تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي نجيد - بضم النون وفتح الجيم - عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا رسول الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وليها ، فقال : ( أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني ) ففعل فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال: ( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله - عز وجل - ؟! ) رواه مسلم ... " .
هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن يتحدث بالزنا افتخارا والعياذ بالله ، يقول : إنه سافر إلى البلد الفلاني وفَجَر وفعل وزنا بعدة نساء وما أشبه ذلك يفتخر بهذا ، هذا يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، لأن الذي يفتخر بالزنا مقتضى حاله أنه استحل الزنا والعياذ بالله ومَن استحل الزنا فهو كافر كافر ، ويوجد بعض الناس يفعل هذا والعياذ بالله ، بعض هؤلاء المرجة الفسقة الذين أصيب المسلمون بالمصائب من أجلهم ، ومن أجل أفعالهم ، يوجد من يتبجح بهذا الأمر ، إذا سافر إلى بلد معروف بالفسق والمجون مثل بانكوك وغيرها من البلاد الخبيثة التي كلها زنا ولواط وخمر وغير ذلك رجع إلى أصحابه يتبجح بما فعل ، هذا كما قلت : يجب أن يُستتاب فإن تاب وإلا قتل ، لأن من استحل الزنا أو غيره من المحرمات الظاهرة المجمع عليها فإنه يكفر .
إذا قال قائل : هل الأفضل للإنسان إذا زنا أن يذهب إلى القاضي لِيُقر عنده فيُقام عليه الحد ، أو الأفضل أن يستر نفسه ؟ فالجواب عن هذا : أن في ذلك تفصيلا : قد يكون الإنسان تاب توبة نصوحا ، وندم ، وعرف من نفسه أنه لن يعود ، فهذا الأفضل ألا يذهب ، ولا يُخبر عن نفسه ، بل يجعل الأمر سرا بينه وبين الله ، ومن تاب تاب الله عليه ، وأما من خاف ألا تكون توبته نصوحا ، وخاف أن يعود ويرجع إلى الذنب مرة أخرى ، فهذا الأفضل في حقه أن يذهب إلى ولي الأمر ، إلى القاضي أو غيره ليقر عنده فيُقام عليه الحد ، فالمسألة هذه فيها تفصيل ، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على الحديث .
1 - تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي نجيد - بضم النون وفتح الجيم - عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا رسول الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وليها ، فقال : ( أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني ) ففعل فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال: ( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله - عز وجل - ؟! ) رواه مسلم ... " . أستمع حفظ
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ) متفق عليه . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد ) متفق عليه ... " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ، ثم يتوب اللهُ على القاتل فيُسلم فيستشهد ) متفق عليه " .
2 - قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ) متفق عليه . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد ) متفق عليه ... " . أستمع حفظ
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ) متفق عليه . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد ) متفق عليه ... " .
أما الحديث الثاني فهو عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يضحكُ الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ) ، وضرب لذلك مثلا : لرجل قاتل في سبيل الله ، فقتله رجل مِن الكفار فقُتل شهيدا ، ثم إن هذا القاتل الكافر أسلم ثم قتل شهيدا ، فكلاهما يدخل الجنة ، فيضحك الله إلى هذين الرجلين ، وذلك لأنه كان بينهما تمام العداوة في الدنيا ، حتى إن أحدهما قتل الآخر ، فقلب الله تعالى هذه العداوة التي في قلب كل واحد منهما ، وأزال ما في نفوسِهما من الغِل ، لأن أهل الجنة يُطهرون مِن الغل والحقد ، كما قال الله تعالى في وصفهم : (( إخوانا على سرر متقابلين )) ، (( ونزعنا ما في صدورهم مِن غِلٍ إخوانا على سرر متقابلين )) فهذا وجه العجب من الله عز وجل لهذين الرجلين : أنه كان بينهما تمام العداوة ، ثم إن الله سبحانه وتعالى مَنَّ على هذا القاتل الذي كان كافرا فتاب فتاب الله عليه ، ففيه دليل على أن الكافر إذا تاب مِن كفره ولو كان قد قتل أحدا من المسلمين فإن الله تعالى يتوب عليه ، لأن الإسلام يهدم ما قبله ، والله الموفق .
