تفسير سورة النساء، قال الله تعالى : (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ... )) . حفظ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، (( بسم الله الرحمن الرحيم )) ، (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال الله تبارك وتعالى: (( بسم الله الرحمن الرحيم )) (( يا أيها الناس اتقوا ربكم )) هذه السورة هي سورة النساء ، وهي مدنية ، والمدني عند الجمهور ما نزل بعد الهجرة ، والمكي ما نزل قبل الهجرة ، فالمدني ما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة ، والمكي ما نزل قبل الهجرة ولو في غير مكة ، وعلى هذا فالمدار في تعيين المكي والمدني إلى الزمن لا إلى المكان ، وقد ذكر العلماء رحمهم الله ضوابط للمكي والمدني وذكروا مميزات للمكي والمدني معروفة في علم أصول التفسير ، من ذلك أن الغالب في الآيات المكية الغالب فيها القصر والقوة ، قوة الأسلوب ، وموضوعها في الغالب التوحيد وما يتعلق به ، وأما الآيات المدنية فالغالب عليه السهولة وطول الآيات ، وموضوعها في الأمور الفرعية كالبيوع ، وآداب المجالس ، وآداب الاستئذان ، وغير ذلك ، المكية أن النداء يكون فيها الغالب لعموم الناس (( يا أيها الناس )) لأن أكثر المخاطبين بها ليسوا بمؤمنين ، والمدنية بـ(( يا أيها الذين آمنوا )) هذا هو الغالب ، لأن المخاطبين فيها مؤمنون كلهم أو أكثرهم ، هذه السورة سورة النساء ، وسميت بهذا الاسم لذكر النساء فيها ، وهي كما تعلمون مبتدئة بأصل خلقة بني آدم من أين خلقوا ، ثم ذكر الأرحام وما يتصل بها من المواريث وغير هذا ، ثم ذكر ما يتعلق بالنكاح ، لأن النكاح صلة بين الناس كما أن القرابة صلة بين الناس ، كما قال الله تعالى: (( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا )) ، ثم ما يتعلق بمخاطبة اليهود والمنافقين وما يتعلق كذلك لأحوال النزاع بين الزوجين كما سيمر بنا إن شاء الله تعالى ، وهذه السورة هي السورة الثالثة بعد الفاتحة ، البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، وقد ورد في صحيح مسلم من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران ، وهذا في أول الأمر ، ثم بعد ذلك في الترتيب الأخير صارت البقرة ثم آل عمران ثم النساء ، واستقر على ذلك المصحف الذي جمعه أبو بكر رضي الله عنه ثم عثمان ابن عفان . يقول الله عز وجل: (( بسم الله الرحمن الرحيم )) والبسملة آية مستقلة يؤتى بها في أوائل السورة إلا سورة واحدة وهي براءة فإنه لم تنزل لها بسملة ، ولو نزل بها بسملة لكانت محفوظة موضوعة في مكانها ، لأن الله تعالى يقول: (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) ولكن الصحابة رضي الله عنهم أشكل عليهم هل هي مستقلة أو من سورة الأنفال فوضعوا فاصلا بينهما من أجل الإشكال فقط ، أما أن هناك شكا في نزول البسملة أو لا فلا شك في هذا ، لأن البسملة لو نزلت لحفظت كما تحفظ آيات القرآن الأخرى ، والصحيح أن البسملة ليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها ولا تحسب من آياتها لا في الفاتحة ولا في غيرها خلاف لبعض أهل العلم الذين قالوا إنها آية من فاتحة لا من غيرها ، وعلى هذا جرت طباعة المصاحف ، فإن طباعة المصاحف جعلوا البسملة آية من