شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه يقول ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) متفق عليه .... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : ( كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبياً من الأنبياء ، ضربه قومه فأدموه ، فجعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) : هذا الحديث يحكي النبي عليه الصلاة والسلام فيه شيئاً مما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والأنبياء كلفهم الله تعالى بالرسالة ، لأنهم أهل لها ، كما قال الله تعالى : (( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) ، فهم أهل لها في التحمل والتبليغ والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك . وكان الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤذون ، يُؤذون بالقول وبالفعل وربما بلغ الأمر إلى قتلهم ، وقد بيَّن الله ذلك في كتابه حيث قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ )) ، (( وإن كان كَبُر عليك إعراضهم فإن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )) : يعني إن استطعت ذلك فافعل ، (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )) : ولكن لحكمة اقتضت أن يكذبوك حتى يتبين الحق من الباطل بعد المصارعة والمجادلة ، (( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )) . حكى نبينا صلى الله عليه وسلم : ( عن نبي من الأنبياء أن قومه ضربوه -ولم يضربوه إلا حيث كذبوه- حتى أدموا وجهه ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) : هذا غاية ما يكون من الصبر لأن الإنسان لو ضرب على شيء من الدنيا لاستشاط غضبا ، وانتقم ممن ضربه ، وهذا يدعو إلى الله ، ولا يتخذ على دعوته أجرا ، ومع هذا يضربونه حتى يُدموا وجهه وهو يقول : يمسح الدم عن وجهه ويقول : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) ، وهذا الذي حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدثنا به عبثاً ، أو لأجل أن يقطع الوقت علينا بالحديث ، وإنما حدثنا بذلك مِن أجل أن نتخذ منه عبرة نسير عليها ، كما قال سبحانه وتعالى : (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )) . العبرة من هذا أن نصبر على ما نؤذى به من قول أو فعل في سبيل الدعوة إلى الله وأن نقول متمثلين : " هل أنتِ إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت " . وأن نصبر على ما يصيبنا مما نسمعه أو ينقل إلينا مما يقال فينا بسبب الدعوة إلى الله ، وأن نرى أن هذا رفعة لدرجاتنا ، وتكفير لسيئاتنا ، فعسى أن يكون في دعوتنا خلل من نقص في الإخلاص ، أو من كيفية الدعوة وطريقها ، فيكون هذا الأذى الذي نسمع يكون كفارة لما وقع منا ، لأن الإنسان مهما عمل فهو ناقص ، لا يمكن أن يكمل عمله أبدا إلا أن يشاء الله ، فإذا أصيب وأوذي في سبيل الدعوة إلى الله فإن هذا من باب تكميل دعوته ورفعة درجته ، فليصبر وليحتسب ولا ينكص على عقبيه ، لا يقول : ماني ملزوم أنا أصابني الأذى أنا أوذيت أنا تعبت ، يصبر ، الدنيا ليست طويلة أيام ثم تزول ، فاصبر حتى يأتي الله بأمره ، وفي قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحكي لنا ) : فيه دليل على أن المحدِّث أو المخبِر يخبر بما يؤيد ضبطه للخبر والحديث ، وهذا أمر شائع عند الناس ، يقول : كأني أنظر إلى فلان وهو يقول لنا كذا وكذا ، يعني كأني قد ضبطت القصة ، كأني أنظر إليه الآن وكأني أسمع كلامه الآن ، فإذا استعمل الإنسان مثل هذا الأسلوب لتثبيت ما يحدث به فله في ذلك أسوة من السلف الصالح رضي الله عنهم ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) متفق عليه و الوصب المرض . