قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه وابن حبه رضي الله عنهما قال ( أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم إن ابني قد احتضر فاشهدنا فأرسل يقرئ السلام ويقول ( إن لله ما أخذ، وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب ) فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال رضي الله عنهم فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا فقال ( هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده ) وفي رواية ( في قلوب من شاء من عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) متفق عليه ومعنى تقعقع تتحرك وتضطرب ".
الشيخ : بقيت فاطمة ولكن ليس لها ميراث ، لا هي ولا زوجاته ، ولا عمه العباس ، ولا أحد من عصبته ، لأن الأنبياء لا يورثون كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إنَّا معشرَ الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة ) ، وهذا من حكمة الله عز وجل ، لأنهم لو وُرِثوا لقال مَن يقول : إن هؤلاء جاؤوا بالرسالة يطلبوا مُلكا يورث مِن بعدهم ، ولكنَّ الله عز وجل مَنَع ذلك ، فالأنبياء لا يورثون ، بل ما يتركونه يكون صدقة يُصرف للمستحقين له ، والله الموفق . القارئ : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه سلم وحِبه وابن حِبه رضي الله عنهما قال : ( أرسلت بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم : إن ابني قد احتضر فاشهدنا ، فأرسل يقرئ السلام ويقول : إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب . فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ورجال رضي الله عنهم ، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبيُ فأقعده في حِجره ونفسه تقعقع ، ففاضت عيناه ، فقال سعد يا رسول الله ما هذا ؟ فقال : هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده ) . وفي رواية : ( في قلوب من شاء من عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) ، متفق عليه ، ومعنى تٌقعقع : تتحرك وتضطرب " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه وابن حبه رضي الله عنهما قال ( أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم إن ابني قد احتضر فاشهدنا فأرسل يقرئ السلام ويقول ( إن لله ما أخذ، وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب ) ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي زيد ، أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم ، وأسامة بن زيد كان ابن زيد بن حارثة ، وزيد بن حارثة كان مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عبدا فأهدته إليه خديجة رضي الله عنها ، فأعتقه فصار مولى له ، وكان يلقب : بِحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حِب يعني الحبيب ، وابنه أيضا حِب ، فأسامة حِب وابن حِب رضي الله عنهما ، ذكر ( أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولًا تقول له : إن ابنها قد احتضر ) يعني : حضره الموت وإنها تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر ، فبلَّغ الرسولُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مُرها فلتصبر ولتحتسب ، فإن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ) : أمر النبيُ عليه الصلاة والسلام الرجلَ الذي أرسلته ابنتُه أن يأمر ابنتَه يعني أم هذا الطفل أم هذا الصبي بهذه الكلمات ، قال : ( فلتصبر ) يعني : تحبس نفسها عن السخط ، وتتحمل المصيبة ، ( ولتحتسب ) يعني : تحتسب الأجر على الله بصبرها ، لأن من الناس من يصبر ولا يحتسب ، يصبر على المصيبة ولا يتضجر لكنه ما يؤمل أجرها على الله ، فيفوته بذلك خير كثير ، لكن إذا صبر واحتسب الأجر يعني : أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره ، فهذا هو الاحتساب . ( مرها فلتصبر ) يعني على هذه المصيبة ، ولتحتسب أجرها على الله عز وجل ، ( فإن لله ما أخذ وله ما أعطى ) : هذه الجملة عظيمة ، إذا كان الشيء كله لله إن أخذ منك شيئا فهو ملكه ، وإن أعطاك شيئا فهو ملكه ، فكيف تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو ، عليك إذا أخذ الله منك شيئا محبوبا لك أن تقول : هذا لله ، له أن يأخذ ما شاء وأن يعطي ما شاء ، ولهذا كان يسن للإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يقول : إن لله وإنا إليه راجعون ، يعني نحن ملك لله يفعل بنا ما شاء ، كذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له عز وجل ، له ما أخذ وله ما أعطى ، حتى الذي يعطيك أنت لا تملكه هو لله ، ولهذا لا يمكن أن تتصرف فيه أي : فيما أعطاك الله ، إلا على الوجه الذي أذن لك فيه ، وهذا دليل على أن ملكنا لما يعطينا الله ملك قاصر ، ما نتصرف فيه تصرفا مطلقا ، لو أراد الإنسان أن يتصرف في ماله تصرفا مطلقا على وجه لم يأذن به الشرع قلنا له : أمسك لا يمكن ، لأن المال مال الله ، كما قال تعالى : ((وآتوهم من مال الله الذي آتاكم )) المال مال الله ما تتصرف فيه إلا على الوجه الذي أذن لك فيه ، ولهذا قال : ( لله ما أخذ وله ما أبقى ) : فإذا كان لله ما أخذ فكيف نجزع ؟ كيف نتسخط ؟! أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالى هذا خلاف المعقول وخلاف المنقول . قال : ( وكل شيء عنده بأجل مسمى ) : كل شيء عند الله بأجل مسمى ، كل شيء عند الله بمقدار ، كما قال تعالى في القرآن الكريم : (( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ )) بمقدار في زمنه ومكانه وذاته وصفاته وكل شيء يتعلق به فهو عند الله مقدر ، كل شيء عنده بأجل مقدر ، بأجل مسمى يعني مسمى أي : معين ، فإذا أيقنت بهذا : أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى ، اقتنعت ، وهذه الجملة الأخيرة يعني أن الإنسان لا يمكن أن يغير المكتوب المؤجل لا بتقديم ولا بتأخير ، (( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )) : فإذا كان الشيء مؤجلا لا يتقدم ولا يتأخر فلا فائدة من الجزع والتسخط ، لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغير شيئا من المقدور .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال رضي الله عنهم فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا فقال ( هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده ) وفي رواية ( في قلوب من شاء من عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) متفق عليه ومعنى تقعقع تتحرك وتضطرب ... ".
الشيخ : ثم إن الرسول أبلغَ البنت بنتَ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يبلغه إياها ، ولكنها أرسلت إليه تطلب أن يحضر ، فقام عليه الصلاة والسلام هو وجماعة من أصحابه ، وصل إليها ، ( فَرُفع إليه الصبي ونفسه تتقعقع ) : يعني تضطرب تصعد وتنزل ، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام دمعت عيناه فقال سعد بن عبادة ، وكان معه ، وكان هو سيد الخزرج ، يعني سيد القبيلة الكبيرة من الأنصار وهي الخزرج فقال : ( ما هذا ؟ ) : ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم بكى جَزعا ما هذا ؟ كيف تبكي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذه رحمة ) : يعني بكيت رحمة بالصبي لا جزعا بالمقدور ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( إنما يرحمُ الله من عباده الرحماء ) : ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة بالمصاب ، إذا رأيت مُصابا في عقله أو بدنه فبكيت رحمةً به فهذا دليل على أن الله تعالى جعل في قلبك رحمة ، وإذا جعل الله في قلب الإنسان رحمة كان من الرحماء الذين يرحمهم الله عز وجل ، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته . الطالب : آمين . الشيخ : المهم أن في هذا الحديث دليل على وجوب الصبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مُرها فلتصبر ولتحتسب ) . وفيه دليل أيضا على أن هذه الصيغة من العزاء