ما حكم القيام للضيف وحكم القيام لمن يريد السلام ؟ حفظ
السائل : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فضيلة الشيخ ما حكم من قام للضيف عند السلام؟ وما حكم قيام الجالس للأتي للسلام علما أن بعض الناس يغضبون إذا لم يقم أحد لهم أرجو التوضيح؟
الشيخ : هنا مسألتان، القيام إلى الضيف والقيام للضيف، وهذا فرق لغوي معروف في اللغة.
القيام إلى الضيف مشروع ومن سنّة استقبال الضيف والقيام للضيف ليس من السنّة بشيء أو في شيء.
وكثيرا ما يختلط أحد هذه الأمرين بالأخر فقد جاء في "سنن أبي داود" وغيره ( أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم كان إذا دخل على فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وأله وسلم قامت إليه وقبّلته وأجلسته في مجلسا ) وكانت هي بدورها ( إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وأله وسلم قام إليها وقبّلها وأجلسها في مجلسه ) هذا من إكرام الضيف أن يقوم المُضيف صاحب الدار إلى الضيف وليس للضيف، أن يقوم إليه ويستقبله ويُنزله في المنزل أو المكان المناسب له كما جاء في حديث في ثبوته اختلاف عند علماء الحديث وهو بلفظ ( أنزلوا الناس منازلهم ) إلا أن هذا الحديث وإن كان في سنده ذلك الضعف فقد تأيّد معناه، أقول تأيد معناه بسنّة النبي صلى الله عليه وأله وسلم العملية.
كذلك جاء حديث أخر من هذا القبيل ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام حينما جاء سعد بن معاذ وقد قَبِله اليهود يهود بني قريظة حكما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وأله وسلم، جاء سعد بن معاذ على دابته جريحا في أكحله في عرْق في عضده فقال عليه الصلاة والسلام لمن حوله من الأنصار الذين رئيسهم سعد بن معاذ القادم، فقال عليه الصلاة والسلام ( قوموا إلى سيّدكم ) هكذا الحديث في "صحيح البخاري" وكثير من الناس بمثل هذه المناسبة ينحرف الحديث عن لفظه الصحيح فيروونه بلفظ "قوموا لسيدكم" ويستدلون به على المعنى الثاني الذي سأتحدّث عنه وهو القيام للضيف إكراما وليس للذهاب إليه واستقباله.
فإذا عرفتم أن لفظ الحديث في "صحيح البخاري" ( قوموا إلى سيّدكم ) وشتّان عربيّة بين قم إلى فلان وبين قم لفلان، قم إلى فلان أي اذهب إليه وقم لفلان أي إكراما وتبجيلا وإعظاما، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وأله وسلم حينما قال للأنصار ( قوموا إلى سيّدكم ) إنما قصد قوموا إلى سيّدكم فأعينوه لأنه كان مريضا ومُصابا في أكحله كما قلت أنفا.
هكذا جاء الحديث في "صحيح البخاري" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وقد أكّد هذا المعنى وصرّح به تصريحا ما بعده تصريح حديث عائشة في "مسند الإمام أحمد" رحمه الله فقد روت هذه القصة على النحو الذي رواها أبو سعيد الخدري ولكنها رضي الله عنها حفظت زيادة في هذا المتن يُعتبر اليوم كما يقولون في اصطلاح العصر الحاضر من باب وضع النقاط على الحروف، بمعنى أن مثلا كانوا قديما يكتبون بدون إعجام بالإهمال فيكتبون يزيد بدون نقطتين من تحت وبدون نقطة على الراء فيُمكن أن تقرأ يزيد ويمكن أن تقرأ بريد فلما اصطلحوا على وضع النقاط قالوا في العصر الحاضر أن هذا الإعجام يوضّح ويُزيل الإشكال.