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً قال ( أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ) قلت ذلك أن لك أجرين قال ( أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها ) متفق عليه ... " .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما يصيبُ المسلمَ من نصب ولا وَصَب ولا هم ولا حَزَن ولا أذى ولا غم حتى الشوكةُ يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) ، متفق عليه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك ، فقلت يا رسول الله : إنك توعك وعكاً شديداً ، قال : أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم . قلت : ذلك أن لك أجرين ، قال : أجل ذلك كذلك ، ما من مسلم يصيبه أذى شوكةٌ فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته ، وحُطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها ) ، متفق عليه " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) متفق عليه و الوصب المرض . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً قال ( أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ) قلت ذلك أن لك أجرين قال ( أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها ) متفق عليه ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : هذان الحديثان ، حديث أبي هريرة وأبي سعيد ، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين : فيها دليل ، بل فيهما دليل على أن الإنسان يكفر عنه بما يصيبه مِن الهم والنَصَب والغم وغير ذلك ، وهذا مِن نعمة الله سبحانه وتعالى ، يبتلي سبحانه وتعالى عبده بالمصائب ، وتكون تكفيرا لسيئاته ، وحطا لذنوبه ، والإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يبقى مسرورا دائما ، بل هو يومٌ يسر ويوم يحزن ، ويوم يأتيه شيء ويوم لا يأتيه ، فهو مصاب بمصائب في نفسه ، ومصائب في بدنه ، ومصائب في مجتمعه ، ومصائب في أهله ، ولا تحصى المصائب التي تصيب الإنسان ، ولكن : ( المؤمن أمره كله له خير ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ) ، فإذا أُصبت بالمصيبة فلا تظن أن هذا الهم الذي يأتيك أو هذا الألم الذي يأتيك ، ولو كان شوكة لا تظنَّ أنه يذهب سُدى ، بل ستعوض عنه خيرا منه ، ستُحط عنك الذنوب كما تحط الشجرة ورقها ، وهذا من نعمة الله وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر والاحتساب ، يعني احتساب الأجر كان له مع هذا أجر ، فالمصائب تكون على وجهين : تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر ، واحتسب هذه المصيبة على الله ، فيكون فيها فائدتان : تكفير الذنوب ، وزيادة الحسنات ، وتارة يغفل عن هذا : يضيق صدره ، يصيبه أصبعه جرح أو ما أشبه ذلك ، ويغفل عن نية الاحتساب ، احتساب الأجر والثواب على الله ، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته . إذًا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه ، رابح بكل حال ، فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر ، لأنه لم ينو شيئا ولم يحتسب الأجر ، وإما أن يربح شيئين : تكفير السيئات ، وحصول الثواب من الله عز وجل . لهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة تبطه فليتذكر الاحتساب ، احتساب الأجر من الله سبحانه وتعالى على هذه المصيبة حتى يؤجر عليها مع تكفيرها للذنوب ، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه ، الذي يبتلي المؤمن ثم يثيبه على هذه البلوى أو يكفر عنه سيئاته ، فالحمد لله رب العالمين ، سبحان الله سبحان الله .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيراً يصب منه ) رواه البخاري . وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) متفق عليه " .