أفضل صيغة ، أفضل من قول بعض الناس : أعظم الله أجرك وأحسن عزاك وغفر لميتك ، هذه صيغة اختارها بعض العلماء ، لكن الصيغة التي اختارها الرسول عليه الصلاة والسلام : ( اصبر واحتسب ، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى ) ، هذه إذا سمعها المصاب اقتنع أكثر . والتعزية في الحقيقة ليست تهنئة كما ظنها بعض العوام ، ليست تهنئة يُحتفل بها وتوضع لها الكراسي وتوقد لها الشموع ويحضر لها القراء والأطعمة ، لا ، التعزية تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر ، ولهذا لو أن أحدا لم يصب بالمصيبة مثل لو مات له ابن عم ولم يهتم به ، فإنه لا يعزى ، التعزية ما هي تهنئة كأنه ولد له فإذا ولد له هنأناه ، التعزية تسلية وتقوية على الصبر ، ولهذا قال العلماء رحمهم الله : " تسن تعزية المصاب ولم يقولوا تسن تعزية القريب " ، لأن القريب قد لا يصاب بموت قريبه والبعيد يصاب لقوة صداقة بينهما مثلا ، فالتعزية للمصاب لا للقريب ، أما الآن مع الأسف فانقلبت الموازين ، وصارت التعزية للقريب ، حتى وإن كان قد فرح وضرب الطبول لموت قريبه فإنه يعزى ، يعني ربما يكون بعض الناس فقير ، وبينه وبين ابن عمه مشاكل كثيرة ومات ابن عمه وله ملايين الدراهم ، هل يفرح إذا مات ابن عمه في مثل هذه الحال أو يصاب ؟ غالبا يفرح ، يقول : الحمد لله الذي فكني من مشاكله وورثني ماله ، هذا لا يعزى ، كيف يعزى ؟! هذا يهنأ لو أردنا أن نقول شيئا . المهم أنه يجب أن نعلم أن التعازي إنما هي لتقوية المصاب على الصبر ، وتسليته ، فيُختار لها من الكلمات أفضل ما يكون وأقرب ما يكون للتعزية ، ولا أحسنَ من الكلمات التي صاغها نبينا صلى الله عليه وسلم ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كان ملك فيمن قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل . فأخذ حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال أولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله تعالى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال ما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع في صدغه فوضع يده في صدغه فمات فقال الناس آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم فيها النيران وقال من لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق رواه مسلم . ذروة الجبل أعلاه وهي بكسر الذال المعجمة وضمها والقرقور بضم القافين نوع من السفن والصعيد هنا الأرض البارزة والأخدود الشقوق في الأرض كالنهر الصغير وأضرم أوقد وانكفأت أي انقلبت وتقاعست توقفت وجبنت .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " وعن صهيب رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان ملِك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كَبُر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، وكان إذا أتى الساحرَ مر بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حَبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل . فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك من أمرِ الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل عليّ ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ) " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كان ملك فيمن قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل . فأخذ حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- في باب الصبر فيه قصة عجيبة ، وهي أن رجلا من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر ، هذا الساحر اتخذه الملك بِطانة مِن أجل أن يستخدمه في مصالحه ، ولو على حساب الدين ، لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته ، وهو ملك مستبِد ، قد عبّد الناس لنفسه كما سيأتي إن شاء الله في آخر الحديث ، هذا الساحر لما كبر قال للملك : إني قد كبرت ، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، واختار