الفاتحة دون غيرها ، والصحيح أنه لا فرق وأن البسملة ليست من الفاتحة ، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: (( الحمد لله رب العالمين )) قال: حمدني عبدي ) ولم يذكر البسملة ، ويدل لذلك أيضا أنه إذا كانت الفاتحة بين الله وبين عبده نصفين فإنه لا يستقيم أن تكون البسملة منها ، لأننا إذا أعددنا الآيات وجدناها كما يلي: (( الحمد لله رب العالمين )) آية ، (( الرحمن الرحيم )) آية ، (( مالك يوم الدين )) آية ، هذه ثلاثة ، (( إياك نعبد وإياك نستعين )) آية ، هذه هي الرابعة وهي الوسط ، وهي التي بين الله وبين العبد نصفين ، (( إهدنا الصراط المستقيم )) أية ، (( صراط الذين أنعمت عليهم )) آية ، (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) آية ، فتكون الآيات متناسقة ، ويكون حق الخالق عزوجل ثلاث آيات مستقلة وهي الأولى ، وحق العبد ثلاث آيات مستقلة وهي الآيات الأخيرة ، والسابعة بينهما ، شقها الأول تبع لحق الله وشقها الثاني تبع لحق العبد ، وبهذا يعرف أن البسملة ليست من الفاتحة . وقد مر علينا إعرابها ، ففي أي شيء تعلق الجار والمجرور ؟ فيه ما هو أحسن ، حسب السياق أيش السياق ؟ يعني حسب ما ابتدأ به أو ما سمى عليه ، إذا هي البسملة جار ومجرور متعلق بمحذوف وهذا المحذوف فعل مؤخر يقدر بحسب المسمى عليه ، فإذا كنت أريد أن أقرأ فالتقدير: بسم الله أقرأ ، أريد أن أذبح: بسم الله أذبح ، أريد أن أتوضأ: بسم الله أتوضأ ، وهلم جرا ، وإنما اختير أن يكون الفعل متأخرا تيمنا بالبداءة بسم الله من وجه ، ولإفادة الحصر من وجه آخر ، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، فكأنك تقول: لا أقرأ إلا بسم الله ، وإنما اختير أن يكون فعلا لا اسما ـ أي لا نقدر: باسم الله قراءتي أو بسم الله ابتدائي ـ لأن الأصل في العمل الأفعال دون الأسماء ، ولذلك لا تجد اسما عاملا إلا بشروط بخلاف الأفعال ، وإنما قدر مناسبا لما يسمى عليه لأنه أنسب ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من لم يذبح فليذبح باسم الله ) قال: فليذبح باسم الله ، فقدر فعلا خاصا وهو الذبح ، أما اللفظ الجلالة فهو علم خاص بالله عزوجل وحده لا يسمى به غيره بالإجماع ، وأما (( الرحمن )) فهو علم خاص بالله أيضا لا يسمى به غيره ، وأما (( الرحيم )) فهو علم على الله عزوجل اسم من أسماء الله علم عليه لكن يوصف به غيره كما قال تعالى في النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم )) . بماذا يفسر أهل السنة (( الرحمن الرحيم )) ؟ يفسرون (( الرحمن )) بأنه ذو الرحمة ، ذو الرحمة وهي صفة لازمة تتعلق بذات الله عزوجل ، ومن آثارها الإنعام والإحسان ، ويفسرها أهل التعطيل بالإحسان فيقولون: الرحمن المحسن المنعم ، أو بإرادة الإحسان أو الإنعام أي المريد للإحسان أو المريد للإنعام ، لأنهم لا يصفون الله بصفة الرحمة ، وكذلك يقال في (( الرحيم )) . فإن قال قائل: هل (( الرحمن والرحيم )) مترادفان ؟ فالجواب: إن ذكرا أحدهما منفردا عن الآخر فهو متضمن له ، وإن ذكرا جميعا فالرحمن باعتبار الوصف والرحيم باعتبار الفعل ، لأن الرحمن فعلان تدل على الوصف كغضبان ، وسكران ، ونشوان ، وما أشبهها ، والرحيم تدل على الفعل ، فيكون الرحمن هذا باعتبار وصف الله عزوجل بالرحمة ، والرحيم باعتبار فعله أي باعتبار رحمته لمن رحم ، قال الله تعالى: (( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء )) .