القارئ : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن يُرد الله به خيراً يُصَب منه ) ، رواه البخاري . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضُرٍ أصابه ، فإن كان لابد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) ، متفق عليه " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيراً يصب منه ) رواه البخاري ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : نقل المؤلف -رحمه الله- في باب الصبر والثواب عليه حديثين أحدهما عن أبي هريرة ، والثاني عن أنس بن مالك رضي الله عنه في ثواب الصبر والاحتساب ، وأن الإنسان ينبغي له ، بل يجب عليه أن يصبر ويتحمل ، أما حديث أبي هريرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من يُرد الله به خيرا يُصَب منه ) وقرئت هذه الكلمة بوجهين : ( يصَب منه ) أو ( يصِب منه ) : وكلاهما صحيح ، أما يصِب منه فالمعنى : أن الله تعالى يقدر عليه المصائب حتى يبتليه بها أيصبر أو يضجر ؟ وأما ( يصَب منه ) : فهي أعم ، يعني يصاب من الله ومن غيره ، ولكن هذا الحديث المطلق مقيد بالأحاديث الأخرى التي تدل على أنَّ المراد : ( مَن يُرد الله به خيرا ) فيصبر ويحتسب ، فيصيب الله منه حتى يبلوه . أما إذا لم يصبر فإنه قد يصاب الإنسان ببلايا كثيرة وليس فيه خير ، ولم يُرد الله به خيرا ، فالكفار يصابون بمصائب كثيرة ومع ذلك يبقون على كفرهم حتى يموتوا عليه ، وهؤلاء بلا شك لم يرد الله بهم خيرا ، لكن المراد من يرد الله به خيرا فيصيبَ منه فيصبر على هذه المصائب ، فإن ذلك من الخير له ، لأنه سبق أن المصائب يكفر الله بها الذنوب ويحط بها الخطايا ، ومن المعلوم أن تكفير الذنوب والسيئات وحطِّ الخطايا لا شك أنه خير للإنسان ، لأن المصائب غاية ما فيها أنها مصائب دنيوية تزول بالأيام ، كلما مضت الأيام خفت عليك المصيبة ، لكن عذاب الآخرة باقي والعياذ بالله ، فإذا كفر الله عنك في هذه المصائب صار ذلك خيرا لك .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) متفق عليه ... " .
الشيخ : أما الثاني : فهو : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتمنى الإنسان الموت لضر نزل به ) : وذلك أن الإنسان ربما ينزل به ضر فيعجز عن التحمل ويتعب ، فيتمنى الموت يقول : يا رب أمتني سواء قال ذلك بلسانه أو بقلبه ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قال : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ) : فقد يكون هذا خيرا له ، ولكن إذا أصبت بضر فقل : اللهم أعني على الصبر عليه ، حتى يعينك الله فتصبر ويكون ذلك لك خيرا ، أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري ربما يكون الموت شرا عليك ، لا يحصل به راحة ، ليس كل موت راحة كما قال الشاعر : " ليس مَن مات فاستراحَ بِميت " . الإنسان يموت ربما يموت فيموت إلى عقوبة والعياذ بالله ، وإلى عذاب القبر ، وإذا بقي في الدنيا فربما يَستَعتِب ويتوب ويرجع إلى الله فيكون خيرا له ، المهم أنه إذا نزل بك ضر فلا تتمنى الموت ، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتمنى الإنسان الموت للضُر الذي نزل به ، فكيف بمن يقتل نفسه إذا نزل به الضر ؟! كما يوجد مِن بعض الحمقى الذي إذا نزلت بهم المضايق خنقوا أنفسهم ، أو نحروها أو أكلوا سُما أو ما أشبه ذلك ، فإن هؤلاء ارتحلوا مِن عذاب إلى أشدَّ منه ، لم يستريحوا لكن انتقلوا من عذاب إلى أشد ، لأن الذي يقتل نفسه يعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إن قتل نفسه بحديدة ، خنجر سكين مسمار غير ذلك ، فإنه يوم القيامة في جهنم يطعن نفسه بهذه الحديدة التي قتل نفسه بها ، إن قتل نفسه بسُم فإنه يتحساه في نار جهنم ، إنْ قتل نفسه بالتردي من الجبل فإنه ينصب له جبل في جهنم يتدحدر منه أبد الآبدين وهلم جرا . فأقول : إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتمنى الإنسان أو الموت للضر الذي نزل به ، فإن أعظم من ذلك أن يقتل الإنسان نفسه ، ويبادرُ اللهَ بنفسه نسأل الله العافية ، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما نهى عن شيء كان مِن عادته إذا كان له بديل مِن المباح ، أن يذكر بديله من المباح اقتداء بالرب عز وجل ، قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا )) : لما نهى الله عن هذه الكلمة : راعنا ، بين لنا الكلمة المباحة قال : (( وقولوا انظرنا )) ، ولما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام بتمر جيد استنكره وقال : ( ما هذا ؟ أُكلُ خيبر تمره هكذا ؟ قالوا : لا لكن نشري الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، قال : لا تفعل ، لكن بع التمر ) يعني الرديء ( بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبا ) يعني تمرا طيبا ، فلما منعه بين له الوجه المباح . هنا قال : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لابد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ) : فتح لك الباب ، لكنه باب سليم ، لأن تمني الموت دل على ضجر الإنسان وعدم صبره على قضاء الله ، لكن هذا الدعاء : ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ) : هذا دعاء وَكَلَ الإنسان فيه أمره إلى الله ، لأن الإنسان لا يعلم الغيب ، فيكل الأمر إلى عالمه عز وجل أحيني ما علمت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، وسيأتي إن شاء الله بقية الكلام على هذا الحديث .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري . وفي رواية وهو متوسد بردة وقد لقينا من المشركين شدة ... " .
