تفسير الآيات ( 83 - 96 ) من سورة الواقعة . حفظ
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أمّا بعد :
فهذا هو اللقّاء السّادس بعد المائتين من اللّقاءات التي تسمّى لقاء الباب المفتوح، التي تتمّ كلّ يوم خميس، وهذا الخميس هو الثاني عشر من شهر صفر عام عشرين واربعمائة وألف نبتدأ هذا اللّقاء كالعادة بتفسير آيات من كتاب الله عزّ وجلّ
وانتهينا إلى قول الله تعالى في سورة الواقعة: (( فلولا إذا بلغت الحلقوم* وأنتم حينئذ تنظرون* ونحن أقرب إليهم منكم ولكن لا تبصرون* فلولا إن كنتم غير مدينين* ترجعونها إن كنتم صادقين ))
(( فولا إذا بلغت )) أي الرّوح والذي يعيّن المرجع هنا السّياق كما في قول الله تبارك وتعالى: (( إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي حتى توارت بالحجاب )) توارت أي الشّمس، ولم يسبق لها ذكر لكن السّياق يدلّ على ذلك، فمرجع الضّمير تارة يكون مذكورا وتارة يكون معلوما إما بالسّياق وإمّا بشيء آخر، والحلقوم هو مجرى النّفس، وفي أسفل الرّقبة أو في جانب الرّقبة في الأسفل مجريان: مجرى النّفس ومجرى الطّعام والشّراب، مجرى الطّعام والشّراب يسمّى المريء ومجرى النّفس الحلقوم، وهو عبارة عن خرزات دائريّة ليّنة منفتحة، أمّا المريء فإنه بالعكس، فإنّه كواحد من الأمعاء لأنّ وجه ذلك أنّ مجرى النّفس لا بدّ أن يكون مفتوحا لأنّ النّفس لو كان مجراه مغلقا لكان شديدا أي لكان التّنفس شديدا ولكن من رحمة الله جعل الله هذا مثل الماسورة لكنّه ليّن خرزات مستديرة حتى يهون على المرء رفع رأسه وتنزيل رأسه، أمّا المريء فهو مثل الأمعاء العاديّة والطّعام والشّراب قوي يفتحه عند النّزول إليه، وذكر الله الحلقوم دون المريء لأنّ الحلقوم هو مجرى النّفس وبانقطاعه يموت الإنسان، يعني إذا بلغت الحلقوم الرّوح وهي صاعدة من أسفل البدن إلى هذا الموضع وحينئذ تنقطع العلائق من الدّنيا ويعرف الإنسان أنّه أقبل على الآخرة وانتهى من الدّنيا.
(( وأنتم حينئذ تنظرون )): أي تنظرون إلى الميّت وما يعانيه من المشاقّ والسّكرات ولا تستطيعون أن تردّوا ذلك عنه ولو كنتم أقرب قريب إليه، وأحبّ حبيب إليه، فإنّه لا يقدر أحد على منع الرّوح إذا بلغت الحلقوم.
(( ونحن أقرب إليه منكم )) يعني أنّ الله تعالى أقرب إلى الحلقوم من أهله إليه، ولكن المراد أقرب بملائكتنا ولهذا قال: (( ولكن لا تبصرون )) والله تعالى يضيف الشّيء إلى نفسه إذا قامت به ملائكته لأنّ الملائكة رسله عليهم السّلام، وليس هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه ولكنه من باب تفسير الشّيء بما يقتضيه السّياق
أتدرون لماذا قلت هذا؟ لأنّه ربّما يقول قائل إنّ ظاهر الآية: (( نحن أقرب إليه منكم )) أنّ الأقرب هو الله عزّ وجلّ، فلماذا تحرّفونه؟ نقول نحن لا نحرّفه بل فسّرناها بما يقتضيه ظاهرها لأنّ الله قال: (( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون )) ومعلوم أنّ الله لم يكن في الأرض حتى يكون المانع من ذلك من رؤيته أنّنا لا نبصره، إذن هم الملائكة، لكنّنا لا نبصرهم فإذا قلتم كيف يضيف الله الشّيء إلى نفسه والمراد الملائكة؟ قلنا لا غرابة في ذلك، فإنّ الله يضيف الشّيء إلى نفسه وهو من فعل الملائكة لأنّهم؟ أجيبوا؟
الطالب : رسله.
