تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ) . قالت : قلت : يا رسول الله ،كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟! قال : ( يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم ) متفق عليه . هذا لفظ البخاري ... " .
الشيخ : وهذا فردٌ مِن أفراد قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما كل امرئ ما نوى ) ، وفي هذا الحديث عِبرة ، عِبرة : أن من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان ، فإنه يكون معهم في العقوبة ، الصالح والطالح ، العقوبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح ، والبر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، والمصلي والمستكبر ولا تترك أحدا ، ويوم القيامة يبعثون على نياتهم ، يقول الله عز وجل : (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) ، الحاصل أن هذا الحديث ، أو الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثم يبعثون على نياتهم ) فهو كقوله : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما كل امرئ ما نوى ) ، والله الموفق .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ) متفق عليه . ومعناه : لا هجرة من مكة لأنها صارت دار إسلام ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا هجرة بعد الفتح ، وإذا استنفرتم فانفروا ) ، ( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ) : في هذا الحديث نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة بعد الفتح ، فقال : ( لا هجرة ) : وهذا النفي ليس على عمومه ، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح بل : ( إن الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها ) كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن المراد بالنفي هنا نفي الهجرة من مكة ، كما قاله المؤلف رحمه الله ، لأن مكة بعد الفتح صارت بلاد إسلام ، ولن تعود بعد ذلك بلاد كفر ، ولذلك نفى النبيُ صلى الله عليه وسلم أن تكون هجرة بعد الفتح ، يعني بعد فتح مكة ، وكانت مكة تحت سيطرة المشركين ، وأخرجوا منها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فهاجر صلى الله عليه وسلم بإذن ربه إلى المدينة ، وبعد ثماني سنوات رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحا مظفَّرا منصورا صلوات الله وسلامه عليه ، فصارت البلد بدلا مِن كونها بلد كفر ، صارت بلد إيمان وبلد إسلام ، ولم يكن منها هجرة بعد ذلك ، وفي هذا دليل على أن مكة لن تعود إلى أن تكون بلاد كفر ، بل ستبقى بلاد إسلام إلى أن تقوم الساعة ، أو إلى أن يشاء الله ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( ولكن جهاد ونية ) : يعني الأمر بعد هذا جهاد ، يعني يخرج أهل مكة مِن مكة إلى الجهاد ، والنية : النية يعني النية الصالحة في الجهاد في سبيل الله ، وذلك بأن ينوي الإنسان بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( وإذا استنفرتم فانفروا ) : يعني إذا استنفركم ولي أمركم للجهاد في سبيل الله فانفروا وجوبا ، وحينئذ يكون الجهاد فرضَ عين ، إذا استنفر الناس للجهاد وجب عليهم أن ينفروا وألا يتخلف منهم أحد إلا من عذره الله ، لقول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئا )) ، المهم أنه إذا استنفر الإمام ، الولي على الناس إذا استنفر الناس ، وجب عليهم أن ينفروا ، ولا يحل لأحد أن يتخلف إلا من عذره الله ، وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرضَ عين ، الموضع الثاني : إذا حصر بلدَهُ العدو ، يعني : إذا جاء العدو حتى وصل البلد وحصر البلد صار الجهاد فرض عين ، ووجب على كل أحد أن يقاتل حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال ، لأن هذا قتال دفاع ، وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب ، فيجب في هذه الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم ، الحال الثالثة : إذا حضر الصف والتقى الصفان صف الكفار وصف المسلمين ، صار الجهاد حينئذ فرضَ عين ، ولا يجوز لأحد أن ينصرف ، كما قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )) ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات ، الموضع الرابع : إذا احتيج إلى الإنسان ، بأن يكون السلاح لا يعرفه إلا فرد مِن فرد ، وكان الناس يحتاجون إلى هذا الرجل لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلا ، فإنه يتعين عليه أن يجاهد ، وإن لم يستنفره الإمام ، وذلك لأنه مُحتاجٌ إليه ، ففي هذه المواطن الأربعة يكون الجهاد فرض عين ، وما سوى ذلك فإنه يكون فرض كفاية ، قال أهل العلم : " ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة " ، ولو مرة واحدة يجاهدون أعداء الله ، يقاتلونهم لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن من حيث إنه وطن ، لأن الدافع عن الوطن مِن حيثُ إنه وطن يكون من المؤمن والكافر ، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم ، لكن المسلم يدافع عن دين الله ، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلا ، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام الذي حل في هذا البلد ، ولذلك يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم ، يجب علينا أن نذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك ، دعوة غير مناسبة ، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية ، ويقال : إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء لأن بلدنا بلد دين بلد إسلام ، تحتاج إلى حماية تحتاج إلى دفاع ، فلا بد أن ندافع عنها بهذه النية ، أما الدفاع بنية الوطنية أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ، ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد ، ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حَميَّة ويقاتل شجاعة ويقاتل ليُرى مكانه ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) ، انتبهوا لهذا القيد : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ) ، لا لأنه وطنه ، إيش وطنك ؟ إذا كنت تقاتل للوطن فأنت والكافر سواء ، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ممثلا في بلدك ، أو ممثلة في بلدك ، لأن بلدك بلد إسلام ، ففي هذا الحال ربما يكون القتال قتالا في سبيل الله ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما مِن مَكلُومٍ يُكْلَمُ في سبيل الله والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله ) يُكْلم : يعني يُجرح ، ( إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعُب دمًا ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ) : فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان قاتل في سبيل الله ، والقتال في سبيل الله : أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فيجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس أن القتال للوطن ليس قتالا صحيحا ، وإنما يُقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وأقاتل عن وطني لأنه وطن إسلامي فأحميه من إعدائه وأعداء الإسلام ، فبهذه النية تكون النية صحيحة ، والله الموفق .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ، فقال : ( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا ، إلا كانوا معكم حبسهم المرض ) . وفي رواية : ( إلا شركوكم في الأجر ) رواه مسلم . ورواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - ، قال : رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا ، إلا وهم معنا ؛ حبسهم العذر ) ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاة ) يعني : في غزوة ، فقال : ( إن بالمدينة لأقوامًا ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا ، إلا وهم معكم حبسهم المرض ) وفي لفظ : ( إلا شركوكم في الأجر ) ، وكذلك حديث البخاري عن أنس رضي الله عنه نحو هذا الحديث . ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا نوى العمل الصالح ، ولكنه حبسه عنه حابس ، فإنه يُكتب له الأجر ، يُكتب له أجر ما نوى ، أما إذا كان يعمله في حال عدم العذر ، يعني لما كان قادرا كان يعمله ثم عجز عنه فيما بعد ، فإنه يكتب له أجر العمل كاملا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مرض أو سافر كُتِب له ما كان يعمل صحيحا مقيما ) ، فالمتمني للخير الحريص عليه إن كان من عادته أنه يعمله ، ولكن حبسه عنه حابس كتب له أجره كاملا ، فمثلا : إذا كان الإنسان من عادته أن يصلي مع جماعة في المسجد ، ولكنه حبسه حابس كنوم أو مرض أو ما أشبه ذلك ، فإنه يكتب له أجر المصلي مع الجماعة تماما من غير نقص ، وكذلك إذا كان من عادته أن يصلي تطوعا ولكنه منعه منه مانع ولم يتمكن منه ، فإنه يكتب له أجره كاملا ، وكذلك إذا كان من عادته أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم عجز عن ذلك ومنعه مانع ، فإنه يكتب له الأجر كاملا ، أما إذا كان ليس من عادته أن يفعله ، فإنه يكتب له أجر النية فقط ، دون أجر العمل ، ودليل ذلك : ( أن فقراء الصحابة رضي الله عنهم قالوا : يا رسول الله سبقنا أهل الدُّثور بالأجور والنعيم المقيم -يعني أن أهل الأموال سبقونا بالصدقة والعتق- فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه أدركتم مَن سبقكم ، ولم يدرككم أحد إلا من عمل مثلما عملتم ، فقال : تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، ففعلوا فعلم الأغنياء بذلك ، ففعلوا مثلما فعلوا ، فجاء الفقراء للرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا فعلوا مثله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) ، ولم يقل لهم : إنكم أدركتم أجر عملهم ، لكن لا شك أن لهم أجر نية العمل ، ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فيمن آتاه الله مالا فجعل ينفقه في سُبُل الخبر ، وكان رجل فقير يقول : لو أن لي مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فهو بنيته فهما في الأجر سواء ) ، يعني سواء في أجر النية ، أما العمل فإنه لا يكتب له أجره إلا إذا كان مِن عادته أن يعمله ، وفي هذا الحديث إشارة إلى أن من خرج في سبيل الله في الغزو والجهاد في سبيل الله ، فإن له أجر من شارك ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( ما سرتم مسيراً ولا قطعتم واديًا ولا شِعبًا إلا وهم معكم ) ، ويدل لهذا قوله تعالى : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) . ونظير هذا أنَّ الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ، فإنه لا يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة ، وهذا من فضل الله عز وجل أن تكون وسائل العمل فيها هذا الأجر الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله الموفق . لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس - رضي الله عنهم - ، وهو وأبوه وجده صحابيون ، قال : كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها ، فوضعها عند رجل في المسجد ، فجئت فأخذتها فأتيته بها . فقال : والله ، ما إياك أردت ، فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( لك ما نويت يا يزيد ، ولك ما أخذت يا معن ) رواه البخاري ... " .
