شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،قال : ( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم . وعن أبي عبد الرحمان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال : ( إن الله - عز وجل - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه الترمذي، وقال : حديث حسن ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : هذه الأحاديث الثلاثة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعا ، كلها تتعلق بالتوبة ، أما حديث أبي موسى فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس مِن مغربها ) : وهذا من كرمه عز وجل ، أنه يقبل التوبة حتى وإن تأخرت ، فإذا أذنب الإنسان ذنبا في النهار فإن الله تعالى يقبل توبته ولو تاب في الليل ، وكذلك إذا أذنب في الليل وتاب في النهار فإن الله تعالى يقبل توبته . بل إنه تعالى يبسط يده حتى يتلقى هذه التوبة التي تصدر مِن عبده المؤمن ، وفي هذا الحديث دليل على محبة الله سبحانه وتعالى للتوبة ، وقد سبق في الحديث السابق في قصة الرجل الذي أضل راحلته حتى وجدها أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه ، أشد فرحا من هذا براحلته . وفيه إثبات اليد لله عز وجل في هذا الحديث ، حديث أبي موسى إثبات أن الله تعالى له يد ، وهو كذلك ، بل له يدان جل وعلا كما قال تعالى : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ )) ، وهذه اليد التي أثبتها الله لنفسه ، بل اليدان يجب علينا أن نؤمن بهما وأنهما ثابتتان لله ، ولكن لا يجوز أن نتوهم أنها مثل أيدينا ، لأن الله تعالى يقول في كتابه : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) ، وهكذا كل ما مرَّ بك مِن صفات الله فأثبتها لله عز وجل لكن بدون أن تمثلها بصفات المخلوقين ، لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته عز وجل . وفيها أيضا أن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد في هذا الحديث ، وفي هذا الحديث أن الله يقبل توبة العبد وإن تأخرت ، لكن المبادرة بالتوبة هو الواجب ، لأن الإنسان لا يدري فقد يفجأه الموت فيموت قبل أن يتوب ، فالواجب المبادرة لكن مع ذلك لو تأخرت تاب الله على العبد . وفي هذا الحديث دليل على أن الشمس إذا طلعت من مغربها انتهى قبول التوبة ، ولكن قد يسأل السائل يقول : هل الشمس تطلع مِن مغربها ؟ المعروف أن الشمس تطلع من المشرق ، فنقول : نعم ، هذا هو المعروف وهذا هو المطرد منذ خلق الله الشمس إلى يومنا هذا ، لكن في آخر الزمان يأمر الله الشمس أن ترجع مِن حيث جاءت فتنعكس الدورة ، تدور بالعكس تطلع من مغربها ، فإذا رآها الناس آمنوا كلهم حتى الكفار اليهود والنصارى والبوذيون والشيوعيون وغيرهم كلهم يؤمنون ، ولكن الذي لم يؤمن قبل أن تطلع الشمس مِن مغربها لا ينفعه إيمانه ، كل يتوب أيضا لكن الذي لم يتب قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا تقبل توبته ، لأن هذه آية ، آيةٌ يشهدها كل أحد ، وإذا جاءت الآيات المنذرة لم تنفع التوبة ، ولم ينفع الإيمان ، أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في أن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها ، فهو كحديث أبي موسى ، وأما حديث عبد الله بن عمر : ( أن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ) : يعني ما لم تصل الروح الحلقوم ، فإذا وصلت الروحُ الحلقوم فلا توبة ، وقد بينت النصوص الأخرى أنه إذا حضر الموت فلا توبة لقوله تعالى : (( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن )) ، فعليك يا أخي المسلم أن تبادر بالتوبة إلى الله عز وجل مِن الذنوب ، وأن تقلع عما كنت متلبسا به من المعاصي ، وأن تقوم بما فرطت به من الواجبات وتسأل الله قبول توبتك ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن زر بن حبيش ، قال : أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أسأله عن المسح على الخفين ، فقال : ما جاء بك يا زر ؟ فقلت : ابتغاء العلم ، فقال : إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب . فقلت : إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول ، وكنت امرءا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجئت أسألك هل سمعته يذكر في ذلك شيئا ؟ قال : نعم ، كان يأمرنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم . فقلت : هل سمعته يذكر في الهوى شيئا ؟ قال : نعم ، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري : يا محمد ، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوا من صوته : (( هاؤم فقلت له : ويحك! اغضض من صوتك فإنك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد نهيت عن هذا ! فقال : والله لا أغضض . قال الأعرابي : المرء يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( المرء مع من أحب يوم القيامة ) . فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاما - قال سفيان أحد الرواة : قبل الشام - خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. رواه الترمذي وغيره، وقال: حديث حسن صحيح... " .
