تتمة تفسير الآية : (( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )) . حفظ
الشيخ : قوله تعالى: (( والكاظمين الغيظ )) يعني الذين يكظمون أشد الغضب، وإذا كانوا يكظمون أشد الغضب فأسهل الغضب من باب أولى، لأن كظم الغضب ليس بالأمر الهين على النفوس لاسيما عند الإنسان العصبي، فإنه من أشد ما يكون، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما تعدون الصرعة فيكم ؟) قالوا الذي لا يصرع، قال: ( إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب ) وفي رواية أخرى: ( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) وصدق النبي عليه الصلاة والسلام، كم من إنسان لا يملك نفسه عند الغضب، فتجده مثلا يكسر ماله، يطلق زوجته، ربما يلطم نفسه، وربما يسقط نفسه من علو، المهم أن الغضب شديد، جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى لا يدري ما يقول، ولهذا كان أصح أقوال أهل العلم أن من غضب غضبا لا يملك نفسه به فإنه لا عبرة بقوله أيا كان سواء كان طلاقا أو خلعا أو لعنا أو قذفا أو غير ذلك فإنه لا عبرة به لأنه ليس له قصد، وبعض الناس ـ نسأل الله العافية ـ إذا غضب تغيب عنه الدنيا لا يرى من أمامه أبدا ولا يسمع قوله من يتكلم، ربما يتكلم بكلام مكروه ويصيحون به وهو لا يسمعهم من شدة غضبه، ولهذا نقول إن الغضب ثلاثة أقسام: أول، وغاية، ووسط، بداية وغاية ووسط، البداية لا تؤثر لأن كل إنسان يغضب، والغاية لا حكم لها، لا حكم لها بمعنى أن كل ما صدر عن الغاضب فإنه لا حكم له، وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه: إغاثة اللهفان في عدم وقوع طلاق الغضبان: أن ذلك بالاتفاق، والثالث: الوسط، هذا محل خلاف بين العلماء، والصحيح أنه لا حكم لقوله وأن طلاقه لا يقع .
قال: (( والعافين عن الناس )) العفو ترك المؤاخذة على الذنب، والمعنى هم الذين إذا أساء إليهم أحد قابلوا إساءته بالعفو، وخير من ذلك أن يقابلوه بالإحسان لكن بشرط أن يكون لديهم قدرة على الانتقام، أما من عفا لعدم القدرة على الانتقام فهذا عفو العاجز الذي لا يحمد عليه، بل يكون عفوه هذا عجزا مذموما، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (( إن تبدوا شيئا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا )) فأنتم إن عفوتم عن السوء قد تعفون عن قدرة وقد تعفون عن العجز، أما الله عزوجل فإنه يعفو عن قدرة، وهذا هو محل المدح، أما مجرد العفو ليس بمدح حتى يكون عفوا عن قدرة، فترك المؤاخذة على الذنب عفو، وهو محمود وخير منه الإحسان، ولكن يشترط في الأمرين أن يكون ذلك عن قدرة لا عن عجز، أما عن العجز فإنه مذمة، ولهذا قال الشاعر يذم قبيلته:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا،
لماذا ؟ لضعفهم وعجزهم، ولهذا قال:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا لغارة فرسانا وركبانا ،
فالحاصل أن قوله: (( والعافين عن الناس )) يعني الذين لا يؤاخذون الناس بما أساءوا به إليهم بل ربما يحسنون إليهم ولكن عن قدرة، أما العفو عن عجز فليس بعفو في الحقيقة، بل هو عجز لا يمدح عليه الإنسان، قال: (( والعافين عن الناس )) وقوله: (( عن الناس )) عام شامل، ولكنه ليس على عمومه بالاتفاق، فإن الإساءة إذا كانت لحق الله فهي لله وليس لأحد أن يعفوا عنها، فلو زنى رجل بمحرم رجل وأراد أن يعفوا عنه، قلنا لا يمكن الحق ليس إليك، والله عزوجل يقول: (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ))، أما إذا كان حقا للإنسان ليس فيه شائبة حق لله فهذا ينظر فيه، ليس على عمومه بل ينظر فيه، إن اقتضت المصلحة العفو فالعفو خير، وإن اقتضت المصلحة المؤاخذة فالمؤاخذة خير، وإن لم تقتضي المصلحة لا هذا ولا هذا بأن تساوى الأمران فالعفو خير، لقوله تعالى: (( وأن تعفوا أقرب للتقوى )) والدليل على هذا أن الله سبحانه وتعالى قال: (( فمن عفا وأصلح فأجره على الله )) فعلم منه أن من عفا بدون إصلاح فلا أجر له، بل قد يأثم على عفوه، مثال ذلك: رجل اعتدى عليه شخص شرير، كلما عفا الناس عنه ازداد شرا، فهنا العفو خير وإلا المؤاخذة خير ؟ المؤاخذة خير، بل قد تجب، إنسان آخر اعتدى على شخص لكنه رجل معروف بالاستقامة ـ أعني المعتدي ـ رجل معروف بالاستقامة وعدم الاعتداء، لكن بدرت منه المبادرة فحصلت منه الإساءة، فهنا العفو أولى، ولاسيما إذا جاء هذا المعتدي يعتذر ويتعهد أن لا يعود أو ما أشبه ذلك، الثالث: رجل اعتدى على آخر وهو شرير لكنه لم يبلغ في الشر غايته، يعني أحيانا وأحيانا، فهنا العفو أفضل لأنه يتساوى الأمران، فالعفو هنا أفضل .
وقوله: (( والعافين عن الناس )) يشمل حتى عن الكفار إذا لم يكونوا حربيين، فإن الإنسان إذا عفا عنهم فيما يتعلق بحقه الخاص وكان في العفو إصلاح فإنه يدخل تحت الآية الكريمة.
قال: (( والله يحب المحسنين )) والله يحب المحسنين: يعني الذين يحسنون إلى الناس، وهل المراد بذلك المحسنين فيما سبق أو المحسنين فيما يستقبل ؟ بمعنى هل إن قوله: (( والله يحب المحسنين)) عائد على قوله: (( للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء )) وأن هؤلاء من المحسنين، أو أنه لما ذكر العفو وهو إسقاط الإنسان حقه عن المؤاخذة ذكر حالا أخرى أكمل منها وهي الإحسان فقال: (( والله يحب المحسنين )) يعني فإذا أحسنوا مع العفو كان ذلك سببا لمحبة الله، الثاني له وجه والأول أعم، لأننا إذا قلنا المتقين هل هم محسنون ؟ نعم، لاشك أن المتقي محسن إذا كان كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام: يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراك، والذين ينفقون الإنفاق إحسان، كاظم الغيظ إحسان، العفو عن الناس إحسان، فيكون هذا أشمل، فعليه نقول هذه الجملة فيها الترغيب والحث على فعل الخصال السابقة وأنها من الإحسان، وإذا فعل الإنسان خصلة أعلى مما سبق كانت داخلة في هذا من باب أولى، يعني كما لو عفا وأحسن فإننا نقول هذه خصلة زائدة على مجرد العفو فتكون أولى بالدخول في قوله: (( والله يحب المحسنين )) .
في هذه الآية، وأخذنا أظن الآية الأولى فوائدها ؟ ما أخذنا .