القارئ : بسم الله الرحمن الرحيم : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، نقل المؤلف رحمه الله تعالى : " عن أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس رضي الله عنهم " . الشيخ : إيش ؟ أعد أعد أعد . القارئ : " عن أبي يزيد ، مَعن بن يزيد بن الأخنس رضي الله عنهم وهو وأبوه وجده صحابيون، قال : كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئتُ فأخذتها فأتيته بها. فقال : والله، ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( لك ما نويتَ يا يزيد، ولك ما أخذتَ يا معن ) رواه البخاري " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس - رضي الله عنهم - ، وهو وأبوه وجده صحابيون ، قال : كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها ، فوضعها عند رجل في المسجد ، فجئت فأخذتها فأتيته بها . فقال : والله ، ما إياك أردت ، فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( لك ما نويت يا يزيد ، ولك ما أخذت يا معن ) رواه البخاري ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله في قصة معن بن يزيد وأبيه رضي الله عنهما : أن أباه يزيد أخرج دراهم عند رجل في المسجد ليتصدق بها على الفقراء ، فجاء ابنه معن فأخذها ، أخذها : ربما يكون ذلك الرجل الذي وُكِّل فيها لم يعلم أنه ابن يزيد ، ويحتمل أنه أعطاه لأنه من المستحقين ، فبلغ ذلك أباه يزيد فقال له : " ما إياك أردت " : يعني ما أردت أن أتصدق بهذه الدراهم عليك ، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لك يا يزيد ما نويت ، ولك يا معن ما أخذت ) فقوله عليه الصلاة والسلام : ( لك يا يزيد ما نويت ) : يدل على أن الأعمال بالنيات ، وأن الإنسان إذا نوى الخير حصل له ، وإن كان يزيد لم ينو أن يأخذ هذه الدراهم ابنُهُ ، لكنه أخذها وابنه من المستحقين فصارت له ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لك يا معن ما أخذت ) : ففي هذا الحديث دليل كما ساقه المؤلف من أجله على أن الأعمال بالنيات ، وأن الإنسان يكتب له أجر ما نوى ، وإن وقع الأمر على خلاف ما نوى .
فوائد حديث أبي يزيد بن يزيد بن الأخنس : " ... ( لك ما نويت يا يزيد ، ولك ما أخذت يا معن ) ... " .
