الحافظ ابن حجر ذكر الأعمش في الطبقة الثانية في طبقات المدلسين مع أنّه اشتهر الآن أنّه مدلس فإذا عنعن فلا يقبل تحديثه فإنّ ابن حجر ذكره في طبقة المقبولين هذا أولا والثاني أبو الزبير المكي فإن بعضهم نقل كثيرا عن حفاظ المتقدمين ما أحد منهم ذكر أنّه مدلس إلى عصر الدراقطني والنسائي ويعتبرون من المتأخرين بالنسبة لهم فهؤلاء أول من ذكر أنّه يدلس فما رأيك في هذا ؟ حفظ
السائل : أولا عن الأعمش، الحافظ ابن حجر ذكر الأعمش في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين مع أنه يشتهر الأن أنه يعني مدلس فإذا عنعن فلا يُقبل سماعه أو تحديثه بينما الحافظ ابن حجر ذكره في طبقة المقبولين، هذا أولا والثاني عن أبي الزبير المكي الذي ممدوح هذا الذي رد عليك في "تنبيه المسلم" نقل كثيرا عن الحفاظ المتقدمين أنه ما أحد منهم ذكر أنه مُدلس إلى عصر الدارقطني والنسائي ويعتبرون من المتأخّرين بالنسبة له، فهؤلاء هم أول من ذكر أنه يُدلس فما رأيك في هذا؟
الشيخ : جوابي على هذا بناء على القواعد الحديثية أو بناء على بعض القواعد الحديثية التي منها " من حفظ حجة على من لم يحفظ " ومنها " الجرح مُقدّم على التعديل " والتدليس جرح معروف واضح ليس جرحا مُبهما فإذا جمعنا بين هاتين القاعدتين سقط الاحتجاج بأن المتقدّمين ما وصفوا فلانا بالتدليس وإنما بعض المتأخّرين لأن الجواب سنقول عليه، هل هذا الجرح صحيح أم مخالف للواقع؟ مخالف لمن تقدّم، هذا صحيح لأنهم لم يذكروا فيه تدليسا، لكن بعض من تأخّر من الحفاظ قد ذكروا فيه أعني في الراوي فلان أو فلان لا يهمنا الأن التحديد، قد ذكروا فيه تدليسا، فمن حفظ حجة على من لم يحفظ والتدليس علّة وجرح مُفسّر فينبغي الاعتماد على هذا الجرح ولو صدر من بعض الحفّاظ المتأخّرين.
وبخصوص الشخصين المذكورين أنفا الأعمش وأبي الزبير، الأعمش قد وُصِف بالتدليس فعلا ولكن لكثرة حديثه قد سلّك صاحبا الصحيحين حديثه مسلك الاعتماد على حديثه ولو كان حديثه معنعنا لأن تدليسه بجانب كثرة حديثه قليل جدا.
ومع ذلك فعلماء الحديث حينما يصنّفون المدلسين بتلك الطبقات كما أشرتَ عن الحافظ ابن حجر فهذا بالنسبة لبحثهم واستقراءهم لكن لا يعنون بذلك أن هذا المدلس الذي وضعه ابن حجر مثلا في المرتبة الثانية لا يكون تدليسه أحيانا سبب ضعفٍ في الحديث لكن الأصل أنهم يُسلكون تدليسه إلا إذا بدا لهم أن في حديث ما رووْه إشكالا من الناحية الشرعية كأن يكون مثلا فيه نكارة في المتن فيحاولون أن يجدوا في إسناد هذا الحديث الذي فيه نوع من النكارة فيبحثون بدقة متناهية فيقفون عند هذه العنعنة، هنا يقولون عنعنة هذا الإسناد هو تدليس الأعمش، فإذًا هم يغضّون النظر عن تدليسه غالبا ويعلّلون بتدليسه بعض الأحاديث أحيانا إذا ما تبيّن لهم أن في المتن شيء من النكارة تدل عليه عمومات الشريعة.