القارئ : " وعن خَبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قال : ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِدٌ بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) ، رواه البخاري . وفي رواية ( وهو متوسدٌ بردة وقد لقينا مِن المشركين شدة ) " .
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) متفق عليه ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : سبق الكلام على أول حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يتمنين أحد الموت لِضُرٍ نزل به ، فإن كان لا محالة فليقل : اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ) : وذلك أن طلب الموت أو تمني الموت استعجال مِن الإنسان بأن يقطع الله حياته ، وربما يحرمه من خير كثير ، ربما يحرمه من التوبة وزيادة الأعمال الصالحة ، ولهذا جاء في الحديث : ( ما مِن ميت يموت إلا ندم ) : ما من ميت إلا ندم : أي ميت ، ( فإن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد ، وإن كان مسيئا ندم ألا يكون استعتَب ) يعني : استعتب من ذنبه ، وطلب العتبى وهي المعذرة ، فإن قال قائل : كيف يقول : اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ؟ نقول : نعم ، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون ، أما الإنسان فلا يعلم (( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )) ، (( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً )) ، فأنت لا تدري قد تكون الحياة خيرا لك ، وقد تكون الوفاة خيرا لك ، ولهذا ينبغي للإنسان إذا دعا لشخص بطول العمر أن يقيد هذا فيقول : أطال الله بقاءك على طاعته ، حتى يكون في طول بقائه خير ، فإن قال قائل : إنه قد جاء تمني الموت مِن مريم ابنةِ عمران حيث قالت : (( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً )) ، فكيف وقعت فيما فيه النهي ؟ فالجواب عن ذلك أن نقول : أولا : يجب أن نعلم : " أن شرع مَن قبلنا إذا ورد شرعنا بخلافه فليس بحجة " ، شرع من قبلنا إذا ورد شرعنا بخلافه فليس شرع من قبلنا بحجة ، لأن شرعنا نسخ لكل ما سبقه من الأديان ، ثانياً : أن مريم لم تتمن الموت ، لكنها تمنت الموت قبل هذه الفتنة ، ليست تريد أنها ماتت قبل ، يعني أنها تعجلت الموت ، ولكنها تمنت أنها ماتت قبل هذه الفتنة ولو بقيت ألف سنة ، المهم أن تموت بلا فتنة ، ومثل ذلك أيضا قول يوسف عليه الصلاة والسلام : (( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )) ، ليس معناه سؤال الله أن يتوفاه ، بل هو يسأل أن يتوفاه الله على الإسلام : (( تَوَفَّنِي مُسْلِماً )) ، وهذا لا بأس به ، لا بأس أن تقول : اللهم توفني على الإسلام ، على الإيمان ، على التوحيد ، على الإخلاص ، توفني وأنت راض عني وما أشبه ذلك ، فيجب معرفة الفرق بين شخص يتمنى الموت من ضيقة نزلت به ، وبين شخص يتمنى الموت على صفة معينة يرضاها الله عز وجل ، فالأول هو الذي نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام ، والثاني جائز ، وإنما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت لضرٍ نزل به ، لأن من تمنى الموت لضرٍ نزل به ليس عنده صبر ، والواجب أن يصبر الإنسان على الضر ، وأن يحتسب الأجر من الله عز وجل ، فإن الضرر الذي يصيبه مِن هَمّ أو غم أو مرض أو أي شيء مكفر لسيئاتك ، فإن احتسبت الأجر كان رفعة لدرجاتك ، وهذا الذي ينال الإنسان مِن الأذى والمرض وغيره لا يدوم ، لابد أن ينتهي ، فإذا انتهى وأنت تكسب حسنات باحتساب الأجر على الله عز وجل ، ويكفر عنك من سيئاتك بسببه ، صار خيرا لك ، كما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ) : فالمؤمن على كل حال هو في خير ، في ضراء أو في سراء .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري . وفي رواية وهو متوسد بردة وقد لقينا من المشركين شدة ... " .
