تتمة تفسير الآية : (( آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضةً من الله إن الله كان عليما حكيمًا )) . حفظ
قال الله عز وجل: (( آبائكم وأبنائكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا )) لما قسم سبحانه وتعالى قسمة على ما اقتضته حكمته قطع خط الاعتراض على هذه القسمة ، لقوله: (( آبائكم وأبنائكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا )) . فلو قال قائل: الآباء أحق من أبناء لأن برهم واجب ؟ وقال الآخر: الأبناء أحق من آباء لأنهم قصار يحتاجون إلى رعاية في الغالب ؟ نقول: وراء ذلك كله حكمة الله عزوجل ، فنحن لا ندري آبائنا أو أبنائنا أيهم أقرب لنا نفعا . وهل المراد التفضيل بين الجنس والجنس أي بين الآباء والأبناء لا ندري الأبناء أقرب ؟ أم الآباء أم حتى بين الأبناء وبين الآباء ؟ ما فهمتم ؟ هل المعنى لا تدرون الآباء أقرب نفعا أم الأبناء ؟ أو لا تدرون أي الأبناء أقرب لكم نفعا وأي الآباء أقرب لكم نفعا ؟ العموم ، الآية تعم المعنيين يعني لا تدرون هل الآباء أنفع لكم أو الأبناء ولا تدرون هل الأكبر من الأبناء أصغر أم الأكبر ، وهل الأقرب من الآباء أقرب أم من الأعلى ، كثيرا ما يكون الجد أرعف وأرحم من الأب بأحفاده ، وكثيرا ما يكون الابن الأصغر أرحم من الابن الأكبر ، فنحن في الحقيقة لا ندري هل الآباء أبر وأنفع لنا أو الأبناء ، وهل أبناءنا بينهم أبر الكبير أو الصغير أو الوسط وكذلك بالنسبة للآباء لا ندري ، فلما كنا لا نعلم وجب أن نكل الأمر إلى عالمه وهو الله عز وجل . ثم قال: (( فريضة من الله )) (( فريضة )) هذه مصدر عاملها محذوف ، وقد يقال إنها مصدر نابت عن عاملها ، والتقدير على الأول: فرضنا ذلك فريضة ، وعلى الثاني نجعل (( فريضة )) هي نفسها عامل ولا تحتاج إلى عامل ينسبها ، فتكون تأكيدا لما سبق ويسمون هذا المصدر المؤكد للجملة التي قبله ولا يحتاج إلى عامل ، قال ابن مالك: " كابني أنت حقا " ، كلمة " حقا " ما فيها عامل لكن تؤكد الجملة التي سبقها ، هذه أيضا ما فيها عامل لكن لما قال: (( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ولأبويه )) وقصر وقدر صار هذا المصدر مؤكدا للجملة التي قبلها ، وقوله: (( فريضة )) الفرض في اللغة الحظ والقطع ، يقال مثلا: فرض اللحم ، يعني حظها ، وفرض العصا ، قطعه ، ولكنها في الشرع: ما ألزم به الشارع ، ما ألزم به الشارع فهو فرض ، ولا فرق بالقول الصحيح بين ما ثبت بدليل ظني أو بدليل قطعي ، وقال بعض العلماء: ما ثبت بدليل قطعي فهو فرض ، وما ثبت بدليل ظني فهو واجب ، والصحيح ألا فرق ، مادام قد ثبت أنه . فسمه فرضا أو سمه واجبا ، (( فريضة من الله )) وقوله: (( من الله )) أي صادرة منه لا من غيره ، فلم يقم بفرضها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، بل الله وحده هو الذي تولى فرضها . ثم قال: (( إن الله كان عليما حكيما )) كان عليما بمن يستحق وبمقدار ما يستحق ، وحكيما في وضع الحق في أهله كما وكيفا ، فهو عزوجل له العلم التام وله الحكمة التامة وبالعلم والحكمة تتم الأمور ، لأن تخلف الأمور سببه أحد أمرين: إما الجهل وإما السفه ، تخلف الأمور سببه أيش ؟ أمران: إما الجهل ، أو السفه ، فإذا وجد العلم ارتفع الجهل ، وإذا وجدت الحكمة ارتفع السفه ، فالله سبحانه وتعالى عليم بالأمور وبمن يستحق وبمقدار ما يستحق فهو حكيم حيث وضع الأشياء في مواضعها ، فلما اجتمع في حقه سبحانه وتعالى العلم والحكمة انتفى أي اعتراض يمكن أن يعترض به على الحكم ، عرفتم ؟ ولهذا نجد الجاهل يتخبط في الأحكام ، نجد أن الجاهل يتخبط في الأحكام لأنه جاهل ، ولو كان عنده حسن قصد وحسن إرادة لكنه جاهل فتجده متخبطا ، ونجد العالم السفيه الذي ليس عنده حكمة ترشده إلى ما فيه الخير نجد أنه أيضا يتخبط ، أما من لديه علم وحكمة فإنه سبحانه وتعالى كامل الحكم أحكامه تامة . والعليم والحكيم من أسماء الله عزوجل ، والعلم إدراك المعلوم على ما هو عليه ، هذا تعريفه ، العلم إدراك المعلوم على ما هو عليه ، فخرج بقولنا " إدراك المعلوم " من لم يدرك ، فهذا جاهل ، جاهل جهلا بسيطا ، وخرج بقولنا " على ما هو عليه " من أردك الشيء على غير ما هو عليه وهذا جاهل لكن جهله مركب ، وأيهما أولى الجهل المركب أو البسيط ؟ البسيط أهون ، ونضرب ثلاثة أمثلة الآن: سأل سائل عن غزوة بدر فقيل له: في رمضان في السنة الثانية ، ما تقولون في هذا المجيب ؟ هذا عالم ، وسأل سائل آخر عن وقعة بدر غزوة بدر متى كانت ؟ فأجيب بأنها في السنة الثالثة ، هذا جاهل جهلا مركبا ، وسأل سائل: متى كانت غزوة بدر ؟ فأجيب بلا أدري ، هذا جاهل جهلا بسيطا وهو خير من الجهل المركب ، ويقال: إن رجلا يسمى توما يدعي الحكمة وأنه عالم حكيم ،
فقال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب ،
يقول الحمار ، حمار جاهل أو غير جاهل؟ جاهل لكن جهله بسيط وتوما الذي صاحبه جاهل مركب ، وعلى هذا يقول شاعر آخر:
ومن رام العلوم بغير شيخ يضل عن الصراط المستقيم
وتلتبس العلوم عليه حتى يكون أضل من توما الحكيم
تصدق بالبنات على رجال يريد بذلك جنات النعيم ،
هذا توما بدأ يتصدق على عالم النساء بدون أي شيء بدون عقد النكاح ، يقول تبغى تصدق عليك ؟ يلا خذ ، يريد بذلك التقرب إلى الله ، يعني يهب النساء ليزنى بهن ويظن أن ذلك تقرب إلى الله وصدقة ، هذا جهل مركب . العلم ويش تعريفه ؟ إدراك المعلوم على ما هو عليه . (( الحكيم )) مشتق من الحكم والحكمة ، من أسماء الله الحكيم وهو مشتق من الحكمة والحكمة ، فهو عزوجل حاكم وهو محكم ، فعليه تكون حكيم بمعنى فاعل إذا كانت من الحكم ، وحكيم بمعنى محكم إذا كانت من الحكمة ، عرفتم ؟ ويبقى عند إشكال في حكيم هل يأتي بمعنى محكم ؟ نعم ، ومنه قول الشاعر:
أمن ريحانة الداع السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