الشيخ : وهذه القاعدة لها فروع كثيرة منها : ما ذكره العلماء رحمهم الله أن الرجل لو أعطى زكاته شخصا يظن أنه من أهل الزكاة ، فتبين أنه غني ، وليس من أهل الزكاة ، فإن زكاته تجزئ ، وتكون مقبولة تبرئ بها ذمته ، لأنه نوى أن يعطيها من هو أهل لها ، فإذا نوى فله نيته . ومنها : أن الإنسان لو وقّف شيئا ، أراد أن يوقف بيتا صغيرا ، فقال : وقفت بيتي الفلاني وأشار إلى الكبير ، لكنه خلاف ما في قلبه ، فإنه على ما نوى ، وليس على ما سبق به لسانه . ومنها أيضا : لو أن إنسانا جاهلا لا يعرف الفرق بين العمرة وبين الحج ، فحج مع الناس فقال : لبيك حجًا وهو يريد عمرة يتمتع بها إلى الحج ، فإن له ما نوى ، ما دام قصده أنه يريد العمرة لكن قال : لبيك حجا مع هؤلاء الناس فله ما نوى ، ولا يضر سبق لسانه بشيء . ومنها أيضا : لو قال الإنسان لزوجته أنت طالق ، ويريد أنها طالق من قيد ، لا من النكاح فله ما نوى ، ولا تطلق بذلك زوجته ، المهم أن هذا الحديث له فوائد كثيرة ، وفروع منتشرة في أبواب الفقه . ومن فوائد هذا الحديث : أنه يجوز للإنسان أن يتصدق على ابنه ، وهو كذلك ، يعني أنه يجوز أن يتصدق الإنسان على ابنه ، والدليل على هذا ما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما قال لزوجته وقد أرادت أن تتصدق ، قال لها : " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه " ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة ، وحث عليها ، فأرادت زينب امرأة ابن مسعود أن تتصدق بشيء من مالها ، فقال لها زوجها : ( أنا وولدك أحق من تصدقت عليه ) ، لأنه كان فقيرا رضي الله عنه ، فقالت : ( لا ، حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : صدق عبد الله ، زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه ) . ومنها أيضا : أنه يجوز أن يُعطي الإنسان ولده من الزكاة بشرط ألا يكون في ذلك إسقاطٌ لواجب عليه ، يعني مثلا : لو كان الإنسان عنده زكاة وأراد أن يعطيها ابنَه من أجل ألا يطالبه بالنفقة ، فهذا لا يجزئ ، لأنه أراد بإعطائه أن يُسقط واجب نفقته ، أما لو أعطاه ليقضي دينا كان عليه ، مثل أن يكون على الابن حادث ويعطيه أبوه من الزكاة ما يسدد به هذه الغرامة ، فإن ذلك لا بأس به ، وتجزئه من الزكاة ، لأن ولده أقرب الناس إليه ، وهو الآن لم يقصد بهذا إسقاط واجب عليه ، إنما قصد بذلك إبراء ذمة ولده لا الإنفاق عليه ، فإذا كان هذا قصده فإن الزكاة تحل له ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري - رضي الله عنه - ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة - رضي الله عنهم - ، قال : جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : يا رسول الله ، إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : ( لا ) ، قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ فقال : ( لا ) ، قلت : فالثلث يا رسول الله ؟ قال : ( الثلث والثلث كثير - أو كبير - إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك ) ، قال : فقلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ قال : ( إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون . اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة . متفق عليه ... " .
القارئ : " ( جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع مِن وجع اشتد بي ، فقلت : يا رسولَ الله ، إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا ، قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ فقال : لا ، قلتُ : فالثلث يا رسول الله ؟ قال : الثلثُ والثلث كثير - أو كبير - ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) ". الشيخ : بس .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... عن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري - رضي الله عنه - ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة - رضي الله عنهم - ، قال : جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : يا رسول الله ، إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : ( لا ) ، قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ فقال : ( لا ) ، قلت : فالثلث يا رسول الله ؟ قال : ( الثلث والثلث كثير - أو كبير - إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك ) ، قال : فقلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ قال : ( إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون . اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة . متفق عليه ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه يعوده في مرض ألمَّ به وذلك في مكة ، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة فتركوا بلدهم لله عز وجل ، وكان مِن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعود المرضى من أصحابه ، كما أن يزور مَن يزور منهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقا ، على أنه الإمام المتبوع صلوات الله وسلامه عليه ، كان من أحسن الناس خلقا ، وألينهم لأصحابه ، وأشد تحببا إليه ، فجاءه يعوده ، فقال يا رسول الله : " إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى " : يعني أصابه وجع عظيم كبير ، " وأنا ذو مال " : ذو مال كثير أو قال : كبير ، يعني أن عنده مالا كثيرا ، " ولا يرثني إلا ابنة لي " : يعني ليس له ورثة بالفرض إلا هذه البنت ، " أفتصدق بثلثي مالي " : يعني بثلثين اثنين من ثلاثة ؟ قال : ( لا ) ، قلت : أفتصدق بالشطر ؟ ) : يعني بالنصف ، ( قال : لا ، قلت : بالثلث يا رسول الله ؟ قال : الثلث والثلث كثير ) ، فقوله : أتصدق بثلثي مالي : يعني أعطيه صدقة ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، لأن سعدا في تلك الحال كان مريضا مرضا يخشى منه الموت ، فلذلك منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يتصدق بأكثر مِن الثلث ، لأن المريض مرض الموت المـَخوف لا يجوز أن يتصدق بأكثر من الثلث ، لأن ماله قد تعلق به حق الغير وهم الورثة ، أما من كان صحيحا ليس فيه مرض أو فيه مرض يسير لا يُخشى منه الموت فله أن يتصدق بما يشاء ، بالثلث بالنصف بالثلثين بماله كله ، لا حرج عليه ، لكن لا ينبغي أن يتصدق بماله كله إلا إذا كان عنده شيء يعرف أنه سوف يستغني به عن عباد الله ، المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منعه أن يتصدق بما زاد على الثلث ، وقال : ( الثلث والثلث كثير أو قال : كبير ) : وفي هذا دليل على أنه إذا نقص عن الثلث فهو أحسن وأكمل ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لو أن الناس غضوا مِن الثلث إلى الربع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الثلث والثلث كثير ) " ، وقال أبو بكر رضي الله عنه : " أرضى ما رضيه الله لنفسه " : يعني الخمس ، فأوصى بالخمس رضي الله عنه ، وبهذا نعرف أن عمل الناس اليوم وكونهم يوصون بالثلث خلاف الأولى ، وإن كان هو جائزا ، لكن الأفضل أن يكون أدنى من الثلث ، إما الربع أو الخمس ، قال فقهاؤنا رحمهم الله : " والأفضل أن يوصي بالخمس لا يزيد عليه ، اقتداء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه " ، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إنك أن تَذر ورثتك أغنياء خير مِن أن تذرهم عالة ) : يعني كونك تبقي المال ولا تتصدق به حتى إذا مت وورثه الورثة صاروا أغنياء به ، هذا خير من أن تذرهم عالة : يعني لا تترك لهم شيئا ، ( يتكففون الناس ) : يعني يسألون الناس بأكفهم أعطونا أعطونا . وفي هذا دليل على أن الميت إذا خلف مالا للورثة فإن ذلك خير له ، لا يظن الإنسان أنه إذا خلف المال وَوُرِث منه قَهرا عليه أنه لا أجر له في ذلك ، لا ، بل له أجر ، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ) : يعني ( يتكففون الناس ) ، لأنك إذا تركت المال للورثة انتفعوا به وهم أقارب ، وإذا تصدقت به انتفع به الأباعد ، والصدقة على القريب أفضل من الصدقة على البعيد ، لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة ، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على الحديث . الطالب : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى ما تجعل في فِي امرأتك ، قال : فقلت : يا رسول الله ، أُخلَّف بعد أصحابي ؟ قال : إنك لن تُخلَّف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرَّ بك آخرون ) .
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك ) ، قال : فقلت : يا رسول الله قال : فقلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ قال : ( إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون . اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة . متفق عليه ... " .
الشيخ : عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قصة مرضه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعوده ، وأنه استشار النبي صلى الله عليه وسلم هل يتصدق بثلثي ماله ، أو بنصفه ، أو بثلثه ، فقال : ( الثلث والثلث كثير ) ، ثم بين له أنه إذا ترك ورثته أغنياء كان خيرا من أن يتركهم عالة يتكففون الناس ، ثم قال : ( يا رسول الله أخُلَّف بعد أصحابي ؟ فقال : إنك لن تخلف ) ، بل قال قبل ذلك : ( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك ) يقول : ( لن تنفق نفقة ) يعني : مالا ، لن تنفق مالا دراهم أو دنانير أو ثيابا أو فرشا أو طعاما أو غير ذلك تبتغي به وجه الله ، إلا أجرت عليه ، الشاهد من هذا قوله : ( تبتغي به وجه الله ) : يعني تقصد به وجه الله عز وجل ، يعني تقصد به أن تصل إلى الجنة حتى ترى وجه الله عز وجل ، لأن أهل الجنة -جعلني الله وإياكم منهم- يرون الله سبحانه وتعالى ، ينظرون إلى وجه الله عيانا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب ، وكما يرون القمر ليلة البدر ، يعني أنهم يرون ذلك حقا ، فقال : ( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك ) : يعني حتى اللقمة التي تطعمها امرأتك تؤجر عليها إذا قصدت بها وجه الله ، مع أن الإنفاق على الزوجة أمرٌ واجب ، لو لم تنفق لقالت : أنفق أو طلق ، ومع هذا إذا أنفقت على زوجتك تريد به وجه الله آجرك الله على ذلك ، وكذلك إذا أنفقت على أولادك ، إذا أنفقت على أمك على أبيك ، بل إذا أنفقت على نفسك تبتغي بذلك وجه الله فإن الله سبحانه وتعالى يثيبك على هذا ، ثم قال رضي الله عنه : ( أُخلَّفُ بعد أصحابي ؟ ) : يعني أأُخلف بعد أصحابي ؟ يعني هل أتأخر بعد أصحابي فأموتَ بمكة ؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يُخلَّف فقال : ( إنك لن تُخلَّف ) وبين له أنه لو خُلِّف ثم عمل عملا يبتغي به وجه الله إلا ازداد به عند الله درجة ورفعة ، يعني لو فُرِض أنك خُلِّفت ولم تتمكن من الخروج من مكة وعملت عملا تبتغي به وجه الله ، فإن الله تعالى يزيدك به رفعة ودرجة ، رفعة في المقام والمرتبة ، ودرجة في المكان ، فيرفعك الله عز وجل في جنات النعيم درجات ، حتى لو عملت بمكة وأنت قد هاجرت منها ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولعَلَّكَ أنْ تُخلَّف ) : أن تخلف هنا غير أن تخلف في الأول ، ( لعلك أن تُخلَّف ) يعني : أن تعمَّر في الدنيا ، وهذا هو الذي وقع ، فإن سعد بن أبي وقاص عُمِّر زمانا طويلا ، حتى إنه رضي الله عنه كما ذكر العلماء خَلَّف سبعة عشر ذكرا ، واثنتي عشرة بنتا ، سبعة عشر ذكر ، واثنتي عشرة بنتا ، وهو كان بالأول ما عنده إلا بنت واحدة ، ولكن بقي وعُمِّر وَرُزق أولادًا سبع عشرة ابنا ، واثنتي عشرة ابنة ، قال : ( ولعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ ويُضرَّ بك آخرون ) ، وهذا الذي حصل فإن سعدا رضي الله عنه خُلِّف ، وصار له أثر كبير في الفتوحات الإسلامية ، وفتح فتوحات عظيمة كبيرة ، فانتفع به أقوام وهم المسلمون ، وضُرَّ به آخرون وهم الكفار والله الموفق . القارئ : والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . نقل المؤلف رحمه الله تعالى في سياق حديث سعد : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أَمضِ لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائسُ سعدُ بن خولة ) : يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة ، متفق عليه " . الشيخ : ما في شرح ، ما فيه شرح .
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون . اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة . متفق عليه ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في بقية حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما قال له النبي عليه الصلاة والسلام : ( لعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرَّ بك آخرون ) وقلنا : إن هذا الأمر وقع ، فإن سعد بن أبي وقاص عُمِّر حتى فتح الله على يديه بلاد كثيرة من بلاد الكفر ، فانتفع بذلك المسلمون ، وضُرَّ بذلك الكافرون ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أَمضِ لأصحابي هجرتهم ) : سأل الله أن يمضي لأصحابه هجرتهم وذلك بأمرين : الأمر الأول : ثباتهم على الإيمان ، لأنه إذا ثبت الإنسان على الإيمان ثبت على الهجرة ، والثاني : ألا يرجع أحدٌ منهم إلى مكة بعد أن خرج منها مهاجرا إلى الله ورسوله ، لأنك إذا خرجت مِن البلد مهاجرا إلى الله ورسوله فهو كالمال الذي تتصدق به ، تكون البلد مثل المال الذي تتصدق به لا يمكن أن ترجع فيه ، وهكذا كل شيء تركه الإنسان لله لا يرجع فيه ، ومن ذلك ما وفق فيه كثير من الناس من إخراج التلفزيون من بيوتهم توبة غلى الله وابتعادا عنه وعما فيه من الشرور ، فهؤلاء قالوا : هل يمكن أن نعيده الآن إلى البيت ؟ نقول : لا ، بعد أن أخرجتموه لله لا تعيدونه ، لأن الإنسان إذا ترك شيئا لله وهجر شيئا لله فلا يعود فيه ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ، سَأَلَ ربه أن يمضي لأصحابه هجرتهم ، قال : ( ولا تردهم على أعقابهم ) : يعني لا تجعلهم ينكسون عن الإيمان ، فيرتدون على أعقابهم ، لأن الكفر تأخر والإيمان تقدم ، وهذا على عكس ما يقوله الملحدون اليوم ، حيث يصفون الإسلام بالرجعية ، ويقولون : " إن التقدمية أن ينسلخ الإنسان من الإسلام وأن يكون علمانيا " ، يعني علمانيا بمعنى : أنه لا يفرق بين الإيمان الكفر والعياذ بالله ، ولا بين الفسوق والطاعة ، فالإيمان هو التقدم حقيقة ، المتقدمون هم المؤمنون ، والتقدم يكون بالإيمان ، والردة تكون نكصا على العقبين ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا : ( ولا تردهم على أعقابهم ) .