كانت رواية السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها من هذا الباب وضع النقاط على الحروف لأن حديث أبي سعيد الخدري على الرغم من أنه جاء في "صحيح البخاري" باللفظ ( قوموا إلى سيّدكم ) فقد تحرّف على كثير من الناس وبخاصة أولئك الذين لا يرجعون إلى الأصول من كتب السنّة ليأخذوا منها الأحاديث على وجهها، تحرّف كما سمعتم إلى "قوموا لسيّدكم" أما حديث عائشة فلا يقبل مثل هذا التحريف بالرغم أنها وافقت أبا سعيد الخدري بلفظ "إلى سيّدكم" ولكنها زادت فرَوت الحديث باللفظ التالي ( قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه ) لو أن راويا أخطأ فروى الحديث "قوموا لسيدكم فأنزلوه" لكانت هذه الزيادة تُوضّح المقصود من هذا الحديث ولا يُمكن حينذاك أن ينحرف فهْم أحد من رواية "قوموا إلى سيّدكم" بمعنى لسيّدكم فإن زيادة أنزلوه تمنع مثل ذلك التأويل.
هذا الحديث كحديث قيام الرسول عليه السلام لفاطمة وقيامها لأبيها فإنما ذلك من باب الإجلاس في المنزل المناسب وليس قياما وقعودا هكذا الذي هو قيام للإكرام.
هذا القيام الذي للإكرام بمعنى قم لفلان هذا خلاف السنّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وأله وسلم فقد روى الإمام البخاري في كتابه "الأدب المفرد" وهو كتاب كما وُصِف المفرد يختلف عن كتاب المفرد الذي هو كتاب من كتب "صحيح البخاري" فصحيح البخاري مُؤلّف من سبعة وتسعين كتابا، كتاب الطهارة والوضوء والغُسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك سبعة وتسعون كتابا، من هذه الكتب في أخر مجلد من الصحيح كتاب الأدب، ولما كان الإمام البخاري قد التزم في كتابه الصحيح شروطا هي باتفاق العلماء أدقّ الشروط في الصحّة لذلك جاء فأفرد كتابا خاصا عن هذا الكتاب الذي هو في الصحيح وسمّاه تمييزا بينهما بالكتاب المفرد ب"الأدب المفرد" روى البخاري في كتابه هذا "الأدب المفرد" بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس على شرط البخاري في الصحيح، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال ( ما كان شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم ) زاد أحمد في رواية ( رؤيةً ) ( ما كان شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم رؤيةً وكان إذا دخل عليه ورأوه لم يقوموا له ) انتبهوا الأن كيف جاء هذا الحديث، ما قال أنس وهو خادم الرسول لم يقوموا إليه وإنما قال لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك ) ( ما كان شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم رؤيةً وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك ) إذًا هذا الحديث يُفرّق بين القيام للداخل إكراما وتعظيما واحتراما فهذا خلاف السنّة أما القيام إلى الضيف واستقباله فذلك من أداب المُضيف، يجب التفريق إذًا بين هذين القيامين.
والكراهة المذكورة في هذا الحديث الأخير حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قد تكون من باب التنزيه لمخالفته للسنّة العمليّة التي جرى عليها أصحابه صلى الله عليه وأله وسلم وقد تكون كراهة تحريميّة إذا ما اقترن بها شيء زائد عن القيام ألا وهو الامتثال هكذا قياما.
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وأله وسلم في "سنن أبي داود" وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما فيتبوّأ مقعده من النار ) في هذا الحديث وعيد شديد لمن يدخل من الضيوف ويُحبّ في قرارة نفسه أن يقوم له الناس تعظيما فهذا إثمه كبير لأن النبي صلى الله عليه وأله وسلم يوعده بقوله ( فليتبوّأ مقعده من النار ) وهذا الحديث وإن كان الوعيد الشديد المذكور فيه تصريحًا إنما يتوجّه إلى داخل المحبّ للقيام من الجالس أو من الجالسين فالجالسون قد يُشاركونه في إثم ذاك القيام لأنهم يُساعدونه على ذلك.