الشيخ : رسله، ففعلهم فعله، ألم تر إلى قول الله تبارك وتعالى: (( لا تحرّك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه )) إذا قرأناه المراد قرأه؟ جبريل، وليس قرأه الله، لكنّه أضاف فعل جبريل إليه لأنّه بأمره وهو الذي أرسله به، إذن: (( فلولا إذا بلغت الحلقوم )) أي بلغت روح المحتضر الحلقوم صاعدة من أسفل البدن وأنتم أيّها الأقارب والأصدقاء تنظرون
حينئذ (( ونحن أقرب إليه منكم )) يعني ملائكتنا أقرب إليه منكم لأنّهم حضروا لقبض الرّوح، والله تبارك وتعالى قد حفظ الإنسان في حياته وبعد مماته، في حياته هناك ملائكة يحفظونه من أمر الله، بعد مماته ملائكة يقبضون روحه ويحفظونها لا يفرّطون فيها إطلاقا فهم قريبون من الميّت ولكنّنا نحن لا نبصرهم لأنّ الملائكة عالم غيبيّ لا يرون.
(( فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها )): أي فهلاّ إن كنتم غير مجزيّين أي غير مبعوثين ومجازين على أعمالكم ترجعونها إن كنتم صادقين؟ الجواب لا يمكن، وحينئذ يجب أن تصدّقوا بالبعث والجزاء لأنّكم لا تقدرون على ردّ الرّوح حتى لا تجازوا فأيقنوا بالبعث
ثمّ قسّم الله تعالى المحتضرين إلى ثلاثة أقسام فقال: (( فأمّا إن كان من المقرّبين فروح وريحان وجنّة نعيم )) اللهمّ اجعلنا منهم.
الطالب : آمين.
الشيخ : أمّا إن كانوا من المقرّبين وهم الذين أتوا بالواجبات وتركوا المحرّمات وأتوا بالمستحبّات وتنزّهوا عن المكروهات أي أكملوا دينهم، والمقرّبون هم السّابقون السّابقون الذين ذكروا في أوّل السّورة، السّابقون إلى الخيرات
(( فروح وريحان وجنّة نعيم )) اختلف المفسّرون في قوله فروح، فقيل فراحة، لأنّ المؤمن وإن كان يكره الموت لكنّه يستريح به لأنّه يبشّر عند النّزع بروح وريحان وربّ غير غضبان فيسرّ ويبتهج ولا يكره الموت حينئذ بل يحبّ لقاء الله عزّ وجلّ وهذا لا شكّ راحة له من نكد الدّنيا ونصبها وهمومها وغمومها، وقيل الرّوح بمعنى الرّحمة كما قال الله تعالى عن يعقوب حين قال لبنيه: (( يا بنيّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله )) أي من رحمته، وهذا المعنى أعمّ من الأوّل لأنّ الرّحمة أعمّ من أن تكون راحة أو راحة مع حصول المقصود وإذا كان المعنى أعمّ كان حمل الآية عليه أولى، إذن فروح أي رحمة، ومن الرّحمة؟ أجيبوا؟
الطالب : الرّاحة.
الشيخ : الرّاحة، طيب
(( وريحان وجنّة نعيم )) قيل المراد بالرّيحان كلّ ما يسرّ النّفس وليس خاصّا بالرّيحان ذو الرّائحة الجميلة أو الطّيّبة بل كلّ ما فيه راحة النّفس ولذّتها من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح ومشموم، وقيل المراد بالرّيحان الرّائحة الطّيّبة كالرّيحان المعروف أيّهما أشمل؟
الطالب : الأوّل.
الشيخ : الأوّل أشمل فتحمل الآية عليه، (( وجنّة نعيم )) أي جنّة ينعّم بها وهي الدّار التي أعدّها الله لأوليائه جعلني الله وإيّاكم منهم.
الطالب : آمين.