الغلام ، لأن الغلام أقبل للتعليم ، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى ولا يُنسى ، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر وفي كل خير ، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان : الفائدة الأولى : أن الشاب في الغالب أسرع حفظا من الكبير ، لأن الشاب فارغ البال ، ليس عنده مشاكل توجب انشغالاً . وثانيا : أن ما يحفظه الشاب يبقى ، وما يحفظه الكبير يُنسى ، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس : " أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر " ، لا يزول . وفيه فائدة ثالثة : وهي أن الشاب إذا ثَقِف العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له ، وصار كأنه غريزة قد شب عليها فيشيب عليها ، فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة ، وعرف الأشياء فطلب من الملك أن يختار له شابا غلاما يعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما فعلمه ما علمه ، ولكن الله تعالى قد أراد لهذا الغلام خيرا ، مَرَّ هذا الغلام يوما من الأيام براهب ، فسمع منه ، فأعجبه كلامه ، فأعجمه كلامه لأن هذا الراهب يعني العابد عابد لله عز وجل لا يتكلم إلا بالخير ، وقد يكون راهبا عالما لكن تغلب عليه العبادة فسمي بما يغلب عليه من الرهبانية ، المهم أنه أعجبه ، وصار إذا خرج هذا الغلام مِن أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر ، فجعل الساحر يضربه ليش تأخرت ؟ فشكى الغلامُ إلى الراهب ما يجده من الساحر من الضرب إذا تأخر ، فلقنه الراهب أمرًا يتخلص به ، قال : إذا ذهبت إلى الراهب وخشيت أن يعاقبك فقل : إن أهلي حبسوني ، يعني تأخر عند أهله ، وإذا أتيت لأهلك فقل : إن الساحر أخرني ، حتى تنجو من هذا ومن هذا ، وكأن الراهب والله أعلم أمره بذلك مع أنه كذب : لعله رأى أن المصلحة في هذا تربو على مفسدة الكذب ، مع أنه يمكن أن يتأول ، ففعل ، فصار الغلام يأتي إلى الراهب ويسمع منه ثم يذهب إلى الساحر ، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال : أهلي أخروني ، وإذا رجع إلى أهله وتأخر عند الراهب قال : إن الساحر أخرني ، فمرَّ ذات يوم بدابة عظيمة ، ولم يعين في الحديث ما هذه الدابة ، قد حبست الناس عن التجاوز ، لا يستطيعون أن يتجاوزوها ، فأراد هذا الغلام أن يختبر : هل الراهب خير له أم الساحر ؟! فأخذ حجرا ودعا الله سبحانه وتعالى : إن كان أمر الراهب خيرا أن يقتل هذا الحجر هذه الدابة ، فرمى بالحجر فقتل الدابة ، فمشى الناس ، فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر ، وهذا أمرٌ لا شك فيه ، لأن الساحر إما معتدٍ ظالم ، وإما كافر مشرك ، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرب إليهم ويعبدهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك ، وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدوية فيها سحر ، فهذا ظالم معتدي ، أما الراهب فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتدي ، وإن كان عند شيء من الجهل والضلال فنيته طيبة ، وإن كان عمله سيئا . المهم أن هذا الغلام أخبر الراهب بما جرى ، فقال له الراهب : أنت اليوم خير مني : وذلك لأن هذا الغلام دعا الله فاستجاب الله له ، وهذا من نعمة الله على العبد ، أن الإنسان إذا شك في الأمر ثم طلب من الله آية تبين له شأن هذا الأمر فبينه الله له ، فإن هذا من نعمة الله عليه . ومن ثَمَّ شرعت الاستخارة للإنسان إذا هم بالأمر وأشكل عليه هل في إقدامه أو في إحجامه خير ، فإنه يستخير الله ، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالى يعطيه ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو في الإحجام إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا ، وإما برؤيا يراها في المنام ، وإما بمشورة أحد من الناس ، وإما بغير ذلك . المهم أن هذا الغلام كان أيضا من كراماته أنه يُبرئ الأكمه والأبرص ، يعني