3 - شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ) متفق عليه . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد ) متفق عليه ... " . أستمع حفظ
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب الصبر . قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى: (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى: (( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " .
قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء مِن الخوف والجوع ونقص مِن الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرَهم بغير حساب )) ، وقال تعالى : (( ولَمن صبر وغَفَر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى : (( استعينوا بالصبر والصلاة إنَّ الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلمَ المجاهدين مِنكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة " .
4 - قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب الصبر . قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى: (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى: (( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " . أستمع حفظ
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب الصبر ... " .
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : " باب الصبر " : الصبر معناه الحبس ، هذا معناه في اللغة .
والمراد به في الشرع حبس النفس على أمور ثلاثة : على طاعة الله ، وعن محارم الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة ، هذه أنواع الصبر التي ذكرها أهل العلم ، أن يصبر الإنسان على طاعة الله ، لأن الطاعة ثقيلة على النفس ، تصعب على الإنسان ، وكذلك ربما تكون ثقيلة على البدن بحيث يكون مع الإنسان شيء مِن العجز والتعب ، وكذلك أيضا يكون فيها مشقة مِن الناحية المالية ، كمسألة الزكاة ، ومسألة الحج ، المهم أن الطاعات فيها شيء من المشقة على النفس والبدن ، فتحتاج إلى صبر ، وإلى معاناة ، قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ورابطوا )) .
أما الثاني : فهو صبر عن محارم الله ، النوع الثاني : صبر عن محارم الله ، بحيث يكف الإنسان نفسه عما حرم الله عليه ، لأن النفس الأمارة بالسوء تدعو إلى السوء ، فيصبر الإنسان نفسَه ، مثل الكذب ، الغش في المعاملات ، أكل المال بالباطل بالربا أو غيره ، الزنا شرب الخمر السرقة وما أشبه ذلك من المعاصي الكثيرة ، فيحبس الإنسان عنها حتى لا يفعلها ، هذا يحتاج أيضا إلى معاناة ويحتاج إلى كف النفس والهوى .
أما الثالث : فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة ، لأن أقدار الله عز وجل على الإنسان ملائمة ومؤلمة ، الملائمة تحتاج إلى الشكر ، والشكر من الطاعات فالصبر عليه من النوع الأول ، ومؤلمة : بحيث لا تلائم الإنسان ، تكون مؤلمة فيبتلى الإنسان في بدنه ، يبتلى في ماله يفقده ، يبتلى في أهله ، يبتلى في مجتمعه ، المهم أن أنواع البلايا كثيرة تحتاج إلى صبر ومعاناة ، فيصبر الإنسان نفسه عما يحرم عليه مِن إظهار الجزع باللسان أو بالقلب أو بالجوارح ، لأن الإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات :
أن يتسخط ، وأن يصبر ، وأن يرضى ، وأن يشكر ، هذه أربع حالات تكون للإنسان عندما يصاب بالمصيبة .
أن يتسخط إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه ، التسخط بالقلب : أن يكون في قلبه والعياذ بالله شيء على ربه من السَخَط والشره على الله والعياذ بالله ، وما أشبه ذلك ، ويشعر وكأن الله تعالى قد ظلمه بهذه المصيبة .
وأما باللسان التسخط باللسان : فأن يدعو بالويل والثُبور : يا ويلاه ، واثبوراه ، وأن يسب الدهر فيؤذي الله عز وجل وما أشبه ذلك .