القارئ : " وعن زر بن حُبيش ، قال : ( أتيتُ صفوان بن عَسَّال رضي الله عنه أسأله عن المسح على الخفين ، فقال : ما جاء بك يا زر ؟ فقلت : ابتغاء العلم ، فقال : إن الملائكة تضع أجنحتِها ) " . الشيخ : أجنحتَها بالنصب . القارئ : " ( إن الملائكة تضع أجنحتَها لطالب العلم رضى بما يطلب . فقلت : إنه قد حكَ في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول ، وكنتُ امرءً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فجئت أسألك هل سمعته يذكر في ذلك ) " . الشيخ : وكنتَ وكنتَ امرءً . القارئ : " ( وكنتَ امرءً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجئت أسألك ، هل سمعته يذكر في ذلك شيئا ؟ قال : نعم ، كان يأمرنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا مِن جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم . فقلت : هل سمعته يذكر في الهوى شيئا ؟ قال : نعم ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت جهوري : يا محمد ، فأجابه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته : هاؤم ، فقلت له : ويحك! اغضض مِن صوتك فإنك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد نُهيت عن هذا ! فقال : والله لا أغضض . فقال الأعرابي : المرء يحب القوم ولمـَّا يلحق بهم ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : المرء مع من أحب يوم القيامة . فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا مِن المغرب مسيرةُ عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاما - قال سفيان أحد الرواة : قِبَل الشام - خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا للتوبة لا يُغلق حتى تطلع الشمس منه ) ، رواه الترمذي وغيره ، وقال : حديث حسن صحيح " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن زر بن حبيش ، قال : أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أسأله عن المسح على الخفين ، فقال : ما جاء بك يا زر ؟ فقلت : ابتغاء العلم ، فقال : إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب . فقلت : إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول ، وكنت امرءا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجئت أسألك هل سمعته يذكر في ذلك شيئا ؟ قال : نعم ، كان يأمرنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم . ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا الحديث مِن أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في بيان متى تنقطع التوبة ، لكنه يشتمل على فوائد : منها : أن زر بن حبيش أتى إلى صفوان بن عسَّال رضي الله عنه مِن أجل العلم ، يبتغي العلم فقال له صفوان : ( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب ) : وهذه فائدة عظيمة ، فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم وطلب العلم ، والمراد به العلم الشرعي أي : علم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، أما علم الدنيا فللدنيا ، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه الثناء والمدح والحث عليه في القرآن والسنة ، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله ، لأن هذا الدين قام بأمرين : قام بالعلم والبيان ، وبالسلاح بالسيف والسنان ، حتى إن بعض العلماء قال إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح ، لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم ، والجهاد في سبيل الله أعني بالسلاح مبني على العلم ، لا يسير المجاهد ولا يقاتل ولا يُحجم ولا يقسم الغنيمة ولا يحكم بالأسرى إلا عن طريق العلم ، فالعلم هو كل شيء ، ولهذا قال الله عز وجل : (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) : ووضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب ، واحتراما له وتعظيما له ، ولا يرد على هذا أن يقول القائل : أنا لا أُحس بذلك ، لأنه إذا صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد عيانا ، أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : مَن يدعوني فأستجيبَ له من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفرَ له ) : نحن لا نسمع هذا الكلام من الله عز وجل ، لكن لما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم صار كأننا نسمعه ، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال النبي صلى الله عليه وسلم وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب ، وأن نكون متيقين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا . ثم ذكر زر لصفوان بن عسَّال أنه حكَّ في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط ، يعني أن الله تعالى ذكر في القرآن : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )) فيقول : إنه حكَّ في صدري يعني : صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول والغائط ، هل هذا جائز أو لا ؟ فبين له صفوان بن عسَال رضي الله عنه أن ذلك جائز : ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كانوا سَفْرا أو مسافرين ألا ينزعوا خفافهم إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم ) ، فدل هذا على جواز المسح على الخفين ، بل إن المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابساً لهما ، وقد ثبت في * الصحيحين * من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأهوى المغيرة لينزع خفيه ، فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ) ، ففي هذا دليل واضح على أن الإنسان الذي عليه جوارب أو عليه خُفان أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه ، وسنتكلم إن شاء الله في الدرس القادم على شروط المسح على الخفين ، والمدة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم للمسح عليهما ، والله أعلم . سبق الكلام على أول هذا الحديث وبيان فضل السعي والمشي إلى طلب العلم ، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب . وسبق لنا أيضا أنه ينبغي للإنسان إذا أشكل عليه شيء أن يسأل ويبحث عمن هو أعلم بهذا الشيء ، حتى لا يبقى في قلبه حرج مما سمع ، لأن بعض الناس يسمع الشيء مِن الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج ويبقى متشككا مترددا لا يسأل أحدا يزيل عنه هذه الشبهة ، وهذا خطأ ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلى أمر يطمئن إليه ، ولا يبقى عنده قلق ، فهذا زر بن حُبيش -رحمه الله- سأل صفوان بن عسال رضي الله عنه عن المسح على الخفين ، وهل عنده شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ؟ فقال : نعم : ( كان يأمرنا إذا كنا سَفْرا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة ، ولكن من غائط وبول ونوم ) : فهذا الحديث فيه دليل على ثبوت المسح على الخفين ، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وأخذ بهذا أهل السنة ، حتى إن بعض أهل العلم الذين صنفوا في كتب العقائد ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد ، وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك فلم يثبتوا المسح على الخفين وأنكروه ، والعجب أن ممن روى المسح على الخفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به ، فكان المسح على الخفين مِن شعار أهل السنة ، ومن الأمور المتواترة عندهم ، التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام أحمد : " ليس في قلبي مِن المسح شك أو قال : شيء فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " ، ولكن لابد من شروط لجواز المسح على الخفين : الشرط الأول : أن يضعهما على طهارة ، أن يضعهما على طهارة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أراد أن ينزع خفي النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ) ، ولا فرق بين أن تكون هذه الطهارة قد قد غسل فيها الرجل أو مسح فيها على خف سابق ، فمثلا لو توضأ وضوءا كاملا وغسل رجليه ثم لبس الجوارب يعني الشراب أو الخفين ، فهنا لبسهما على طهارة ، كذلك لو كان قد لبس جوارب مِن قبل ومسح عليهم ثم احتاج إلى زيادة جورب ولبسه على الجورب الأول الذي مسحه وهو على طهارة ، فإنه يمسح على الثاني لكن يكون ابتداء المدة مِن المسح على الأول لا من المسح على الثاني ، هذا هو القول الصحيح : أنه إذا لبس خفا على خف ممسوح فإنه يمسح على الأعلى لكن يبني على مدة المسح على الأول ، لابد أن يلبسهما على طهارة ، ولابد أن تكون الطهارة بالماء ، فلو لبسهما على طهارة تيمم فإنه لا يمسح عليهما ، مثل رجل مسافر ليس معه ماء فتيمم ولبس الخفين على طهارة تيمم ، ثم بعد ذلك وجد الماء ، وأراد أن يتوضأ ، ففي هذه الحال لابد أن يخلع الخفين ويغسل قدميه عند الوضوء ، ولا يجوز المسح عليهما في هذه الحال ، لأنه لم يلبسهما على طهارة غسل بها الرجل ، فإن التيمم يتعلق بعضوين فقط وهما : الوجه والكفان . الشرط الثاني : أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر ، ولهذا قال صفوان بن عسَّال : ( إلا من جنابة ولكن مِن غائط وبول ونوم ) : فإذا صار على الإنسان جنابة فإنه لا يُجزئ أن يمسح على الجوربين أو الخفين ، بل لابد من نزعهما وغسل القدمين ، وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في الجبيرة ، ولهذا لا يُسمح فيها الرأس ، لابد من غسل الرأس مع أنه في الحدث الأصغر يمسح ، لكنَّ الجنابة طهارتها أوكد وحدثها أكبر ، فلابد من الغسل ولا يمسح فيها على الخف لهذا الحديث ولأن المعنى والقياس يقتضي ذلك . الشرط الثالث : أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي : يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، كما صح ذلك أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في * صحيح مسلم * قال : ( جعل النبيُ صلى الله عليه وسلم للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها ) يعني : في المسح على الخفين ، فإذا انتهت المدة فلا مسح لابد أن يخلع الجوربين أو الخفين ثم يغسل القدمين ، ولكن إذا انتهت المدة وأنت على طهارة فاستمر على طهارتك ، لا تنتقض الطهارة ، ولكن إذا أردت أن تتوضأ بعد انتهاء المدة فلابد من غسل القدمين ، والله الموفق . بسم الله الرحمن الرحيم تقدم الكلام على أول هذا الحديث ، وأشرنا إلى ما فيه من الأحكام الفقهية فيما يتعلق بالمسح على الخفين .