أما بالنسبة لأبي الزبير، أبو الزبير هذا قد روى له مسلم كثيرا عن جابر رضي الله عنه وقد وُصِف بالتدليس إلا في ما إذا روى الليث ابن سعد عنه فيُحمل على السماع لما ثبت عند المحدّثين أن الليث بن سعد وهو إمام من أئمة المسلمين قُرِن مع الإمام مالك رحمه الله بل فضّله بعضهم عليه في الحديث والفقه إلا أن بعض الأذكياء قال الفرق بينهما أن أصحاب مالك حفظوه بالعناية بأحاديثه وبفقهه أما أصحاب الليث فضيّعوه ولذلك لم يشتهر اشتهار الإمام مالك وإلا هو مثله أو هو أجلّ منه، الليث بن سعد هذا وهو مصري مشهور بالجلالة والفقه والعلم تنبّه لتدليس أبي الزبير قديما.
ولذلك جاءه فسأله سؤالا صريحا ومثل هذا قلما نجده في الرواة الذين وصفوا بالتدليس سواء كان الواصفون له به قدامى أو محدثين، لا نجد هذا الجواب، هذا السؤال الصريح يُوجّه إليه بصراحة فيقول الليث ابن سعد لأبي الزبير هذه الأحاديث التي ترويها عن جابر كلها سمعتَها منه؟ قال لا، وهذا من إنصاف أبي الزبير وهذا مما نجّاه من أن يُسقِط علماء الحديث عدالته فكان عندهم ثقة ولكنه لما صرّح بأن هذه الأحاديث التي يرويها عن جابر بعضها سمعها منه والبعض الأخر لم يسمعها منه صنّفوه في زمرة المدلسين، وانتبه كما قلت لذلك الليث بن سعد فسأله ذلك السؤال فأجاب بصراحته المذكورة هنا أنه لم يسمع كل الأحاديث التي يرويها عن جابر، قال فعلِّم لي على الأحاديث التي سمعتها منه فعلّمها له فكان الليث بن سعد يروي عن أبي الزبير الأحاديث التي سمعها عن جابر.
وإذ الأمر كذلك فالعلماء النقاد كالدارقطني وغيره إذا وجدوا حديثا في "صحيح مسلم" من رواية أبي الزبير عن جابر بل بعضهم ومن روايته عن غير جابر يتوقّفون عن الاحتجاج به لما ثبت أنه لم يسمع كل أحاديث أبي الزبير.
وإخراج مسلم لأحاديث أبي الزبير لا يستلزم الحقيقة التالية التي يغفُل عنها ذاك المعتدي المصري، وهذه الحقيقة هي ليس عندنا ما يدلنا على أن أبا الزبير كان عند الإمام مسلم معروفا بالتدليس ومع ذلك روى عنه، فلا يصح والحالة هذه أن يُقال إن تدليس أبي الزبير غير ثابت لرواية الإمام مسلم عنه عن جابر لأننا نقول كما قلنا في مطلع هذا الجواب " من حفظ حجة على من لم يحفظ " ولذلك صرّح بعض النقّاد المتأخّرين الجامعين للاطلاع على أقوال المتقدمين والمتأخّرين في الرواة ألا وهو الإمام الذهبي حيث قال لما ترجم لأبي الزبير ووثّقه وبيّن أنه مُتهم بالتدليس قال ففي القلب فيما يرويه الإمام مسلم عن أبي الزبير عن جابر شيء، لماذا؟ لأنه ثبت وصفه بالتدليس وليس جرحا مرفوضا بل هو جرح مقبول، على ذلك جرى بعض الحفّاظ الذين تلوا الطبقة الأتية بعد الإمام الدارقطني وأمثاله على إعلال أحاديث أبي الزبير عن جابر بالتدليس، في مقدمتهم عبد الحق الإشبيلي الأندلسي فإنه كثيرا ما يُعلّل الأحاديث المرويّة عن أبي الزبير عن جابر بالتدليس في كتابه "الأحكام" وله ثلاثة كتب "الأحكام الكبرى" و "الأحكام الوسطى" و "الأحكام الصغرى" أصل هذه الكتب الثلاثة أولها، "الأحكام