أنه يدعو لهم فيبرؤون وهذا من كرامات الله له ، وليس كقصة عيسى بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ ، بل هذا يدعو الله فيستجيبُ الله تعالى دعاءه ، فيبرئ بدعائه الأكمه والأبرص ، وقد أخبره ، الراهب أخبر هذا الغلام بأنه سيبتلى ، يعني سيكون له محنة واختبار ، وطلب منه ألا يخبر به إن هو ابتلي بشيء ، وسيأتي إن شاء الله بقية الحديث . القارئ : " ( وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جَليس للمَلِك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله تعالى دعوتُ الله فشفاك ، فآمنَ بالله تعالى فشفاه الله تعالى ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من ردَّ عليك بصرك ؟ قال : ربي ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بُني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مَفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مَفرِق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ) " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال أولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : في سياق الحديث السابق في قصة الغلام مع الساحر والراهب ، ذكر أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ، وأنه يداوي من الأدواء كلها فيُشفى المرضى بإذن الله عز وجل ، وكأن هذا الغلام والله أعلم مستجاب الدعوة ، إذا دعا الله سبحانه وتعالى قبل منه ، وكان للملك جليسٌ أعمى لا يبصر ، فأتى بهدايا كثيرة لهذا الغلام حينما سمع عنه ما سمع ، وقال : ( لك ما ههنا أجمع ) يعني كله ( إن أنت شفيتني ) ، فقال : ( إنما يشفيك الله ) : شوف الإيمان ، ما اغتر بنفسه وادعى أنه هو الذي يشفي المرضى ، بل قال : ( إنما يشفيك الله عز وجل ) : يشبه هذا مِن بعض الوجوه ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ، " حينما جيء إليه برجل مصروع قد صرعه الجني ، فقرأ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه لم يخرج ، فجعل شيخ الإسلام يضربه على رقبته ضربا شديدا ، حتى إن يدَ شيخ الإسلام أوجعته من الضرب ، فتكلم الجني الذي في الرجل وقال له : أخرجُ كرامة للشيخ ، فقال له الشيخ -رحمه الله- : لا تخرج كرامة لي ولكن اخرج طاعة لله ورسوله ، لا يريد أن يكون له فضل ، الفضل لله عز وجل أولا وآخرا ، فخرج الجني ، فلما خرج الجني صحا الرجل ، فقال : ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟ لأنه حينما صُرع -يمكن في بيته في سوقه- ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا : سبحان الله ألم تحس بالضرب الذي كان يضربك ؟ قال : ما أحسست به ولا أوجعني ، فأخبروه فبرئ الرجل " . الشاهد : أن أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم ، وإنما ينسبونها إلى موليها عز وجل ، وهو الله ، قال : ( إنما يشفيك الله ) يقوله الغلام للأعمى : ( فإن أنتَ آمنت دعوتُ الله لك فآمن الرجل فدعا الغلام ربه أن يشفيه فشفاه الله وأصبح مبصرا ) : أصبح مبصرا ، فجاء هذا الجليس إلى الملك وجلس عنده على العادة ، وأتى الغلام وأخبره بالخبر ، وعذبه تعذيبا شديدا ، قال : ( من الذي علمك بها الشيء ؟ ) : وكان الراهب قد قال له : ( فإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تخبر عني ) ، لكن لعله عجز عن الصبر فأخبر عن الراهب ، وكان هذا الملك الجبار والعياذ بالله قد عذب الجليس الأعمى الذي أبصر بدعوة هذا الغلام ، عذبه تعذيبا شديدا ، حيث قال : آمنت بالله ، فقال : أولك رب غيري ؟ نعوذ بالله ، لما دلوه على الراهب جيء بالراهب ، والراهب عابد يعبد الله ، فدعي إلى أن يقول : إن هذا الملك هو ربه ولكنه أبى ، أبى أن يرجع عن دينه ، فأتوا بالمنشار ، المنشار : المشذاب ، فشذبوه من مفرق رأسه ، من نصف الجسم ، من مفرق الرأس على الرأس على الرقبة على الظهر حتى انقسم قسمين ، شقين سقط شق هنا وشق هنا ، ولكنه لم يثنه ذلك عن دينه ، أبى أن يرجع ، ورضي أن يقتل هذه القتلة ولا يرجع عن دينه ما شاء الله ، ثم جيء بالرجل الأعمى الذي كان جليسا عند الملك وآمن ، وكفر بالملك ، فدعي أن يرجع عن دينه فأبى ، ففعل به كما فعل بالراهب أتي بالمنشار : بالمشذاب وأشذب مع نصفه ، من هامته إلى دبره حتى انشق نصفين وسقط ، ولم يرده ذلك عن دينه ، وهذا يدل على الإنسان يجب عليه أن يصبر وأن يحتسب ، ولكن هل يجب على الإنسان أن يصبر على القتل أو يجوز أن يقول كلمة الكفر ولا تضره إذا كان مكرها ؟ هذا فيه تفصيل : إن كانت المسألة تتعلق به بنفسه فله الخيار ، إن شاء قال كلمة الكفر دفعا للإكراه مع طمأنينية القلب بالإيمان ، وإن شاء الله أصرَّ وأبى ولو قتل ، هذا إذا كان الأمر عائدا إلى الإنسان بنفسه ، يعني مثلا قيل له : اسجد للصنم فلم يسجد فقتل ، أو سجد دفعا للإكراه ولم يقتل ، أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين بمعنى : أنه لو كفر ولو ظاهرا أمام الناس لكفر الناس ، فإنه لا يجوز له أن يقول كلمة الكفر ، بل يجب أن يصبر ولو قتل ، كالجهاد في سبيل الله ، المجاهد يقدم على القتل ولو قتل لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا ، فإذا كان إماما للناس وأُجبر على أن يقول كلمة الكفر فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر ، لاسيما في زمن الفتنة ، بل عليه أن يصبر ولو قتل .
الشيخ : ومثلُ ذلك ما وقع للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حين امتُحن المحنة العظيمة المشهورة على أن يقول : إن القرآن مخلوق وليس كلام الله ، فأبى ، فأوذي وعزر حتى إنه يجر بالبغلة في الأسواق ، إمام أهل السنة يجر بالبغلة بالأسواق ويضرب بالسوط حتى يُغشى عليه ، ولكنه كلما أفاق قال : القرآن كلام ربي غير مخلوق ، وإنما لم يُجز لنفسه أن يقول كلمة الكفر مع الإكراه ، لأن الإمام أحمد الناس ينتظرون ماذا يقول ، لو قال : القرآن مخلوق ، لكان كل الناس يقولون : القرآن مخلوق ، وفسد الدين ، لكنه رضي الله عنه جعل نفسه فداء للدين ، ومع هذا صبر واحتسب ، وكانت العاقبة له ولله الحمد ، مات الخليفة ، ومات الخليفة الثاني الذي بعده ، وأتى الله بخليفة صالح أكرم الإمام أحمد إكراما عظيما ، فما مات الإمام أحمد حتى أقر الله عينه بأن يقول الحق عاليا مرتفع الصوت ويقول الناس معه الحق ، وأعداؤه خُذلوا ولله الحمد ، أعداؤه الذين كانوا يحرضون الخلفاء عليه خذلوا وهذا دليل على أن العاقبة للصابرين ، وهو كذلك ، والله الموفق . القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " ( ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر مِن أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهمُ الله تعالى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قُرقور وتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، فقال للملك : إنكَ لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع في صدغه فوضع يده في صدغه فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فأُتي الملك فقيل له أرأيتَ ما كنت تحذر ) " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله تعالى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال ما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع في صدغه فوضع يده في صدغه فمات فقال الناس آمنا برب الغلام ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : في بقية هذا الحديث الطويل في قصة الغلام : لما قتل الملك الراهبَ ، وقتل جليسه ، جيء بالغلام فطُلب منه أن يرجع عن دينه إلى دين الملك ، ودين الملك دين شرك ، لأنه والعياذ بالله يدعو الناس إلى عبادته وتأليهه ، أبى الغلام أن يرجع ، فدفعه الملك إلى نفر مِن أصحابه ، يعني جماعة من الناس وقال لهم : ( اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ) : جبل معروف عندهم شاهق رفيع ، ( فإذا بلغتم ذروته فاطرحوه ) يعني : اطرحوه على الأرض ، ليقع من رأس الجبل فيموت ، يقول : بعد أن تعرضوا عليه أن يرجع عن دينه ، ( فإن رجع وإلا فاطرحوه ، فلما بلغوا به قمة الجبل طلبوا منه أن يرجع عن دينه فأبى ) : لأن الإيمان قد وقر في قلبه ، ولا يمكن أن يتحول أو يتحلحل ، فلما هموا أن يطرحوه قال : ( اللهم اكفنيهم بما شئت ) دعوة مضطر مؤمن ، ( اللهم اكفنيهم بما شئت ) : بالذي تشاء ولم يعين ، ( فرجف الله بهم الجبل فسقطوا ) وهلكوا ، ( وجاء الغلام إلى الملك فقال : ما الذي جاء بك ، أين أصحابك ؟ فقال : قد كفانيهم الله عز وجل ، ثم دفعه إلى نفر آخر : جماعة آخرين وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور ) يعني سفينة ، ( فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه فإن لم يفعل رموه في البحر ، فلما توسطوا مِن البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه ، عن الإيمان بالله عز وجل فقال : لا ، أبى ثم قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله ، ثم جاء إلى الملك فقال : أين أصحابك ؟ فأخبره بالخبر ، ثم قال له : إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ) : كل أهل البلد تجمعهم في مكان واحد صعيد ، ( ثم تصلبني على جذع ، ثم تأخذ سهما من كنانتي ، فتضعه في كبد القوس ثم ترميني به وتقول : بسم الله رب الغلام ، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الملك ، جمع الناس في صعيد واحد ، وصلب الغلام ، وأخذ سهما من كنانته ، فوضعها في كبد القوس ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فأصابه السهم في صُدغه فوضع يده عليه ومات ، فأصبح الناس يقولون : بسم الله رب الغلام ) ، وآمنوا بالله ، وكفروا بالملك ، وهذا هو الذي كان يريده هذا الغلام . ففي هذه القطعة من الحديث دليل على مسائل : أولاً : على قوة إيمان هذا الغلام ، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ، ولم يتحول ، وفيه آية من آيات الله حيث أكرمه الله عز وجل في قبول دعوته ، فزلزل الجبل بالقوم الذين يريدون أن يطرحوه من رأس الجبل ، حتى سقط ، وفيه أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ، فإذا دعا الإنسان ربه في حال ضرورة موقنا أن الله يجيبه فإن الله تعالى يجيبه ، حتى الكفار إذا دعوا الله في حال الضرورة أجابهم الله مع أنه يعلم أنهم سيرجعون إلى الكفر ، إذا غشيهم موج كالظلل في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، فإذا نجاهم أشركوا ، فينجيهم لأنهم صدقوا في الرجوع إلى الله تعالى عند دعائهم ، وهو سبحانه وتعالى يجيب المضطر ولو كان كافرا . وفيه مِن الفوائد أيضًا : أن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين ، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ، ويُهلك به نفسه ، وهو أن يأخذ سهما من كنانته ويضعه في كبد القوس ويقول : بسم الله رب الغلام ، قال شيخ الإسلام : " لأن هذا جهاد في سبيل الله " : آمن أمة ، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئا ، لأنه مات وسيموت إن عاجلا أو آجلا . فأما ما يفعله بعض الناس مِن الانتحار بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ، ثم يفجرها إذا كان بينهم ، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله ، ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم ، أبد الآبدين ، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام ، لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مئة أو مئتين لم ينتفع الإسلام بذلك ، لم يُسلم الناس ، بخلاف قصة الغلام فإن فيها إسلام كثير ، كل الذين حضروا في هذا الصعيد أسلموا ، أما أن يموت عشرة أو عشرون أو مئة أو مئتان مِن العدو فهذا لا يقتضي أن يُسلم الناس ، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدرَه هذا العمل حتى يفتك بالمسلمين أشد فتكا ، كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين ، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة أخذوا مِن جراء ذلك ستين نفرا .