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... فقلت : هل سمعته يذكر في الهوى شيئا ؟ قال : نعم ، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري : يا محمد ، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوا من صوته : (( هاؤم فقلت له :
ويحك! اغضض من صوتك فإنك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد نهيت عن هذا ! فقال : والله لا أغضض . قال الأعرابي : المرء يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( المرء مع من أحب يوم القيامة ) . فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاما - قال سفيان أحد الرواة : قبل الشام - خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. رواه الترمذي وغيره، وقال: حديث حسن صحيح... " . مع ذكر فوائد الحديث .
الشيخ : ثم إن زر بن حُبيش سأل صفوان بن عسَّال هل سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الهوى شيئا ؟ الهوى يعني المحبة ، والميل فقال : ( نعم ) ثم ذكر قصة الأعرابي الذي كان جهوري الصوت فجاء ينادي : ( يا محمد ) بصوت مرتفع ، فقيل له : ويحك تنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع والله عز وجل يقول : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ )) ، ولكن الأعراب لا يعرفون الآداب كثيرا ، لأنهم بعيدون عن المدن وبعيدون عن العلم ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع ، كما سأل الأعرابي ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس هديا ، يعطي كل إنسان بقدر ما يتحمله عقله ، فخاطبه بمثل ما خاطب به النبيَ صلى الله عليه وسلم ، قال له الأعرابي : ( المرء يحب القوم ولما يلحق بهم ) يعني : يحب القوم ولكن عمله دون عملهم ، لا يساويهم في العمل ، فمع مَن يكون أيكون معهم أو لا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب يوم القيامة ) ، الحمد لله نعمة عظيمة ، وقد روى أنس بن مالك هذه القطعة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المرء مع من أحب ، قال أنس : فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم ) ، وهكذا أيضا نحن نشهد الله عز وجل على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وصحابته ، وأئمة الهدى من بعدهم ، ونسأل الله أن يجعلنا معهم ، هذه بشرى ، بشرى للإنسان أنه إذا أحب قوما صار معهم وإن قَصُر به عمله ، يكون معهم في الجنة ، ويجمعه الله معهم في الحشر ويشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم جميعا وهكذا ، كما أن من أحب الكفرة فإنه ربما يكون معهم والعياذ بالله ، لأن محبة الكافرين حرام ، بل قد تكون من كبائر الذنوب ، فالواجب على المسلم أن يكره الكفار وأن يعلم أنهم أعداء له ، مهما أبدوا من الصداقة والمودة والمحبة فإنهم لن يتقربوا إليك إلا لمصلحة أنفسهم ومضرتك أيضا ، أما أن يتقربوا إليك لمصلحتك فهذا شيء بعيد إن كان يمكن أن نجمع بين النار والماء فيمكن أن نجمع بين محبة الكفار لنا وعداوتهم لنا ، لأن الله تعالى سماهم أعداء : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) ، وقال عز وجل : (( مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ )) كل كافر فالله عدو له ، وكل كافر فهو عدو لنا ، وكل كافر فإنه لا يضمر لنا إلا الشر ، ولهذا يجب عليك أن تكره مِن قلبك كل كافر مهما كان جنسه ، ومهما كان تقربه إليك ، فاعلم أنه عدوك : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) إذًا نأخذ مِن هذه قاعدة أصلها النبي عليه الصلاة والسلام : ( المرء مع من أحب ) ، ( المرء مع من أحب ) فعليك يا أخي أن تَشدد قلبك على محبة الله ورسوله وخلفائه الراشدين وصحابته الكرام وأئمة الهدى من بعدهم ، لتكون معهم ، نسأل الله أن يحقق لنا ذلك بمنه وكرمه .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري - رضي الله عنه - : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب ، فأتاه . فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به مئة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم . فقال : إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا ، مقبلا بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي حكما - فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له . فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) متفق عليه .