لهذا لما روى هذا الحديث الصحابي الجليل وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لما دخل على المجلس وكان هناك رجلان أحدهما عبد الله بن الزبير والأخر عبد الله بن عامر، أما عبد الله بن الزبير فلم يقم وأما عبد الله بن عامر فقام لمعاوية والمفروض في هذه الحالة أن يحتجّ معاوية على هذا القائم له بحديث أنس السابق لكن من فِقْهه رضي الله عنه أنه احتجّ بالحديث الأخير ( من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار ) ما فقْه هذا الحديث؟ ما وجه احتجاج معاوية على عبد الله بن عامر الذي قام لمعاوية؟ ومعاوية لا يُحبّ هذا القيام بل نهاه عن ذلك وقال له لا تقم لأن النبي صلى الله عليه وأله وسلم قال ( من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار ) فما وجه استدلال معاوية على عبد الله بن عامر وإنكاره قيامه له بهذا الحديث؟ كأنه يقول له أنت يا عبد الله إذا استمررت على هذا القيام فربما تُورّطني وربما يوما ما تتشوّف نفسي وتُحب هذا القيام فأقع في وعيد هذا الحديث وتكون أنت وأمثالك سببا للوقوع في حُبّي للقيام، هذا وجه استدلال معاوية رضي الله عنه على من قام له.
إذا عرفنا هذه الأمور نعرف أن التواضع من الداخلين إلى المجلس ألا يدور في ذهنهم حُبهم للقيام وبالتالي أن لا يقوم الداخلون الجالسون لمن دخل وبخاصة إذا كان الداخلون كُثُر كلّما دخل واحد اثنين قام الجلوس قياما ثم دخل أخرون فقاموا وهكذا، تظهر هنا ظاهرة التشبّه بالكفار التي لا تزال ظاهرة قائمة في كثير من البلاد.
ونحن نرى أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم قد أنكر قيام بعض أصحابه قياما لم يخطر في بال أحدهم أنه يقوم تعظيما للرسول عليه السلام ذلك لأنهم كانوا خلفه في الصلاة وهو إمامهم، روى الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم رمَتْه دابته يوما على الأرض فأصيب في كتفه فحضرت الصلاة وهي صلاة الظهر فصلى النبي صلى الله عليه وأله وسلم بأصحابه جالسا فقاموا خلْفه قياما كما هي العادة بل الفريضة قاموا يُصلّون خلفه صلى الله عليه وأله وسلم قياما، فلما رأهم رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم هكذا أشار إليهم أن اجلسوا، أشار إليهم وهم يُصلّون قياما خلفه ورسول الله جالس أن اجلسوا فجلسوا وصلى بهم عليه الصلاة والسلام جالسا وهم يُصلّون كذلك جلوسا بجلوسهم ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم الصلاة التفت إليهم وقال لهم ( كدتم أنفا تفعلون فعل فارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم إنما جُعِل الإمام ليُؤتم به فإذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى جالسا فصلّوا جلوسا أجمعين ) الشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم أسقط عن المصلين خلفه وكلهم أصحّاء في أبدانهم أسقط عنهم ركن القيام، لماذا؟ لكيْلا تظهر الصورة المشابهة لقيام عظماء كسرى وراء الملك هذه الصورة شتّان ما بينها وبين صورة قيام أصحاب الرسول عليه السلام خلفه في الصلاة، فهم قاموا لله قانتين ورسول الله جلس متواضعا مضطرا لرب العالمين، لم يكن هناك مطلقا لا من القائمين ولا من الجالس شيء من حبّ المشابهة مع ذلك أمرهم بالجلوس وقال لهم كِدتم تفعلون الصورة المشابهة لفارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم، الملك جالس والناس حوله قائمون تعظيما له، لم يُرِد عليه السلام لم يُحِب هذه الظاهرة لأنها ظاهرة وثنيّة، فماذا نقول إذا قام الناس وليسوا في صلاة وهو يقومون للعبد الداخل تعظيما، هذا القيام يجب أن يُخَصّ لله رب العالمين.