التسخط بالجوارح مثل أن يلطم خده ، أو يصفع رأسه ، أو ينتف شعره أو يشق ثوبه ، وما أشبه هذا ، هذا حال السخط حال الهلِعين الذين حرموا الثواب ولم ينجوا من المصيبة ، بل الذين اكتسبوا الإثم ، فصار عندهم مصيبتان : مصيبة في الدين بالسخط ، ومصيبة في الدنيا بما أتاهم مما يؤلمهم .
أما الثاني : فالصبر على المصيبة ، الحال الثانية : الصبر على المصيبة : بأن يحبس نفسه ، هو يكره المصيبة ولا يحبها ولا يحب أن وقعت لكن يصبر نفسه ، لا يتحدث باللسان بما يسخط الله ، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله ، ولا يكون في قلبه شيء على الله أبدا ، صابر لكنه كاره لها .
والثالث ، الحال الثالثة : الرضا بأن يكون الإنسان منشرحا صدره بهذه المصيبة ويرضى بها رضا تاما وكأنه لم يصب بها .
والرابعة ، الحال الرابعة : الشكر ، فيشكر الله عليه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يكره يقول : ( الحمد لله على كل حال ) : فيشكر الله من أجل أن الله يرتب له من الثواب على هذه المصيبة أكثر مما أصابه ، ولهذا يذكر عن بعض العابدات أنه أُصيبت في أصبعها ، فحمدت الله على ذلك ، وقالوا لها : كيف تحمدين الله والأصبع قد أصابه ما أصابه ؟ قالت : " إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها " ، " إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها " ، فشكرت الله على هذه المصيبة ، فالحاصل أن أنواع الصبر ثلاثة :
صبر على طاعة الله ، وصبر عن معصية الله ، وصبر على أقدار الله المؤلمة ، والناس في هذا النوع الثالث بالنسبة للمصائب لهم أربع أحوال : تسخط ، وصبر ، ورضا ، وشكر ، والله الموفق .
بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : " باب الصبر " : سبق لنا بيان أن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على طاعة الله ، وصبر عن معصية الله ، وصبر على أقدار الله المؤلمة ، وأن للإنسان في أقدار الله المؤلمة أربع حالات : التسخط ، والصبر ، والرضا ، والشكر ، وبينا وجه ذلك .
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى: (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى: (( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " .
(( واتقوا الله لعلكم تفلحون )) : فاصبروا عن محارم الله ، لا تفعلوها ، تجنبوها ولا تقربوها ، ومن المعلوم أن الصبر عن المعصية لا يكون إلا حيث دعت إليها النفس ، أما الإنسان الذي لم تطرأ على باله المعصية فلا يقال إنه صبر عنها ، ولكن إذا دعتك نفسك غلى المعصية فاصبر واحبس النفس .
وأما المصابرة فهو على الطاعة ، لأن الطاعة فيها أمران : الأمر الأول : فعل يتكلف به الإنسان ويُلزم نفسه به ، والثاني : ثقل على النفس لأن فعل الطاعة كترك المعصية ثقيل على النفوس الأمارة بالسوء ، فلهذا كان الصبر على الطاعة أفضل مِن الصبر عن المعصية ، ولهذا قال الله تعالى : (( صابروا )) : كأن أحدا يصابرك كما يصابر الإنسان عدوه في القتال والجهاد .
وأما المرابطة : فهي كثرة الخير والاستمرار عليه ، ولهذا جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) : لأن فيه استمرارا في الطاعة وكثرة لفعلها .
وأما التقوى : فهي تشمل ذلك كله ، لأن التقوى : " اتخاذ ما يقي من عقاب الله ، وهذا يكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي " ، وعلى هذا فعطفها على ما سبق من باب عطف العام على الخاص ، ثم بين الله سبحانه وتعالى أن القيام بهذه الأوامر الأربعة سبب للفلاح ، فقال : (( لعلكم تفلحون )) : والفلاح كلمة جامعة تدور على شيئين : على حصول المطلوب ، والنجاة من المرهوب ، فمن اتقى الله عز وجل حصل له مطلوبه ، ونجا من مرهوبه .
