تفسير قوله تعالى: (( وما يعلم تأويله إلا الله )). حفظ
قال الله تعالى: (( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم )) هذه الآية الكريمة اختلف السلف في الوقف عليها، فأكثر السلف وقف على قوله: (( إلا الله )) وجعل الوقف هنا لازما، يعني يجب أن تقف تقول: (( وما يعلم تأويله إلا الله )) ثم تبتدأ فتقول: (( والراسخون في العلم يقولون آمنا به )) وعلى هذا فيكون هنا في قوله: (( والراسخون في العلم )) للاستئناف (( والراسخون )) مبتداء، وجملة (( يقولون )) خبر مبتدأ ، وهذا الذي عليه أكثر ، يعني هذا المتشابه لا يعلم تأويله المراد به إلا الله عز وجل ، والراسخون في العلم الذين لم يعلموا لا يكلفون في ذلك الفتنة وإنما يقولون: (( آمنا به كل من عند ربنا )) وليس في كلام ربنا تناقض ولا تعارض فيسلمون الأمر إلى الله عز وجل، لأنه هو العالم بما أراد، فينقسم الناس إذا إلى قسمين: (( الراسخون في العلم يقولون آمنا به )) (( والذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه )) .
ووصل بعض السلف ولم يقف، أي قرأ: (( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم )) فتكون الواو للعطف ، (( والراسخون )) معطوفة على لفظ الجلالة أي: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم بخلاف الذين في قلوبهم زيغ وليس عندهم علم فهؤلاء لا يعلمون، والحقيقة أن ظاهر القراءتين أن ظاهرهما التعارض، لأن قراءة الأولى تقتضي أنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه إلا الله، والقراءة الثانية تقتضي أن هذا المتشابه يعلم تأويله الله والراسخون في العلم، فيكون في ظاهر القولين التعارض، ولكن الصحيح أنه لا تعارض بينهما، وأن هذا الخلاف مبني على الاختلاف في معنى التأويل في قوله: (( وما يعلم تأويله إلا الله )) فإن كان المراد بالتأويل التفسير فقراءة الوصل أولى، لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن والمتشابه ولا يخفى عليهم برسوخهم في العلم وبلوغهم عمق العلم، لأن الراسخ في الشيء الثابت فيه المتمكن منه، فهم لتمكنهم وثبوت أقدامهم في العلم وتعمقهم فيه يعلمون ما يخفى على غيرهم، فإذا جعلنا التأويل بمعنى التفسير فقراءة الوصل أولى، أما إذا جعلنا التأويل بمعنى العاقبة والغاية المجهولة فالوقف على: (( إلا الله )) أولى ، لأن عاقبة هذا المتشابه وما يعول إليه أمر مجهول لكل الخلق. فإذا قال القائل: الآن نطلب أمرين: الأمر الأول: التأويل يكون بمعنى التفسير، والأمر الثاني: أن التأويل يكون بمعنى العاقبة المجهولة التي لا يعلمها إلا الله؟ الجواب على ذلك نقول: نعم لابد من هذا وهو موجود في القرآن أولا: التأويل بمعنى التفسير مثل قول صاحبي السجن يوسف عليه الصلاة والسلام قال أحدهما: (( إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله )) أي بتفسير هذه الرؤيا أيش معناه نعم؟ ففسرها له، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) أي تفسير الكلام ومعرفة معناه، وأما التأويل بمعنى العاقبة فمنه قوله تعالى: ( (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقولون الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق)) فقوله: ((هل ينظرون إلا تأويله )) يعني: عاقبته، (( يوم يأتي تأويله )) يعني: تأتي عاقبته التي وعدوا بها (( يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق )) ومنه قوله تعالى: (( ذلك خير وأحسن تأويلا )) يعني: أحسن عاقبة ومآلا ، فتبين بهذا أن كلمة تأويل صالحة للمعنيين جميعا التفسير والعاقبة، فإذا جعلنا بمعنى التفسير فلا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن ولا يخفى عليهم شيء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينزل الله تعالى على عباده كتابا يسألهم عنه يوم القيمة وهم لا يعرفون معناه، أليس كذلك ؟ لا يمكن أبدا أن ينزل عليهم كتابا يسألهم عنه يوم القيمة وهم لا يعرفون معناها، صحيح أنه لا يعرفه البعض لكن الراسخين في العلم لابد أن يعلموه وإلا لبطلت الحجة، فلابد من معرفة هذا الكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا قلنا بأن التأويل ما آل إليه الأمر، وما كان عليه في نفس الواقع مما هو مجهول لنا فهنا يتعين الوقوف على قوله: (( وما يعلم تأويله إلا الله )) نعم .