الكبرى" وهو كتاب جامع من أحسن الكتب التي تُساعد الباحثين والمحقّقين على التحقيق في الأحاديث وتتبّع الطرق لأن عبد الحق الإشبيلي هذا في كتابه "الأحكام الكبرى" ينقل الأحاديث من كتب السنّة بأسانيدها حتى ما ينقله عن البخاري ومسلم يقول البخاري، هكذا يبدأ ما يقول روى البخاري البخاري حدثني فلان عن فلان يسوق السند إلى الرسول عليه السلام، مسلم، أبو داود يذكر أحاديث الكتب الستة وغيرها من كتب السنن الأخرى التي كانت وقعت له، فيستطيع طالب العلم بهذا الكتاب مثلا حتى في هذا الزمان الذي بدأت كتب السنّة تُنْشر بصورة فائقة جدا والحمد لله، يجد في هذا الكتاب أسانيد بعض الكتب لا يجدها حتى اليوم في المطبوعات لأنها لم تُطبع مثل مثلا "مسند البزار" فهو ينقل الأحاديث التي يذكرها في "الأحكام الكبرى" عن البزار بسند البزار، نحن كثيرا ما نعيى ونتعب لمعرفة إسناد البزار فلا نجد له أثرا إلا في "كشف الأستار" مثلا وهذا خاص بالزوائد على الكتب الستة لكن أحيانا يكون البزار قد تفرّد بزيادة يذكرها بعض الحفاظ كالزيلعي والعسقلاني ونحوهما ويسكتان عن إسنادها فنحاول أن نعثُر على سندها فنعود إلى "كشف الأستار" فلا نجد السند لما تقيّد به من شرط، فإذا ما رجعنا إلى "الأحكام الكبرى" للإشبيلي استفدنا إسناده من هناك.
هذا شيء من ترجمة "الأحكام الكبرى" أما "الأحكام الصغرى" فهو أفيد للمبتدئين في هذا العلم لأنه حذف الأسانيد واقتصر على التخريج زائدأنه يُعطي خلاصة الإسناد المحذوف وهذا هو التحقيق العلمي لأن الناس من قديم الزمان حتى اليوم يظنّون أن علم الحديث هو أن تفتح هذه الكتب وتنقل نصف صفحة ثم يُملؤها بماذا، رواه فلان جزء كذا صفحة كذا وبعضهم يُطيل فيقول كتاب كذا وباب كذا وجزء كذا وصفحة كذا وفلان وفلان وفلان وفلان أسطر ثم يصمت فلا يفهم الطالب والباحث ما شأن هذا الإسناد أهو صحيح أم حسن أم ضعيف أم غير ذلك من مراتب الحديث؟ هناك الحافظ عبد الحق الإشبيلي حينما حذف في كتابه الثاني "الأحكام الوسطى" أسانيد المُخرّجين للأحاديث في كتابه الأول "الأحكام الكبرى" يُعطيك درجة الإسناد فيُصحّح ويُضعّف ويُعطي الحديث ما يستحقه من مرتبة بغض النظر أصاب أم أخطأ فكلنا مُعرّض للصواب وللخطأ، والمهم ما يغلِب على الإنسان ولا شك أن الحافظ هذا وأمثاله صوابُه أكثر من خطئه، وهذا الذي يجب أن ندندن حوله دائما وأبدا ولا نطلب المستحيل من أي مؤلف كان قديما أو حديثا لهذا، لأن هذا طبيعة الإنسان الذي فطره الله عز وجل على الخطأ والنسيان.
أما الكتاب الثالث "الأحكام الصغرى" فهي خُلاصة الوسطى، الوسطى فيها الصحيح والحسن والضعيف، أما الصغرى فليس فيها إلا الحديث الصحيح في نقده هو.
ولذلك فأنا أقترح أنه إذا وُجِد أحد من طلاب العلم أوتِيَ بسطة في هذا العلم ونشاطا أن يُحاول تحقيق هذا الكتاب وأن يُخرِجه للناس لأنه بمثابة الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد أو بلوغ المرام من أحاديث الأحكام للحافظ العسقلاني بل هو لعله خير منهما.