وأما الآية الثانية فقال -رحمه الله- : " وقوله تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) " : هذه الآية فيها قسم من الله عز وجل أن يختبر العباد بهذه الأمور (( ولنبلونكم )) يعني : لنختبرنكم ، (( بشيء من الخوف )) : ما هو بكل شيء ، بشيء منه ، لا بالخوف كله ، لأن الخوف كله مهلك مدمر ، لكن بشيء منه من الخوف والجوع .
الخوف : هو فقد الأمن وهو أعظم من الجوع ، ولهذا قدمه الله عليه ، لأن الإنسان الجائع ربما يتعلل ويذهب يطلب ولو كان لحاء شجر ، لكن الخائف والعياذ بالله لا يستقر لا في بيته ولا في سوقه ، الخائف أعظم من الجائع ، ولهذا بدأ الله به فقال : (( بشيء من الخوف )) ، وأخوف ما نخاف منه ذنوبنا ، لأن الذنوب سبب لكل الويلات ، وسبب للمخاطر والمخاوف والعقوبات الدينية ، والعقوبات الدنيوية ، والجوع : يعني أن يُبتلى بالجوع ، والجوع يحتمل معنيين : المعنى الأول : أن يحدث الله تعالى في العباد وباء هو وباء الجوع ، بحيث يأكل الإنسان ولا يشبع ، وهذا يمر على الناس ، وقد مر بهذه البلاد سنةٌ معروفة عند العامة تسمى سنة الجوع ، يأكل الإنسان الشيء الكثير ولكنه لا يشبع والعياذ بالله أبدا ، نُحَدَّث أن الإنسان يأكل من التمر مخفر كامل في آن واحد ولا يشبع والعياذ بالله ، ويأكل الخبز الكثير ولا يشبع لمرض فيه ، هذا نوع من الجوع ، النوع الثاني مِن الجوع : الجدب ، والسنين الممحلة التي لا يَدُر فيها ضرع ولا ينمو فيها زرع والعياذ بالله ، هذا من الجوع (( ونقص من الأموال والأنفس )) : نقص الأموال يعني : نقص الاقتصاد ، بحيث تصاب الأمة بقلة المادة والفقر ويتأخر اقتصادها وترهق حكومتها بالديون التي تأتي نتيجة لأسباب يقدرها الله عز وجل ابتلاء وامتحانا . والأنفس : الموت ، بحيث يحل في الناس أوبئة تهلكهم وتقضي عليهم ، وهذا أيضا يحدث كثيرة ولقد حُدثنا أنه حدث في هذه البلاد -يعني البلاد النجدية- حدث فيها وباء عظيم تسمى سنته عند العامة : سنة الرحمة ، إذا دخل الوباء في البيت لم يُبق منهم أحدا إلا دفن والعياذ بالله ، يدخل في البيت فيه عشرة أنفس أو أكثر فيُصاب هذا بمرض ، ومن بكرة الثاني والثالث والرابع حتى يموتون عن آخرهم ، وحُدثنا أنه قُدم في هذا المسجد ، المسجد الجامع الكبير في عنيزة ، وكان الناس في الأول في قرية صغيرة ما فيه كثرة عالم كما فيه اليوم ، يقدم أحيانا في فرض الصلاة الواحدة سبع جنائز ثمانية جنائز ، نعوذ بالله ، من الأوبئة ، هذا أيضا نقص من الأنفس .
والثمرات : ألا يكون هناك جوع ، ولكن تنقص الثمرات ، تُنزع بركتها في الزروع في النخيل في الأشجار الأخرى ، والله عز وجل يبتلي العباد بهذه الأمور : (( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) ، فيقابل الناس هذه المصائب بدرجات متنوعة : بالتسخط ، بالصبر ، بالرضا ، بالشكر كما قلنا فيما سبق ، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على الآية .
القارئ : والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال -رحمه الله تعالى- : " باب الصبر ، قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء مِن الخوف والجوع ونقص مِن الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى : (( ولَمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) " .