قال: (( يا أيها الناس اتقوا ربكم )) الجملة هذه جملة ندائية مصدرة بياء ، والمنادى " أي " وهو مبني على الضم في محل النصب و هاء للتنبيه ، و(( الناس )) نعت لأي أو عطف بيان ، فهي مبنية على الضم في محل نصب (( يا أيها الناس اتقوا ربكم )) وجه الله الخطاب للناس مع أن السورة مدنية لبيان أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامة لجميع الناس ، والناس قيل: إن أصلها " أناس " وأن همزها حذفت لكثرة استعماله تخفيفا ، كما حذفت الهمزة من " شر " ، و " خير " وأصلها " أشر " ، و " أخير " تقول: هذا خير من هذا أي أخير منه ، هذا شر من هذا أي أشر منه ، لكن حذفت الهمزة منها تخفيفا منها لكثرة الاستعمال ، وهو مشتق من الأنس ، لأن البشر كما يقال عنهم مدنيون بالطبع يحتاجون إلى أن يأنس بعضهم ببعض ، ولهذا لا تجد أحدا يحبب إليه الخلوة إلا لسبب ، سبب خارج عن ما جبل الله عليه الناس ، (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة )) التقوى هي من الوقاية وهي أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، والرب في قوله: (( ربكم )) هو الخالق المالك المدبر ، فهو متضمن لهذه المعاني الثلاث : خالق أي موجد من العدم ، والثاني: مالك لا يشركه أحد في ملكه ، والثالث: مدبر للأمور على ما تقتضيه حكمته . (( الذي خلقكم من نفس واحدة )) (( الذي )) صفة لرب ، ولكنها صفة كاشفة ومعنى قولنا: كاشفة أي موضحة ، موضحة لهذه الربوبية أو لبعض معانيها ، واحترزنا بكلمة " كاشفة " عن كونها مقيدة ، لأننا لو جعلناها مقيدة لكان هناك ربان: رب خلقنا من نفس واحدة ، ورب لم يخلقنا من نفس واحد ، وليس الأمر كذلك ، بل الذي خلقنا من نفس واحدة هو رب واحد فتكون الصفة هنا صفة كاشفة أي موضحة لمعنى الربوبية أو لبعض معناها ، (( خلقكم )) أوجدكم (( من نفس واحدة وخلق منها زوجها )) هذه النفس هل يراد بها نفس بعينها أو المراد بالنفس الجنس ؟ الظاهر الأول ، أن المراد بالنفس نفس بعينها وهو آدم عليه الصلاة والسلام الذي هو أبو البشر خلقه الله تعالى من طين بيده الكريمة وعلمه أسماء كل شيء يحتاج إليه ، لأنه خلق من غير أن يكون هناك يتعلم منه اللغة فعلمه الله تعالى اللغات التي يحتاج إليها ، فيكون معنى قوله: (( علم آدم الأسماء كلها )) يعني مما يحتاج إليه ، وقوله: (( خلق منها زوجها )) أي خلق من هذه النفس زوجها ، وقد جاء في الآثار أنها خلقت من ضلعها الأيمن ـ والله أعلم ـ لكن ثبت في السنة أن المرأة خلقت من ضلع ، (( وخلق منها زوجها )) ولم يقل: زوجتها ، لأن اللغة الفصحة أن الزوج يطلق على الرجل والمرأة وأصله ضد الوتر ، لأن الزوجة إذا انضمت إلى زوجها صارت شافعة له بعد أن كان منفردا ، ولهذا يقال: الزوجة شريكة زوجها في الحياة ، لأن بعضهما انضم إلى بعض (( وخلق منها زوجها )) يعني بها أو يراد بها حواء . (( وبث منها رجالا كثيرا ونساء )) (( بث )) بمعنى نشر وأخرج (( منهما )) أي من النفس وزوجها (( رجالا كثيرا ونساء )) وهذان القسمان لا يخرج عنهما بنو آدم وما جاء في الخنثى فإن الخنثى فإما ذكر