وفي رواية في الصحيح : ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها ) وفي رواية في الصحيح : ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي ، وإلى هذه أن تقربي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ) . وفي رواية : ( فنأى بصدره نحوها ) ... " .
القارئ : الحمد رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . قال -رحمه الله تعالى- : " وعن أبي سعيد سعدِ بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فَدُل على راهب ، فأتاه . فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له مِن توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمَّل به مئة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُل على رجل عالم . فقال : إنه قتل مئة نفس فهل له مِن توبة ؟ فقال : نعم ، ومَن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدونَ الله تعالى فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ، فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت به ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ، فأتاهم مَلك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أَي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) ، متفق عليه . وفي رواية في الصحيح : ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر ، فجُعل من أهلها ) . وفي رواية في الصحيح : ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي ، وإلى هذه أن تقرَّبي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقربُ بشبر فغُفر له ) . وفي رواية : ( فنأى بصدره نحوها ) " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري - رضي الله عنه - : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب ، فأتاه . فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به مئة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم . فقال : إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا ، مقبلا بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي حكما - فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له . فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) متفق عليه .
وفي رواية في الصحيح : ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها ) وفي رواية في الصحيح : ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي ، وإلى هذه أن تقربي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ) . وفي رواية : ( فنأى بصدره نحوها ) .... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : نقل المؤلف -رحمه الله- عن أبي سعيد سعد بن سِنان بن مالك الخدري رضي الله عنه ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً ) : ثم إنه نَدِم وسأل عن أعلم أهل الأرض يسأله هل له من توبة ، فدُل على رجل ، فإذا هو راهب : يعني عابدا ولكن ليس عنده علم ، فلما سأله قال : إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا فهل له من توبة ؟ فاستعظم الراهب هذا الذنب وقال : ليس لك توبة ، فغضب الرجل وانزعج وقتل الراهب ، فأتم به مئة نفس ، ثم إنه سأل عن أعلم أهل الأرض فَدُل على رجل عالم ، فقال له : إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة ؟ قال : نعم ، وما الذي يحول بينه وبين التوبة ؟! باب التوبة مفتوح ، ولكن اذهب إلى القرية الفلانية فإن فيها قوما يعبدون الله ، والأرض التي هو فيها كأنها والله أعلم دار كفر ، فأمره هذا العالم أن يهاجر بدينه إلى هذه القرية التي يُعبد فيها الله سبحانه وتعالى ، فخرج تائباً نادماً مهاجراً بدينه إلى الأرض التي فيها هؤلاء ، التي فيها القوم الذين يعبدون الله عز وجل ، وفي منتصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، لأن الكافر والعياذ بالله تقبض روحه ملائكة العذاب ، والمؤمن تقبض روحَه ملائكة الرحمة ، فاختصموا ملائكة العذاب تقول : إنه لم يعمل خيرا قط ، يعني بعد توبته ما عمل خيرا ، وملائكة الرحمة تقول : إنه تاب وجاء نادما تائبا ، فحصل بينهما خصومة فبعث الله تعالى إليهم ملكا ليحكم بينهم ، فقال : ( قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب فهو له ) : يعني فهو مِن أهلها ، إن كانت أرض الكفر أقرب إليه فملائكة العذاب تقبض روحَه ، وإن كان إلى بلد الإيمان أقرب فملائكة الرحمة تقبض روحَه ، فقاسوا ما بينهما فإذا البلد التي اتجه إليها وهي بلد الإيمان أقرب من البلد التي هاجر منها بنحو شبر ، مسافة قريبة ، فقبضته ملائكة الرحمة . ففي هذا دليل على فوائد كثيرة منها : أنَّ القاتل له توبة ، القاتل إذا قتل إنساناً عمداً ثم تاب فإن الله تعالى يقبل توبته ، ودليل ذلك في كتاب الله قوله تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )) ، يعني ما دون الشرك فإن الله تعالى يغفره إذا شاء ، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم ، وذُكر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن القاتل ليس له توبة ، لأن الله يقول : (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) ، ولكن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق ، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يمكن أن يحمل على أنه ليس له توبة بالنسبة للمقتول ، وذلك لأن القاتل إذا قَتل تعلق فيه ثلاثة حقوق : الحق الأول لله ، والثاني للمقتول ، والثالث لأولياء المقتول . أما حق الله فلا شك أن الله تعالى يغفره بالتوبة ، لقول الله تعالى : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً )) ، ولقوله تعالى : (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )) . وأما حق المقتول : فإن توبة القاتل لا تنفعه ولا تؤدي إليه حقه ، لأنه مات ولا يمكن الوصول إلى استحلاله أو التبرء مِن دمه ، فهذا هو الذي يبقى مطالَباً به القاتل ولو تاب ، وإذا كان يوم القيامة فالله يفصل بينهم . وأما حق أولياء المقتول فإنها لا تصح توبة القاتل حتى يُسَلِّم نفسه إلى أولياء المقتول ويقر بالقتل ، ويقول : أنا القاتل وأنا الآن بين أيديكم إن شئتم اقتلوني وإن شئتم خذوا الدية وإن شئتم اسمحوا ، فإذا تاب إلى الله وسلم نفسه لأولياء المقتول يعني لورثته ، فإن توبته تصح ، وما بينه وبين المقتول يكون الحكم فيه إلى الله يوم القيامة ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي نجيد - بضم النون وفتح الجيم - عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا رسول الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وليها ، فقال :
( أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني ) ففعل فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال: ( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله - عز وجل - ؟! ) رواه مسلم ... " .
القارئ : والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . قال -رحمه الله تعالى- : " وعن أبي نُجَيد - بضم النون وفتح الجيم - عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما : ( أنَّ امرأة مِن جهينة أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا رسول الله ، أصبتُ حدا فأقمه علي ، فدعا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وليها ، فقال : أحسِن إليها ، فإذا وضعت فأتني . ففعل ، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فَشُدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرُجمت ، ثم صلى عليها . فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال : لقد تابت توبة لو قُسمت بين سبعين مِن أهل المدينة لوسعتهم ) " . الشيخ : الله أكبر . القارئ : " ( وهل وجدتَ أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل ؟! ) ، رواه مسلم " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي نجيد - بضم النون وفتح الجيم - عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا رسول الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وليها ، فقال :
( أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني ) ففعل فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال: ( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله - عز وجل - ؟! ) رواه مسلم ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عمران بن حصين رضي الله عنه : ( أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا -يعني حاملا قد زنت رضي الله عنها- فقالت : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ) يعني : أني أصبت شيئا يوجب الحد ، ( فأقمه عليّ ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها ، وأمره أن يحسن إليها ، فإذا وضعت فليأت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وضعت أتى بها وليها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فشدت عليها ثيابها ) : يعني لُفت ثيابها وربطت لئلا تنكشف ، ( ثم أمر بها فرجمت ) : رجمت : يعني بالحجارة ، بحجارة ليست كبيرة ولا صغيرة حتى ماتت ، ( ثم صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لها دعاء الميت ، فقال له عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟! ) يعني : والزنا من كبائر الذنوب ، فقال : ( إنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ) يعني : توبة واسعة ، ( لو قسمت على سبعين ) كلهم مذنب ( لوسعتهم ) ونفعتهم ، ( وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل ) يعني : هل وجدت أفضل من هذه الحال ؟! امرأة جاءت فجادت بنفسها ، يعني سلمت نفسها مِن أجل التقرب إلى الله عز وجل والخلوص من إثم الزنا ، ماذا أفضل مِن هذا ؟! ففي هذا الحديث دليل على فوائد كثيرة : منها : أن الزاني إذا زنا وهو محصن يعني قد تزوج فإنه يجب أن يُرجم ، وجوبا ، وقد كان هذا في كتاب الله عز وجل ، آية من كتاب الله قرأها المسلمون حفظوها وَعَوها نفذوها ، رجم النبيُ صلى الله عليه وسلم ورجم الخلفاء من بعده ، ولكن الله بحكمته نسخها مِن القرآن لفظا وأبقى حكمها في هذه الأمة ، فإذا زنى المحصن وهو الذي قد تزوج فإنه يرجم حتى يموت ، يوقف في مكان واسع ، ويجتمع الناس ، ويأخذون من الحصى يرمونه به حتى يموت ، وهذه من حكمة الله عز وجل ، يعني لم يأمر الشرع بأن يُذبح بالسيف وينتهي أمره ، بل يُرجم بهذه الحجارة حتى يتعذب ويذوق ألم العذاب في مقابل ما وجده من لذة الحرام ، لأن هذا الزاني تلذذ جميع جسده بالحرام ، فكان مِن الحكمة أن ينال هذا الجسدُ من العذاب بقدر ما نال من اللذة ، ولهذا قال العلماء رحمهم الله : إنه لا يجوز أن يُرجم بالحجارة الكبيرة ، لأن الحجارة الكبيرة تجهز عليه وتميته سريعا فيستريح ، ولا بالصغيرة جدا لأن هذه تؤذيه وتطيل موته ، ولكن بحصى متوسطة ، حتى يذوق الألم ثم يموت ، فإذا قال قائل : أليسَ قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قتلتم فأَحسنوا القِتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة ) ، والقتلة بالسيف أريح للمرجوم مِن الرجم بالحجارة ؟ قلنا : بلى قد قاله النبي عليه الصلاة والسلام ، لكنَّ إحسان القِتلة يكون بموافقتها للشرع ، فالرجم إحسان لأنه موافق للشرع ، ولذلك لو أن رجلاً جانيًا جنى على شخص فقتله عمدًا وعزَّر به قبل أن يقتله ، فإننا نعزر بهذا الجاني إذا أردنا قتله قبل أن نقتله ، مثلا لو أن رجلا جانيا قتل شخصا فقطع مثلا يديه ثم رجليه ثم لسانه ثم رأسه ، فإننا لا نقتل الجاني نقتله بالسيف ، بل نقطع يديه ثم رجليه ثم لسانه ثم نقطع رأسه ، مثلما فعل ، ويُعتبر هذا إحسانا في القِتلة ، لأن إحسان القِتلة أن يكون موافقا للشرع على أي وجه كان ، وفي هذا الحديث دليل على جواز إقرار الإنسان على نفسه بالزنا مِن أجل تطهيره بالحد ، لا من أجل فضيحة نفسه ، فالإنسان الذي يتحدث عن نفسه أنه زنا من أجل نعم ، يتحدث عن نفسه أنه زنى عند الإمام عند الإمام أو نائبه من أجل إقامة الحد عليه هذا لا يلام ولا يذم ، وأما الإنسان الذي يخبر عن نفسه بأنه زنا ، يخبر عامة الناس فهذا فاضح نفسَه وهو من غير المعافَين ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، قالوا : من المجاهرون ؟ قال : الذي يفعل الذنب ثم يستره الله عليه فيصبح يتحدث به ، يخبر به الناس ) . هناك قسم ثالث فاسق مارِد ماجِن يتحدث بالزنا افتخارا والعياذ بالله ، يقول : إنه سافر إلى البلد الفلاني وفجر وفعل وزنا بعدة نساء وما أشبه ذلك يفتخر بهذا ، هذا يجب أن يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، لأن الذي يفتخر بالزنا مقتضى حاله أنه استحل الزنا والعياذ بالله ، ومن استحل الزنا فهو كافر كافر ويوجد بعض الناس يفعل هذا والعياذ بالله ، بعض هؤلاء المرجة الفسقة الذين أُصيب المسلمون بالمصائب مِن أجلهم ومِن أجل أفعالهم يوجد من .