6 - تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى: (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى: (( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " . أستمع حفظ
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى: (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى: (( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " .
سبق لنا الكلام على الصبر وأنواعه ، وعلى قوله تعالى ، بل على أول الآية في قوله تعالى : (( وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )) : لما ذكر الله هذا الابتلاء قال : (( وَبَشّرِ الصّابِرِينَ )) : والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يبلغه هذا الخطاب ، يعني بشر يا محمد وبشر يا من يبلغه هذا الكلام الصابرين ، الذين يصبرون على هذه البلوى ، فلا يقابلونها بالتسخط ، وإنما يقابلونها بالصبر ، وأكمل من ذلك أن يقابلوها بالرضا ، وأكمل من ذلك أن يقابلوها بالشكر ، كما مر علينا : أن المصاب بالمصائب من أقدار الله المؤلمة له أربع حالات : تسخط ، وصبر ، ورضا ، وشكر ، هنا قال : (( وَبَشّرِ الصّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )) : إذا أصابتهم المصيبة اعترفوا لله عز وجل بعموم ملكه ، وأنه ملك لله ، ولله أن يفعل في ملكه ما شاء ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته قال : ( فإن لله ما أخذ وله ما أبقى ) ، فأنت مُلك لربك عز وجل يفعل بك ما يشاء حسبما تقتضيه حكمته تبارك وتعالى ، ثم قال : (( وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )) : يعترفون بأنهم لابد أن يرجعوا إلى الله فيجازيهم إن تسخطوا جزاهم على سخطهم ، وإن صبروا كما هو شأن هؤلاء القوم ، فإن الله تعالى يجازيهم على صبرهم على هذه المصائب ، فيبتلي عز وجل بالبلاء ويثيب الصابر عليه ، قال تعالى : (( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ )) : أولئك : يعني الصابرين ، (( عليهم صلوات من ربهم ورحمة )) الصلوات جمع صلاة ، وهي ثناء الله عليهم في الملأ الأعلى ، يثني الله عليهم عند ملائكته في الملأ الأعلى ، ورحمة من الله عز وجل ، (( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )) : الذين هداهم الله عز وجل عند حلول المصائب فلم يتسخطوا وإنما صبروا على ما أصابهم .
وفي هذه الآية دليل على أن صلاة الله عز وجل ليست هي رحمته ، بل هي أخص وأكمل وأفضل ، ومن فسرها من العلماء : بأن الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، ومن الآدميين الاستغفار ، فإن هذا لا وجه له ، بل الصلاة غير الرحمة ، لأن الله تعالى عطف الرحمة على الصلوات ، والعطف يقتضي المغايرة ، ولأن العلماء مجمعون على أنك يجوز أن تقول لأي شخص من المؤمنين : اللهم ارحم فلانا ، واختلفوا هل يجوز أن تقول : اللهم صل عليه أو لا يجوز على أقوال ثلاثة : فمنهم من أجازها مطلقا ، ومنهم من منعها مطلقا ، ومنهم من أجازها إذا كانت تبعا ، والصحيح أنها تجوز إذا كانت تبعا مثل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، أو لم تكن تبعا لكن لها سبب كما قال تعالى : (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم )) : فإذا كان لها سبب ولم تتخذ شعارا فإن ذلك لا بأس به ، أي : لا بأس أن تقول : اللهم صل على محمد ، لو جاءك رجل بزكاته وقال : خذ زكاتي فرقها على الفقراء ، فلك أن تقول : صل الله عليك ، تدعو له أن يصلي الله عليه كما أمر اللهُ نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ، والله الموفق .