أو أنثى أو مركب منهما ، لكنه لا يخرج عن الذكورة أو الأنوثة ، وقوله: (( رجالا كثيرا ونساء )) ولم يقل: نساء كثيرات ، لأن الكثرة في الرجال عز بخلاف الكثرة في الإناث وإن كان الواقع أن النساء من بني آدم أكثر من الرجال كما استنبط ذلك شيخ الإسلام رحمه الله من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إنكن أكثر أهل النار وأن أهل النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون ) فإذا كن أكثر أهل النار وأهل النار من بني آدم تسعمائة تسعة وتسعون لزم من هذا أن يكن أكثر من الرجال ، وهذا هو الواقع ، لكن الكثرة في الرجال وهذا فخر ويفتخر الناس به بخلاف النساء فإن الكثرة منهن عالة وتعب وعناء (( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء )) . (( واتقوا الله الذي تساءلون به )) كرر الأمر بتقواه عزوجل لما لها من أهمية ، لأن الإنسان إذا وفق لتقوى الله صلحت أموره الدينية والدنيوية ، وقوله: (( الذي تساءلون به والأرحام )) في (( تساءلون )) قراءتان ، الأولى: (( تساءلون )) كما في المصحف ، والثانية: (( تساءلون )) وأصل (( تساءلون )): تتساءلون ، تتساءلون به والأرحام ، أي يسأل بعضكم بعضها به للحماية فيقول: أسألك بالله أن توقذني ، أسألك بالله أن لا تؤذيني ، أسألك بالله كذا وكذا مما يسأل ، فالله تعالى هو الذي يتساءل به الناس ، وقوله: (( والأرحام )) فيها قراءتان: بالجر ، وبالفتح ، فإذا كانت بالفتح فهي معطوفة على قوله: (( الله )) يعني واتقوا الأرحام لا تضيعوها ، لا تفرطوا في حقها ، والأرحام جمع رحم وهم القرابة ، فيكون في الآية أمر بصلة الأرحام والقيام بحقها ، وأما على قراءة الجر (( والأرحام )) فهي معطوفة على الضمير في " به " أي: تساءلون به وبالأرحام ، كيف التساؤل بالأرحام ؟ التساؤل بالأرحام أنه مما جرت به العادة عند العرب أنه يقول: أسألك بالله وبالرحم ، أو يقول: أسألك بالرحم التي بيني وبينك ، وهم لعصبيتهم يقدرون الرحم تقديرا بالغا ويحترمونها ويرون حمايتها ، ولهذا ذكرهم الله تعالى بها فقال: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام . فإذا قال قائل: هل بين القراءتين منافاة (( والأرحام )) (( والأرحام )) ؟ فالجواب: لا ، والقراءتان في الحقيقة تسر الكلمة كلمتين ، فإما أن تكون القراءة تبيانا لإحدى القراءتين يعني كل قراءة تبيانا للأخرى ، وإما أن تكون القراءة الثانية جاءت بمعنى جديد ، وهنا القراءتان إحداهما مبينة للأخرى أو كل واحدة جاءت بمعنى جديد ؟ كل واحدة جاءت بمعنى جديد ، فقراءة النصب فيها الأمر باتقاء الأرحام أي اتقاء التفريط في حقها ، والآية الثانية فيها التذكير بأن الناس يتساءلون بالأرحام ولم يتساءلوا بها إلا لعظم حقها بينهم . (( إن الله كان عليكم رقيبا )) لما أمر بتقواه عزوجل مرتين في الآية قال: (( إن الله كان عليكم رقيبا )) أي يراقبكم في جميع أحوالكم ، هل أنتم اتقيتم الله أم لم تتقوه ؟ هل أنتم اتقيتم الأرحام وقمتم بواجبها أم لم تتقوها ؟ هذا هو معنى قوله: (( إن الله كان عليكم رقيبا )) وختم الآية بهذه الجملة يراد بها التهديد من المخالفة ، كما لو قلت لأحد أبنائك: افعل كذا فأنا رقيب عليك ، فهذا يعني أنك تهدده بألا يخالف وأنه إن خالف فيجد عقوبته