من أجل ذلك كان بعض السلف يتحرّج جدا جدا من أن يقوم الناس له وفي مقدمة هؤلاء رجل من أفاضل علماء الحديث والفقه الحنبلي ألا وهو أبو عبد الله بن بطة فقد كان يكره هذ القيام كراهة تحريميّة.
وقد اتفق أنه خرج ذات يوم مع صاحب له شاعر إلى السوق فمرّ بأحد أهل العلم والفضل فقام هذا الرجل العالم الفاضل لابن بطة لما مرّ به لكن هذا العالم الفاضل يعلم كراهية ابن بطة لهذا القيام فاعتذر له ببيتيْن من الشعر لطيفين جدا ولكن كان الرد ألطف من ذلك وأقوى، قال معتذرا
" لا تلمني على القيام فحقي *** حين تبدو ألا أمل القيام
أنت من أكرم البرية عندي *** ومن الحق أن أجِلّ الكرام" .
فقال ابن بطة لصاحبه الشاعر وأغلب العلماء لا ينظِمون الشعر لكن صاحبه شاعر ومتفقّه بفقه ابن بطة فقال له أجِبْه عني، قال له على البديهة
" أنت إن كنت لأعدمتك ترعى *** لي حقا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم *** ولسنا نحب منك احتشاما
فاعفني الأن من قيامك هذا أولا *** فسأجزيك بالقيام قياما
وأنا كاره لذلك جدا *** إن فيه تملقا وآثاما
لا تكلف أخاك أن يتلقاك *** بما يستحل فيه الحراما
-وهنا الحكمة البالغة -
وإذا صحت الضمائر منا *** اكتفينا من أن نتعب الأجساما
كلنا واثق بود أخيه *** ففيم انزعاجنا وعلام "
هذا منتهى الحكمة وهذه ثمرة اتباع السنّة ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السنّة، نعم.
الشيخ : هنا مسألتان، القيام إلى الضيف والقيام للضيف، وهذا فرق لغوي معروف في اللغة.
القيام إلى الضيف مشروع ومن سنّة استقبال الضيف والقيام للضيف ليس من السنّة بشيء أو في شيء.
وكثيرا ما يختلط أحد هذه الأمرين بالأخر فقد جاء في "سنن أبي داود" وغيره ( أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم كان إذا دخل على فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وأله وسلم قامت إليه وقبّلته وأجلسته في مجلسا ) وكانت هي بدورها ( إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وأله وسلم قام إليها وقبّلها وأجلسها في مجلسه ) هذا من إكرام الضيف أن يقوم المُضيف صاحب الدار إلى الضيف وليس للضيف، أن يقوم إليه ويستقبله ويُنزله في المنزل أو المكان المناسب له كما جاء في حديث في ثبوته اختلاف عند علماء الحديث وهو بلفظ ( أنزلوا الناس منازلهم ) إلا أن هذا الحديث وإن كان في سنده ذلك الضعف فقد تأيّد معناه، أقول تأيد معناه بسنّة النبي صلى الله عليه وأله وسلم العملية.
كذلك جاء حديث أخر من هذا القبيل ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام حينما جاء سعد بن معاذ وقد قَبِله اليهود يهود بني قريظة حكما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وأله وسلم، جاء سعد بن معاذ على دابته جريحا في أكحله في عرْق في عضده فقال عليه الصلاة والسلام لمن حوله من الأنصار الذين رئيسهم سعد بن معاذ القادم، فقال عليه الصلاة والسلام ( قوموا إلى سيّدكم ) هكذا الحديث في "صحيح البخاري" وكثير من الناس بمثل هذه المناسبة ينحرف الحديث عن لفظه الصحيح فيروونه بلفظ "قوموا لسيدكم" ويستدلون به على المعنى الثاني الذي سأتحدّث عنه وهو القيام للضيف إكراما وليس للذهاب إليه واستقباله.