هذا شيء مما يتعلق بالتدليس المتعلق بالأعمش أو بأبي الزبير، وشيء أخير قلت إن عبد الحق الإشبيلي يُعلّل الأحاديث التي جاءت من رواية أبي الزبير عن جابر لكن جاء من بعده الحافظ أبو الحسن ابن القطان وهو أيضا حافظ مشهور من تلك البلاد فتعقّب عبد الحق الإشبيلي في كثير من المواطن التي بدا لابن القطان أن الإشبيلي وهِم فيه، في كتابه الذي سمّاه ب"الوهم والإيهام" هذا الكتاب لا يزال مع الأسف في عالم المخطوطات، وقد تفضّل أحد طلاب العلم في هذه البلاد فأرسل إليّ نسخة مصوّرة حينما وقف على كتاب ذلك المصري المعتدي الجائر، ووجد أنه خالف النقد العلمي الصحيح ووجدني قد أصبت المحكّ في نقدي لأحاديث أبي الزبير عن جابر، فوجد فصلا طويلا في كتاب ابن القطان فاتصل بي هاتفيا وذكر لي ذلك وأخذ رأيي هل أرسل لك نسخة من هذا الكتاب؟ قلت بداهة مشكورا وتفضّل وأرسل فعلا الكتاب فلما اطلعت على ما فيه، تبيّن لي أن ابن القطان تتبّع الحافظ عبد الحق الإشبيلي في عشرات الأحاديث ساقها بأسانيدها ليس فقط من "سنن أبي داود" وما دونه من السنن بل ومن "صحيح مسلم" فقال سكت عبد الحق الإشبيلي عن الحديث الفلاني والحديث الفلاني وهي من رواية أبي الزبير عن جابر وبعضها في "صحيح مسلم" واقتصر عبد الحق الإشبيلي في عزو هذه الأحاديث إلى مسلم فأوهم القرّاء، هنا الشاهد، فأوهم القراء أنها سالمة من النقد ولم يذكر كما ذكر في غير الأحاديث التي علّلها عبد الحق الإشبيلي بعنعنة أبي الزبير، سكت عن بعض الأحاديث التي رواها مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر فقال رواه مسلم عن جابر فأوهم القارئ أن هذا الحديث وأمثاله سالم من علّة العنعنة، عنعنة أبي الزبير فتتبّع ابن القطان بروح علمية واسعة رحيبة جدا ووضع هذه الأحاديث بين يدي القارئ حتى يكون على بيّنة أن هذه الأحاديث معلّلة بعنعنة أبي الزبير عن جابر.
وجاء دوري أنا قديما قبل أن أطلع على هذا الكتب وحديثا، تعلمون إن شاء الله أن هناك كتابا مطبوعا منذ سنين بعيدة ألا وهو "مختصر مسلم" للإمام المنذري بتعليقي وتحقيقي وكنت علّقت على كثير من الأحاديث التي رواها مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر، ومن هنا دخل في الاعتداء عليّ ذلك المصري الجائر، مع أنني حاولت قديما وزدت ذلك حديثا أن أنقذ كثيرا من الأحاديث التي رواها مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر أن أنقذها من الضعف إما بتتبّع حديث أبي الزبير هذا في مصادر أخرى من كتب السنّة صرّح فيها بالتحديث فبيّنت بعض الأحاديث التي جاءت معنعنة في صحيح مسلم فعلّقت وقلت لكن صرّح أبو الزبير بالتحديث في مسند أحمد أو في غيره.
والأن نُعدّ هذا الكتاب لطبعة جديدة فيها زيادة تحقيق، بصورة خاصة في هذه الناحية فتقصّدت تتبّع ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، حاولت إنقاذ ما أمكنني إنقاذه من جديد من العلّة بالعنعنة بأن أجد تصريحا لأبي الزبير في بعض الكتب أو أن أجد لذلك شاهدا أو تابعا ينجو الحديث حينذاك من الإعلال بالعنعنة إلى الصحة التي تناسب "صحيح الإمام مسلم"، هذا أخر هذا الجواب.