بسم الله الرحمن الرحيم :
تقدم الكلام على عدة آيات ساقها المؤلف -رحمه الله تعالى- في الصبر وثوابه وبيان محله ، وقال في جملة ما ساقه من الآيات قوله تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) : يوفى الصابرون يعني : يُعطى الصابرون أجرهم يعني : ثوابهم ، بغير حساب ، وذلك أن الأعمال الصالحة مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، أما الصبر فإن مضاعفته تأتي بغير حساب مِن عند الله عز وجل ، وهذا يدل على أن أجره عظيم ، وأن الإنسان لا يمكن أن يتصور هذا الأجر ، لأنه لم يقابَل بعدد بل هو أمر معلوم عند الله ولا حساب فيه ، لا يقال مثلا : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف ، بل يقال : إنه يوفى أجره بغير حساب .
وفي هذه الآية من الترغيب في الصبر ما هو ظاهر .
ثم قال المؤلف : " وقوله تعالى : (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) " : يعني أن الذي يصبر على أذى الناس ويتحملهم ويغفر لهم سيئاتهم التي يسيئون بها إليه : (( فإن ذلك من عزم الأمور )) أي : من معزوماتها وشدائدها التي تحتاج إلى مقابلة ومصابرة ، ولاسيما إذا كان الأذى الذي ينال الإنسان بسبب جهاده في الله عز وجل ، وبسبب طاعته ، لأن أذية الناس لك لها أسباب متعددة متنوعة ، فإذا كان سببها طاعة الله عز وجل ، والجهاد في سبيله ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإن الإنسان يثاب على ذلك من وجهين : الوجه الأول : من الأذية التي تحصل له ، والوجه الثاني : صبره على هذه الطاعة التي أوذي في الله من أجلها .
وفي هذه الآية حث على صبر الإنسان على أذية الناس ومغفرته لهم ما أساؤوا إليه فيه ، ولكن ينبغي أن يُعلم أن المغفرة لمن أساء إليك ليست محمودة على الإطلاق ، فإن الله تعالى قيد هذا بأن يكون العفو مقرونا بالإصلاح ، فقال : (( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه )) ، أما إذا لم يكن في العفو والمغفرة إصلاح فلا تعفُ ولا تغفر ، مثال ذلك : لو كان الذي أساء إليك شخصا معروفا بالشر والفساد وأنك لو عفوت عنه لكان في ذلك زيادةٌ في شره ، ففي هذه الحال الأفضل أن لا تعفو عنه ، أن تأخذ بحقك من أجل الإصلاح ، أما إذا كان الشخص إذا عفوت عنه لم يترتب على العفو عنه مفسدة ، فإن العفو أفضل وأحسن ، لأن الله يقول : (( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه )) ، وإذا كان أجرك على الله كان خيرا لك من أن يكون ذلك بمعاوضة تأخذ من أعمال صاحبك الصالحة .
7 - تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وقال تعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ، وقال تعالى: (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) ، وقال تعالى: (( استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " . أستمع حفظ
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وقال تعالى: (( واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) ، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة ... " .
ذكر المؤلف -رحمه الله- من آيات الصبر الدالة على وجوبه وعلى فضيلته قوله تعالى : (( واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) ، (( يا أيها الذين آمنوا )) ، (( واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) : فذكر الله عز وجل الأمر بالاستعانة بالصبر ، وقد سبق الكلام عليه في الدرس الماضي ، وكذلك الأمر بالاستعانة بالصلاة وسبق الكلام على ذلك أيضا .
ثم قال عز وجل : (( إن الله مع الصابرين )) ، (( إن الله مع الصابرين )) يعني بذلك المعية الخاصة ، لأن معية الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين : معية عامة شاملة لكل أحد ، وهي المذكورة في قوله تعالى : (( وهو معكم أينما كنتم )) ، وفي قوله تعالى : (( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أينما كانوا )) ، وهذه المعية العامة شاملة لجميع الخلق ، فما من مخلوق إلا والله تعالى معه ، يَعلَمه ويحيط به سلطانا وقدرة وسمعا وبصرا وغير ذلك ، أما المعية الخاصة فهي المعية التي تقتضي النصر والتأييد ، وهذه خاصة بالرسل وأتباعهم ، ليست لكل أحد ، فالله (( مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )) ، (( والله مع الصابرين )) وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على هذه المعية الخاصة ، ولكن المعيتين كلتاهما لا تدلان على أن الله عز وجل مع الناس في أمكنتهم ، بل هو مع الناس وهو عز وجل فوق سماواته على عرشه ، ولا مانع من ذلك ، فإن الشيء يكون فوق وهو معك ، والعرب يقولون : " ما زلنا نسير والقمر معنا " ، وكلٌ يعلم أن القمر في السماء ، ويقولون : " ما زلنا نسير وسهيل معنا " يعني النجم المعروف وهو في السماء ، فما بالك بالخالق عز وجل ، هو فوق كل شيء استوى على عرشه ومع ذلك محيط بكل شيء مع كل أحد ، مهما انفردت فإن الله تعالى محيط بك علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وغير ذلك .