فإذا عرفتم أن لفظ الحديث في "صحيح البخاري" ( قوموا إلى سيّدكم ) وشتّان عربيّة بين قم إلى فلان وبين قم لفلان، قم إلى فلان أي اذهب إليه وقم لفلان أي إكراما وتبجيلا وإعظاما، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وأله وسلم حينما قال للأنصار ( قوموا إلى سيّدكم ) إنما قصد قوموا إلى سيّدكم فأعينوه لأنه كان مريضا ومُصابا في أكحله كما قلت أنفا.
هكذا جاء الحديث في "صحيح البخاري" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وقد أكّد هذا المعنى وصرّح به تصريحا ما بعده تصريح حديث عائشة في "مسند الإمام أحمد" رحمه الله فقد روت هذه القصة على النحو الذي رواها أبو سعيد الخدري ولكنها رضي الله عنها حفظت زيادة في هذا المتن يُعتبر اليوم كما يقولون في اصطلاح العصر الحاضر من باب وضع النقاط على الحروف، بمعنى أن مثلا كانوا قديما يكتبون بدون إعجام بالإهمال فيكتبون يزيد بدون نقطتين من تحت وبدون نقطة على الراء فيُمكن أن تقرأ يزيد ويمكن أن تقرأ بريد فلما اصطلحوا على وضع النقاط قالوا في العصر الحاضر أن هذا الإعجام يوضّح ويُزيل الإشكال.
كانت رواية السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها من هذا الباب وضع النقاط على الحروف لأن حديث أبي سعيد الخدري على الرغم من أنه جاء في "صحيح البخاري" باللفظ ( قوموا إلى سيّدكم ) فقد تحرّف على كثير من الناس وبخاصة أولئك الذين لا يرجعون إلى الأصول من كتب السنّة ليأخذوا منها الأحاديث على وجهها، تحرّف كما سمعتم إلى "قوموا لسيّدكم" أما حديث عائشة فلا يقبل مثل هذا التحريف بالرغم أنها وافقت أبا سعيد الخدري بلفظ "إلى سيّدكم" ولكنها زادت فرَوت الحديث باللفظ التالي ( قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه ) لو أن راويا أخطأ فروى الحديث "قوموا لسيدكم فأنزلوه" لكانت هذه الزيادة تُوضّح المقصود من هذا الحديث ولا يُمكن حينذاك أن ينحرف فهْم أحد من رواية "قوموا إلى سيّدكم" بمعنى لسيّدكم فإن زيادة أنزلوه تمنع مثل ذلك التأويل.
هذا الحديث كحديث قيام الرسول عليه السلام لفاطمة وقيامها لأبيها فإنما ذلك من باب الإجلاس في المنزل المناسب وليس قياما وقعودا هكذا الذي هو قيام للإكرام.
هذا القيام الذي للإكرام بمعنى قم لفلان هذا خلاف السنّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وأله وسلم فقد روى الإمام البخاري في كتابه "الأدب المفرد" وهو كتاب كما وُصِف المفرد يختلف عن كتاب المفرد الذي هو كتاب من كتب "صحيح البخاري" فصحيح البخاري مُؤلّف من سبعة وتسعين كتابا، كتاب الطهارة والوضوء والغُسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك سبعة وتسعون كتابا، من هذه الكتب في أخر مجلد من الصحيح كتاب الأدب، ولما كان الإمام البخاري قد التزم في كتابه الصحيح شروطا هي باتفاق العلماء أدقّ الشروط في الصحّة لذلك جاء فأفرد كتابا خاصا عن هذا الكتاب الذي هو في الصحيح وسمّاه تمييزا بينهما بالكتاب المفرد ب"الأدب المفرد" روى البخاري في كتابه هذا "الأدب المفرد" بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس على شرط البخاري في الصحيح، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال ( ما كان شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم ) زاد أحمد في رواية ( رؤيةً ) ( ما كان شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم رؤيةً وكان إذا دخل عليه ورأوه لم يقوموا له ) انتبهوا الأن كيف جاء هذا الحديث، ما قال أنس وهو خادم الرسول لم يقوموا إليه وإنما قال لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك ) ( ما كان شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم رؤيةً وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك ) إذًا هذا الحديث يُفرّق بين القيام للداخل إكراما وتعظيما واحتراما فهذا خلاف السنّة أما القيام إلى الضيف واستقباله فذلك من أداب المُضيف، يجب التفريق إذًا بين هذين القيامين.
