ذكر مثال عن الحديث الشاذ. حفظ
الشيخ : أضرب لكم مثلا للحديث الشاذ من باب كما يقال " رمي عصفورين بحجر واحد " أول ذلك التمثيل للحديث الشاذ وثاني ذلك التنبيه على ضعف هذه الزيادة لأنها قد وردت في أحد الصحيحين ألا وهو حديث مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوما هذا القول صحيح لكن الشاهد فيما يأتي ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب وجوههم كالقمر ليلة البدر ) قال عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ثم دخل حجرته فأخذ أصحابه يتظننون ويتحزرون بينهم من يكون هؤلاء الذين يغبطون حيث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وجوههم كالقمر ليلة البدر بعضهم يقول من يكون هؤلاء إلا المهاجرون الذين هاجروا من مكة وهربوا بدينهم إلى المدينة أو غيرها كالحبشة وبعضهم يقول إنما هم الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة العسرة وبعضهم يقول لا هؤلاء ولا هؤلاء وإنما هم أبناؤهم الذين يأتون من بعدهم يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يروه فما كادوا أن يتموا تحزّرهم هذا حتى طلع عليهم الرسول عليه السلام ليتم لهم حديثه الأول فقال ( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) فقام رجل من الصحابة اسمه عكاشة ويجوز عكّاشة قال " يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم " قال ( أنت منهم ) فقام آخر فقال قولة الأول " ادع الله أن يجعلني منهم " قال ( سبقك بها عكاشة ) هذا الحديث بهذا السياق صحيح متفق عليه بين الشيخين أين الشذوذ؟ تفرّد مسلم في رواية له بقوله في وصف أولئك السبعين ألف ( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ) فماذا زاد؟ ( يرقون ) قال ( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ) الحديث المتفق بين الشيخين دون زيادة لا يرقون وإنما هو بلفظ هم الذين لا يسترقون تفرد مسلم في إحدى روايتيه بقوله ( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ) هل في سند الإمام مسلم لهذه الزيادة من يستحق أن يوصف بالضعف أو أن يوصف حديثه بالنكارة؟ الجواب لا كل رواته عنده من شيخه إلى صحابي الحديث كلهم ثقات بل وحفّاظ من أين جاء ضعف هذه الزيادة؟ ( لا يرقون ) من تفرّد شيخ لمسلم هو الإمام الحافظ سعيد بن منصور الذي طبع بعض أجزاء كتابه السنن في الهند هذا الحافظ سها فجاء بهذه الزيادة ( لا يرقون ) كيف حكمنا على هذا الحافظ بأنه سها ولم يحفظ وهو ضد الصفة التي وصف بها هذا الإمام عند جميع المحدثين فهو من أوائل من ذكرهم الحافظ النَّقاد الذهبي الدمشقي في كتابه تذكرة الحفاظ فكيف استطعنا أن نحكم بأن زيادة هذا الحافظ في خصوص هذا الحديث زيادة شاذة وأقولها بصراحة لم أجد من أستشهد به على حكمي على هذه الزيادة بأنها زيادة شاذة حينما درّست هذا الحديث في الجامعة الإسلامية قبل نحو أكثر من ثلاثين سنة ثم لما حصّلت نسخة من كتاب الفتاوي للإمام ابن تيمية رحمه الله وجدته يقول بأن هذه الزيادة إسنادها ضعيف هكذا فاطمأننت بعض الشيء لحكمي هذا ولكنني ازددت علما ويقينا لصحة حكمي لأنني اعتمدت في ذلك على ما عليه علماء الحديث وعلى ما هو الراجح عند علماء الحديث أن زيادة الثقة ليست مقبولة على الإطلاق وإنما إذا تساويا الثقتان فزاد أحدهما فزاد أحدهما على الآخر هنا يقال زيادة الثقة مقبولة هنا ليس الأمر كذلك لأن هذا الحديث مداره في ما أذكر على راوٍ اسمه عبد الرحمن بن أبي حصين وعليه دارت الطرق فالطرق كلها جاءت عنه بإسناده الصحيح إلى ابن عباس في هذا الحديث باللفظ الثاني ( هم الذين لا يسترقون ) تفرد سعيد بن منصور دون هؤلاء الحفاظ الذين رووا الحديث الآن تذكرت شيئا فاتني من طريق هشيم عن عبد الرحمن بن أبي حصين فتفرّد سعيد بن منصور بهذه الزيادة عن هشيم وهشيم هذا من الحفاظ أيضا فاطمأننت لحكمي وظننت أن قول ابن تيمية كان قولا ليس فيه الفحص الدقيق أطلق الضعف ولم يبين السبب فقد يشكل على طالب العلم حينما يجد هذا الحديث في صحيح مسلم ومع ذلك