وفي قوله تعالى : (( إن الله مع الصابرين )) دليل على أن الصابر معان من قبل الله ، وأن الله تعال يعين الصابر ويؤيده ويكلأه حتى يتم له الصبر على ما يحبه الله عز وجل .
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- آخر آية ساقها وهي قوله تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم )) : ولنبلونكم يعني : لنختبرنكم ، فالابتلاء بمعنى الاختبار ، أو البلوى بمعنى الاختبار ، يعني أن الله اختبر العباد في فرض الجهاد عليهم ، ليعلم من يصبر ومن لا يصبر ، ولهذا قال تعالى في آية أخرى : (( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ )) ، وقوله عز وجل : (( حتى نعلم المجاهدين )) : قد يتوهم بعض من قَصُر علمه أن الله عز وجل لا يعلم الشيء حتى يقع ، وهذا غير صحيح ، فالله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها كما قال تعالى : (( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )) ، ومن ادعى أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه ، فإنه مكذب لهذه الآية وأمثالها من الآيات الدالة على أن الله تعالى قد علم الأشياء قبل أن تقع ، لكنَّ العلم الذي في هذه الآية : (( حتى نعلم المجاهدين )) : هو العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب ، وذلك لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون لا يترتب عليه شيء من جهة فعل العبد ، لأن العبد لم يبل به حتى يتبين الأمر ، فإذا بلي به العبد واختُبر به العبد ، حينئذ يتبين أنه استحق الثواب أو العقاب ، فيكون المراد بقوله : (( حتى نعلم المجاهدين )) : أي علما يترتب عليه الجزاء ، وقال بعض أهل العلم : " المراد حتى نعلم المجاهدين أي : علم ظهور " ، يعني حتى يظهر الشيء ، لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأن سيكون ، وعلمه بعد كونه علم بأنه كان ، وفرق بين العلمين : فالعلم الأول علم بأنه سيكون ، والثاني علم بأنه كان .
ويظهر لك الفرق لو أن شخصا قال لك : سوف أفعل كذا وكذا غدا مثلا فالآن حصل عندك علم بما أخبر به ، ولكن إذا فعله غدا صار عندك علم آخر ، أي : علم بأن الشيء الذي حدثك أنه سيفعله قد فعله فعلا ، فهذان وجهان في تخريج قوله تعالى : (( حتى نعلم )) : الوجه الأول : أنَّ المراد به العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب ، وهذا لا يكون إلا بعد البلوى ، بعد أن يبتلي الله العبد ويختبره ، أو أن المراد به وهو الاحتمال الثاني : أن المراد به علم الظهور ، لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون ، فإذا كان صار علمه تعالى به عِلما بما كان ، وقوله : (( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين )) : المجاهد هو الذي بذل جهده لإعلاء كلمة الله ، فيشمل المجاهد بعلمه ، والمجاهد بالسلاح ، كلاهما مجاهد في سبيل الله ، المجاهد بعلمه الذي يتعلم العلم ويعمله وينشره بين الناس ويجعل هذا وسيلة لتحكيم شريعة الله ، هذا مجاهد ، والذي يحمل السلاح لقتال الأعداء هو أيضا مجاهد .