والكراهة المذكورة في هذا الحديث الأخير حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قد تكون من باب التنزيه لمخالفته للسنّة العمليّة التي جرى عليها أصحابه صلى الله عليه وأله وسلم وقد تكون كراهة تحريميّة إذا ما اقترن بها شيء زائد عن القيام ألا وهو الامتثال هكذا قياما.
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وأله وسلم في "سنن أبي داود" وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما فيتبوّأ مقعده من النار ) في هذا الحديث وعيد شديد لمن يدخل من الضيوف ويُحبّ في قرارة نفسه أن يقوم له الناس تعظيما فهذا إثمه كبير لأن النبي صلى الله عليه وأله وسلم يوعده بقوله ( فليتبوّأ مقعده من النار ) وهذا الحديث وإن كان الوعيد الشديد المذكور فيه تصريحًا إنما يتوجّه إلى داخل المحبّ للقيام من الجالس أو من الجالسين فالجالسون قد يُشاركونه في إثم ذاك القيام لأنهم يُساعدونه على ذلك.
لهذا لما روى هذا الحديث الصحابي الجليل وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لما دخل على المجلس وكان هناك رجلان أحدهما عبد الله بن الزبير والأخر عبد الله بن عامر، أما عبد الله بن الزبير فلم يقم وأما عبد الله بن عامر فقام لمعاوية والمفروض في هذه الحالة أن يحتجّ معاوية على هذا القائم له بحديث أنس السابق لكن من فِقْهه رضي الله عنه أنه احتجّ بالحديث الأخير ( من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار ) ما فقْه هذا الحديث؟ ما وجه احتجاج معاوية على عبد الله بن عامر الذي قام لمعاوية؟ ومعاوية لا يُحبّ هذا القيام بل نهاه عن ذلك وقال له لا تقم لأن النبي صلى الله عليه وأله وسلم قال ( من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار ) فما وجه استدلال معاوية على عبد الله بن عامر وإنكاره قيامه له بهذا الحديث؟ كأنه يقول له أنت يا عبد الله إذا استمررت على هذا القيام فربما تُورّطني وربما يوما ما تتشوّف نفسي وتُحب هذا القيام فأقع في وعيد هذا الحديث وتكون أنت وأمثالك سببا للوقوع في حُبّي للقيام، هذا وجه استدلال معاوية رضي الله عنه على من قام له.
إذا عرفنا هذه الأمور نعرف أن التواضع من الداخلين إلى المجلس ألا يدور في ذهنهم حُبهم للقيام وبالتالي أن لا يقوم الداخلون الجالسون لمن دخل وبخاصة إذا كان الداخلون كُثُر كلّما دخل واحد اثنين قام الجلوس قياما ثم دخل أخرون فقاموا وهكذا، تظهر هنا ظاهرة التشبّه بالكفار التي لا تزال ظاهرة قائمة في كثير من البلاد.