فوائد حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : " ... جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، ... " .
الشيخ : في هذا الحديث من الفوائد فوائد عظيمة كثيرة : منها : أن مِن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم عيادة المرضى ، من هدي النبي صلى الله عليه وسلم عيادة المرضى ، لأنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وفي عيادة المرضى فوائد ، فوائد للعائد ، وفوائد للمَعود ، أما العائد فإنه يؤدي حق أخيه المسلم ، لأن من حق أخيك المسلم أن تعوده إذا مرض . ومنها : أن الإنسان إذا عاد المريض فإنه لا يزال في مَخرَفة الجنة ، يعني يجني ثمار الجنة حتى يعود . ومنها : أن في ذلك تذكيرا للعائد بنعمة الله عليه بالصحة ، لأنه إذا رأى هذا المريض ورأى ما هو فيه من المرض ، ثم رجع إلى نفسه ، ورأى ما فيها من الصحة والعافية عرف قدر نعمة الله عليه بهذه العافية ، لأن الشيء إنما يعرف بضده . ومنها : أن فيها جلبا للمودة والمحبة ، فإن الإنسان إذا عاد المريض صارت هذه العيادة في قلب المريض دائما على قلبه ، دائما على قلبه يتذكرها وكلما ذكرها أحب الذي يعوده ، وهذا يظهر كثيرا فيما إذا برئ المريض ، وحصلت منه ملاقاة لك ، تجده يتشكر منك ، وتجد أن قلبه ينشرح بهذا الشيء . أما المـَعود فإن له فيها فائدة أيضا : لأنها تؤنِّسه وتشرح صدره ، ويزول عنه ما فيه من الهم والغم من المرض ، وربما يكون العائد موفقا يذكره بالخير والتوبة والوصية إذا كان يريد أن يوصي بشيء عليه من الديون أو غيرها ، فيكون في ذلك فائدة للمَعود فائدة كبيرة ، ولهذا قال العلماء : " ينبغي لمن عاد المريض أن ينفس له في أجله " : يعني يفرحه يقول : ما شاء الله أنت اليوم في خير وما أشبه ذلك ، يعني مو بلازم يقول : أنت طيب ، قد يكون اليوم أشد مرضا من أمس ، لكن يقول : أنت اليوم في خير ، لأن المؤمن كله خير ، كل أمر المؤمن خير ، إن أصابه ضراء فهو بخير ، وإن أصابته سراء فهو في خير ، فيقول : اليوم أنت بخير والحمد لله ، وما أشبه ذلك مما يدخل عليه السرور ، والأجل محتوم ، إن كان هذا المرض أجله مات ، وإن كان بقي له شيء من الدنيا بقي ، المهم أنه ينبغي كما قال أهل العلماء : أن ننفس له في أجله ، وينبغي أيضا أن نذكره التوبة ، لكن لا يقول له ذلك بصفة مباشرة ، لأنه ربما ينزعج ويقول : لولا أنه رأى أن مرضي خطير ما ذكرني بالتوبة ، لكن يبدأ يذكر من الآيات إن كان يحفظ الآيات أو الأحاديث التي فيها الثناء على التائبين ما يتذكر به المريض ، وينبغي كذلك أن يذكره الوصية ، ما يقول : أوص فإن أجلك قريب ، إذا قال هكذا انزعج ، يُذكر مثلا بقصص واردة عليه مثلا ، يقول فلان مثلا وكان عليه دين وكان رجل حازم مثلا وكان يوصي أهله بقضاء دينه ، وما أشبه ذلك من الكلمات التي لا ينزعج بها ، قال أهل العلم : " وينبغي أيضا إذا رأى منه تشوفا إلى أن يقرأ عليه ينبغي أن يقرأ عليه " ، ينفث عليه بما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام مثل قوله : ( اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا ) ومثل قوله : ( ربنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمك أمرك في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض ، أنت رب الطيبين اغفر لنا حُوبَنا وخطايانا ، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع ، فيبرأ ) .