنعّمون أو يتفكّهون متّكئين، والإتّكاء قيل: إنّه هو التّربّع، لأنّ الإنسان أريح ما يكون إذا كان متربّعا.
وقيل: متّكئين أي معتمدين على مساند من اليمين، والشّمال، ووراء الظّهر.
(( على فرش )) يعني جالسين على فرش.
(( بطائنها من استبرق )) يعني: بطانة الفراش و هو ما يدحى به الفراش من استبرق، وهو غليظ الدّباج.
وأمّا أعلى هذه الفرش فهو من سندس وهو رقيق الدّيباج وكلّه من الحرير.
(( وجنى الجنّتين دان )) تأمّل أو تصوّر هذه الحال إنسان متّكأ، مطمئنّ، مستريح، يريد أن يتفكّه من هذه الفواكه، هل يقوم من مكانه الذي هو مستقر فيه متكأ فيه ليتناول الثّمرة؟
لا، بيّن الله ذلك بقوله: (( وجنى الجنّتين دان )) قال أهل العلم: إنّه كلّما نظر إلى ثمرة وهو يشتهيها انهزع الغصن حتّى كانت الثّمرة بين يديه، لا يحتاج إلى تعب وإلى قيام، بل هو متّكأ ينظر إلى الثّمرة مشتهيًا إيّاها فتتدلّى له بأمر الله عزّ وجلّ، مع أنّها جماد، لكنّ الله تعالى أعطاها إحساسًا بأن تتدلّى عليه إذا اشتهى، ولا تستغرب الآن كلّ الأشجار في الغالب تستقبل الشّمس، انظر إلى وجوه الأوراق في أوّل النّهار تجدها متّجهة إلى المشرق في آخر النّهار تتّجه إلى المغرب، فيها إحساس، كذلك أيضاً (( جنى الجنّتين دان )) قريب، يحسّ إذا نظر إليه الرّجل أو المرأة فإنه يتدلّى حتّى يكون بين يديه.
(( فبأي آلاء ربّكما تكذبان * فيهنّ قاصرات الطّرف )):
فيهنّ: أكثر الناس يقول إن الضمير يعود إلى الجنّتين، وأنّ الجمع باعتبار أنّ لكلّ واحد من النّاس جنّة خاصّة به فيكون فيهنّ أيّ: في جنة كل واحد ممّن هو في هاتين الجنّتين قاصرات الطّرف، وعندي أنّ قوله: (( فيهنّ )) يشمل الجنات الأربع، هاتين الجنّتين، والجنّتين اللّتين بعدهما.
(( قاصرات الطرف )): يعني أنّها تقصر طرفها أي: نظرها على زوجها فلا تريد غيره هذا وجه، وجه آخر قاصرات الطرف أي أنّها تقصر طرف زوجها عليها فلا يريد غيرها، وعلى القول الأوّل يكون قاصرات مضافة إلى الفاعل، وعلى الثّاني مضاف إلى المفعول، يعني أنّ طرفهنّ قاصر على الأزواج أو أنّها قاصر طرفه عليها.
(( لم يطمثهن قبلهم ولا جآن )) لم يطمثهن يعني أي: لم يجامعهنّ، وقيل إنّ الطّمث مجامعة البكر، والمعنى أنّهنّ أبكار لم يجامعهنّ أحد من قبل لا إنس ولا جنّ، وفي هذا دليل واضح على أن المؤمنين من الجنّ يدخلون الجنّة.
(( كأنّهنّ الياقوت والمرجان )) أي: في الحسن والصّفاء كالياقوت والمرجان، وهما جوهران نفيسان.
الياقوت في الصّفاء، والمرجان في الحمرة، يعني أنّهنّ مشرباة بالحمرة مع صفاء تام.
ثم قال عزّ وجلّ: (( هل جزآء الإحسان إلاّ الإحسان )) يعني ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان، الإحسان الأوّل العمل والإحسان الثّاني الثّواب، يعني ما جزاء إحسان العمل إلاّ إحسان الثّواب.
(( فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان )) ويأتي إن شاء الله الكلام على الجّنتين الأخريين نبدأ بالأسئلة.