ونحن نرى أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم قد أنكر قيام بعض أصحابه قياما لم يخطر في بال أحدهم أنه يقوم تعظيما للرسول عليه السلام ذلك لأنهم كانوا خلفه في الصلاة وهو إمامهم، روى الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم رمَتْه دابته يوما على الأرض فأصيب في كتفه فحضرت الصلاة وهي صلاة الظهر فصلى النبي صلى الله عليه وأله وسلم بأصحابه جالسا فقاموا خلْفه قياما كما هي العادة بل الفريضة قاموا يُصلّون خلفه صلى الله عليه وأله وسلم قياما، فلما رأهم رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم هكذا أشار إليهم أن اجلسوا، أشار إليهم وهم يُصلّون قياما خلفه ورسول الله جالس أن اجلسوا فجلسوا وصلى بهم عليه الصلاة والسلام جالسا وهم يُصلّون كذلك جلوسا بجلوسهم ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم الصلاة التفت إليهم وقال لهم ( كدتم أنفا تفعلون فعل فارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم إنما جُعِل الإمام ليُؤتم به فإذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى جالسا فصلّوا جلوسا أجمعين ) الشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وأله وسلم أسقط عن المصلين خلفه وكلهم أصحّاء في أبدانهم أسقط عنهم ركن القيام، لماذا؟ لكيْلا تظهر الصورة المشابهة لقيام عظماء كسرى وراء الملك هذه الصورة شتّان ما بينها وبين صورة قيام أصحاب الرسول عليه السلام خلفه في الصلاة، فهم قاموا لله قانتين ورسول الله جلس متواضعا مضطرا لرب العالمين، لم يكن هناك مطلقا لا من القائمين ولا من الجالس شيء من حبّ المشابهة مع ذلك أمرهم بالجلوس وقال لهم كِدتم تفعلون الصورة المشابهة لفارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم، الملك جالس والناس حوله قائمون تعظيما له، لم يُرِد عليه السلام لم يُحِب هذه الظاهرة لأنها ظاهرة وثنيّة، فماذا نقول إذا قام الناس وليسوا في صلاة وهو يقومون للعبد الداخل تعظيما، هذا القيام يجب أن يُخَصّ لله رب العالمين.
من أجل ذلك كان بعض السلف يتحرّج جدا جدا من أن يقوم الناس له وفي مقدمة هؤلاء رجل من أفاضل علماء الحديث والفقه الحنبلي ألا وهو أبو عبد الله بن بطة فقد كان يكره هذ القيام كراهة تحريميّة.
وقد اتفق أنه خرج ذات يوم مع صاحب له شاعر إلى السوق فمرّ بأحد أهل العلم والفضل فقام هذا الرجل العالم الفاضل لابن بطة لما مرّ به لكن هذا العالم الفاضل يعلم كراهية ابن بطة لهذا القيام فاعتذر له ببيتيْن من الشعر لطيفين جدا ولكن كان الرد ألطف من ذلك وأقوى، قال معتذرا
" لا تلمني على القيام فحقي *** حين تبدو ألا أمل القيام
أنت من أكرم البرية عندي *** ومن الحق أن أجِلّ الكرام" .
فقال ابن بطة لصاحبه الشاعر وأغلب العلماء لا ينظِمون الشعر لكن صاحبه شاعر ومتفقّه بفقه ابن بطة فقال له أجِبْه عني، قال له على البديهة
" أنت إن كنت لأعدمتك ترعى *** لي حقا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم *** ولسنا نحب منك احتشاما
فاعفني الأن من قيامك هذا أولا *** فسأجزيك بالقيام قياما
وأنا كاره لذلك جدا *** إن فيه تملقا وآثاما
لا تكلف أخاك أن يتلقاك *** بما يستحل فيه الحراما
-وهنا الحكمة البالغة -
وإذا صحت الضمائر منا *** اكتفينا من أن نتعب الأجساما
كلنا واثق بود أخيه *** ففيم انزعاجنا وعلام "
هذا منتهى الحكمة وهذه ثمرة اتباع السنّة ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السنّة، نعم.