يقول ابن تيمية إنه حديث ضعيف أو إسناده ضعيف لكن إذا عرف تفصيل سبب الضعف زال ما يشكل على نفسه وكما قيل " إذا عرف السبب بطل العجب " فإذن صحة الحديث ( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) هذا بيان ضعف هذه الزيادة من حيث إسنادها ثم يأتي شيء آخر يسمى عند المحدثين بنقد السند ويسمى عند الأوروبيين مع الأسف الذين استفادوا من علمنا أكثر من كثير من أصحابنا وأهلنا لأنهم عرفوا قيمة هذا العلم حتى صرّح بعض كفارهم أن الأمة الإسلامية تفرّدت بهذه المنقبة وهي وجود الأسانيد في كل الروايات التي تروى عن نبيهم صلى الله عليه وسلم دون الأمم كلها قديمها وحديثها ولذلك بدأ بعضهم يدرسون هذا العلم فاصطلحوا هم اصطلاحا جديدا فيه معنى جديد لا ينافي الإصطلاح القديم، الإصطلاح القديم يقول نقد السند ونقد المتن هم قالوا النقد الداخلي أو النقد الخارجي فالنقد الخارجي هو السند والنقد الداخلي هو المتن فأنا أقول الآن بعد أن نقدنا إسناد هذا الحديث وهو النقد الخارجي نعود الآن إلى بيان أن في المتن نقدا داخليا أي حتى لو كان إسناد هذا الحديث صحيحا فسينقلب النقد الخارجي إلى نقد داخلي سينقلب النقد من نقد السند لأنه لا نقد فيه إلى نقد المتن لأن فيه نكارة وشذوذا إذا ما عرضنا هذا المتن على بقية الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخفى على الجميع أن الفرق بين هذين اللفظين ظاهر جدا ( هم الذين لا يرقون ) أي غيرهم الرقية تصدر من عندهم وتصب على غيرهم هذا معنى لا يرقون ( ولا يسترقون ) أي لا يطلبون الرقية من غيرهم ففرق واضح بين معنى اللفظين فإذا أردنا أن نتأمل في معنى اللفظ الأول نجده يتباين ويتنافر مع سنته عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية التطبيقية فأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقي وكان بصورة خاصة يرقي ولديه الحسن والحسين فيقول لهما إذا ما رآهما واضعا يديه على رأسيهما ( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة وعين لامة ) فكيف يصح والحالة هذه وهذا مثال أن يقول الرسول في وصف السبعين ألف بأنهم لا يرقون غيرهم هذا معنى منبوذ مرفوض لمواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رقية الآخرين فهل هو ليس من السبعين ألف؟ هذا غير منطقي وغير شرعي هذا فعله أما قوله فهو ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وقد سئل عن رقى يتداولها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فقال ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) إذن هنا أمر بأن يرقي المسلم أخاه برقية مشروعة لعله ينتفع به أخوه كيف يكون من صفات السبعين ألف أنهم لا يرقون غيرهم؟ فثبت أن هذه الزيادة زيادة شاذة سندا ومتنا وبذلك يظهر الفرق بين زيادة الثقة مقبولة وبين أن الحديث الشاذ ليس مقبولا، باختصار أقول زيادة الثقة مقبولة حينما يكون أحدهما كالآخر في الثقة فإذا زاد أحد الثقتين المتساويين في الثقة والعدالة على أحدهما قبلت زيادته أما إذا كان أحدهما أحفظ من الآخر والآخر دون الأول في الحفظ حينئذ ترفض الزيادة لأنه زاد على الثقة والمفروض في الثقة الحافظ الأضبط أن يكون أحفظ من الذي هو دونه في الحفظ والضبط فإذا ما عكسنا الموضوع وقلنا تقبل زيادة الثقة مطلقا لزمنا حين ذاك الغمز فيمن كان هو الأحفظ ومن باب أولى كما يقال لزمنا حين ذاك أن نخطّئ جماعة الحفاظ الذين رووا الحديث دون هذه الزيادة ورواها ذلك الثقة متفردا بها هنا لا مناص ولابد من توهيم أو تخطئة أحد الصنفين إما أن نوهّم الثقة الفرد الذي زاد على الجماعة أو على الأحفظ والأضبط وإما أن نثق بهؤلاء وننسبهم إلى الضبط والحفظ كما هو شأنهم ووصفهم ونخطئ الثقة الواهم وإذا دار الأمر بين مفسدتين هذه قاعدة أصولية ليس لها علاقة بالحديث لكنها تنفعنا أيضا في علم الحديث إذا دار الأمر بين مفسدتين لابد للمسلم أن يقع في أحدهما فحين ذاك يختار أقلهما شرا فالأقل شرا أن نوهّم ونخطئ الثقة من أن نوهم الأوثق أو الأكثر حفظا هذا خلاصة ما ذكرنا.