الشيخ : جنّة نعيم، ينعم الإنسان فيها ببدنه وقلبه فهو لا يتعب ولا ينصب ولا يمرض وهو لا يحزن ولا يهتم ولا يغتمّ بل هو في نعيم دائم، الدّنيا فيها نعيم لكنّ نعيمها منغّص على حدّ قول الشّاعر:
" فيوم علينا ويوم لنا *** ويوم نساء ويوم نسرّ "
وهكذا الدّنيا إذا سررت يوما فاستعدّ للإساءة من غده، وإذا أسئت يوما فقد تنعم في الثاني أو لا، على كلّ حال نعم الجنّة في الآخرة دار نعيم في القلب ونعيم في البدن، وأمّا إن كان من أصحاب اليمين وهم الذين أتوا بالواجبات وتركوا المحرّمات لكنّ فيهم نقصا في المستحبّات والتّنزّه عن المكروهات
(( فسلام لك من أصحاب اليمين )) سلام أي سلامة، لك: أي أيّها المحتضر، (( من أصحاب اليمين )) أي أنت من أصحاب اليمين، والمعنى فسلام لك حال كونك من أصحاب اليمين، الأوّلون من هم؟
الطالب : المقرّبون.
الشيخ : المقرّبون الذين هم السّابقون، هؤلاء أصحاب اليمين لا سابقين ولا مخذولين بين بين، لكنّهم ناجون من العذاب، ولهذا قال: (( فسلام لك من أصحاب اليمين )).
القسم الثالث: (( وأمّا إن كان من المكذّبين الضّالّين )) المكذّبين بالخبر، الضّالّين في العمل فلا تصديق ولا التزام مثل من؟ الكفّار، كلّ كافر داخل في هذه الآية حتّى المنافق (( فنزل من حميم )) أي فله نزل من حميم، والنّزل بمعنى الضّيافة التي تقدّم للضّيف أوّل ما يقدم هؤلاء والعياذ بالله حظّهم هذا النّزل: نزل من حميم، الحميم هو شديد الحرارة
(( وتصلية جحيم )) أي يصلون الجحيم فيخلّدون فيها والجحيم من أسماء النّار أعاذنا الله وإيّاكم منها
(( إنّ هذا لهو حقّ اليقين )) إنّ هذا المذكور لكم وهو انقسام النّاس إلى هذه الأقسام الثلاثة لهو حقّ اليقين أي اليقين المحقّق المتأكّد، وصدق الله عزّ وجلّ، لا يمكن أن يخرج النّاس عن هذه الأقسام الثّلاثة وهي الأخ؟
الطالب : المقرّبون ...
الشيخ : نعم، المقرّبون وأصحاب اليمين والمكذّبون الضّالّون لا يمكن يخرجوا عن هذا
(( فسبّح باسم ربّك العظيم )) سبّح بمعنى نزّه والذي يُنَزَّه الله عزّ وجلّ عنه كلّ نقص وعيب، أو مماثلة للمخلوق، فهو منزّه عن كلّ نقص لكمال صفاته وعن مماثلة المخلوق، قال الله تعالى: (( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ))، وقال تعالى: (( ولقد خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب )) أي من تعب وإعياء
وقوله باسم ربّك، قيل إنّ الباء زائدة وإنّ المعنى سبّح اسم ربّك كما قال تعالى: (( سبّح اسم ربّك الأعلى )) وقيل إنّها ليست بزائدة وأنّ المعنى سبّح الله باسمه فلا بدّ من النّطق بالتّسبيح فتقول سبحان الله! أمّا لو نزّهته بقلبك فهذا لا يكفي فعلى هذا تكون الباء للمصاحبة يعني سبّح الله نعم تسبيحا مصحوبا باسمه (( باسم ربّك العظيم )) الرّبّ هو الخالق المالك المدبّر، والعظيم ذو العظمة والجلال جلّ وعلا
هذه السّورة لو لم ينزل في القرآن إلاّ هي لكانت كافية في الحثّ على فعل الخير وترك الشّرّ
ذكر الله تعالى في أوّلها يوم القيامة (( إذا وقعت الواقعة )) ثمّ قسّم النّاس فيها إلى كم؟ ثلاثة أقسام: السّابقون وأصحاب اليمين، وأصحاب الشّمال، ثمّ ذكر الله في آخرها حال الإنسان عند الموت وقسّم كلّ النّاس قسمهم إلى ثلاثة أقسام: مقرّبون، وأصحاب يمين، ومكذّبون ضالّون، فهي قد اشتملت على كلّ شيء، وكما ذكر الله في ابتداء الخلق في قوله: (( أرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه )) والرّزق من طعام وشراب وما يصلحهما فهي سورة متكاملة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتدبّرها إذا قرأها كما يتدبّر سائر القرآن، لكن هي اشتملت على معانٍ عظيمة، وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السّورة نبدأ الأسئلة من اليمين.