أمن ريحانة الداع السميع أي المسمع ، يؤرقني وأصحابي هجوع ، نعود مرة ثانية نقول إذا كانت من الحكم والإحكام فلابد أن نعرف ، الحكم ـ أعني حكم الله ـ ينقسم إلى قسمين: حكم كوني ، وحكم شرعي ، حكم كوني وحكم شرعي ، فقول أخي يوسف: (( لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي )) هذا حكم كوني ، ولهذا لم يقل: علي ، " لي " أي يقدر لي ذلك وقوله تعالى في سورة الممتحنة لما ذكر أحكام النساء قال: (( ذلكم حكم الله يحكم بينكم )) هذا حكم شرعي ، الحكم ينقسم إلى قسمين: كوني وشرعي ، ما الفرق بينهما ؟ الفرق بينهما يقارب الفرق بين الإرادتين: الكونية ، والشرعية ، فيما تعلق بما يحبه ويكرهه فهو ؟ اصبر ، ما فهمتم ما أريد ، ما تعلق بما يحبه ويكرهه أي ما يحبه فأمر به أو يكرهه فنهى عنه ؟ هذا شرعي ، وما تعلق بتقديره سواء أحبه أم لم يحبه فهو كوني ، الحكم الكوني لابد من وقوعه والحكم الشرعي قد يمتثل وقد لا يمتثل ، فيتبين بهذا أن الحكم قريب من الإرادة في التقسيم ، أما على الوجه الثاني في الحكيم وهو المحكم فنقول: الحكمة وضع الشيء في مواضعه وتتعلق في الحكم الكوني والحكم الشرعي ، ثم هي إما حكمة باعتبار الصورة المعينة وإما الحكمة باعتبار الغاية ، فإذا ضربت اثنين في اثنين صارت أربعة ، الحكمة إما أن تتعلق بالحكم الكوني على صورته المعينة وعلى غايته الحميدة ، فمثلا: الحكم الكوني إذا حكم الله عزوجل على أناس بالفقر والمرض وزلازل وما أشبه ذلك ، هذا حكم لاشك أنه متضمن لحكمة ، كونه وقع على هذا الوجه حكمة ، والغاية منه حميدة هذه حكمة (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) ، خلق الإنسان على هذه الصفة لحكمة ، خلق قائما منتسبا ، وغيره على العكس ، لأن الإنسان له وظائف لا تتم إلى على خلقه على هذا الوجه ، فالإنسان له وظائف: قيام ركوع سجود لا يتم إلى على هذا الوجه ، فلذلك خلقه الله تعالى قائما منتسبا دون غيره من الحيوانات ، كونه على هذا الوجه لحكمة ، وكون الغاية منه ... أداء وظائف التي كلف الله بها هذه حكمة أخرى ، وهكذا فكر في الشمس والقمر والجبال والأنهار وما أشبهها ، في الشرع أيضا حكمة على الصورة المعينة وحكمة الغاية ، كون الشرع على هذا الوجه ، الصلوات خمس وأوقاتها متفرقة وعددها كذا وكذا ، هذا لاشك أنه مطابق للحكمة ، ولهذا تجد الصلوات كلها مقرونة بتغير الشمس في أفق ، فالفجر عند إقبالها ، والمغرب والعشاء عند إدبارها ، والظهر والعصر عند توسطها وميلها ، لابد أن يكون هناك سبب ، هذه حكمة ، الغاية من الصلاة أيش ؟ حكمة أيضا ، ولهذا أقول لكم الآن ... تتعلق بالحكم الكوني والشرعي على الصورة التي هو عليها وعلى غاية المقصودة منه ، فتكون أربعة ، حكمة في الحكم الكوني باعتبار الصورة التي هو عليها ، وحكمة في الحكم الكوني باعتبار غايته ، وحكمة في الحكم الشرعي باعتبار الصورة التي هو عليها ، وحكمة في الحكم الشرعي باعتبار الغاية المقصودة منه ، كل هذه المعاني الجليلة العظيمة كلها تحملها قوله: (( حكيما )) فأسماء الله حقيقة مملوءة من المعاني ، حسنى على ما وصفها الله عزوجل . نرجع الآن إلى فوائد الآية ، وأظن أننا أخذنا منها ؟ ما أخذنا ، أبد ؟ طيب