الشيخ : أما حديث خباب بن الأرتّ رضي الله عنه : فهو يحكي ما وجده المسلمون مِن الأذية مِن كفار قريش في مكة ، فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِدٌ بردة له في ظل الكعبة صلوات الله وسلامه عليه ، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ مَن كان مِن قبلنا يبتلى في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء ، يُحفر له حفرة ثم يلقى فيها ثم يؤتى بالمنشار على مفرق رأسه ويشق ، وأيضا يُمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ، بأمشاط الحديد يُمشط ، وهذا تعزيز عظيم وأذية عظيمة ، ثم أقسم عليه الصلاة والسلام أن الله سيتم هذا الأمر يعني : سيتم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من دعوة الإسلام ، حتى يسير الراكب مِن صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ، ( ولكنكم تستعجلون ) يعني : فاصبروا وانتظروا الفرج من الله ، فإن الله سيتم هذا الأمر ، وقد صار الأمر كما أقسم عليه النبي عليه الصلاة والسلام ، ففي هذا الحديث آية من آيات الله حيث وقع الأمر مطابقا لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام ، وآية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم حيث صدَّقه الله بما أخبر به ، وهذا شهادة من الله له بالرسالة ، كما قال تعالى : (( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً )) . وفيه أيضا : دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين ، وإذا صبر الإنسان ظَفَر ، فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج ، ولا يظن الأمر أنه ينتهي بسرعة ، وينتهي بسهولة ، قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بالكفار يؤذونهم وربما يقتلونهم كما قتلوا الأنبياء ، اليهود بنو إسرائيل قتلوا الأنبياء ، أعظم من الدعاة ، وأعظم من المسلمين ، فليصبر ولينتظر الفرج ، ولا يمل ولا يضجر ، يبقى راسياً على صخرة ، والعاقبة للمتقين ، والله تعالى مع الصابرين ، فإذا صبر وثابر وسلك الطرق التي توصل إلى المقصود بدون فوضى ، وبدون استنفار ، وبدون إثارة ، ولكن بطريق منظمة ، لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطىً ثابتة منظمة ، ويحصلون مقصودهم ، أما السطحيون الذين تأخذهم العواطف حتى يثوروا ويَستنفروا ، فإنه قد يفوتهم شيء كثير ، وربما حصل منهم زلة تفسد كل ما بنوا إن كانوا قد بنوا شيئا ، لكن كون المؤمن يصبر ويتئد ويعمل بِتُؤدة ويوطِّن نفسه ، ويخطط تخطيطا منظما يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكافرين ، ويفوت عليهم الفرص ، لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير ، يريدون أن يثيروهم حتى إذا حصل مِن بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليه ، وقالوا : هذا الذي نريد وحصل بذلك شر كبير ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : اصبروا الإنسان فيمن قبلكم وأنتم أحق بالصبر منه ، كان يُعمل به هذا العمل ويصبر ، فأنتم يا أمة محمد أمةَ الصبر والإحسان اصبروا حتى يأتي الله بأمره والعاقبة للمتقين ، فأنت أيها الإنسان لا تسكت على الشر ولكن اعمل بنظام ، بتخطيط بحسن تصرف ، وانتظر الفرج من الله ولا تمل ، لا تملّ الدرب طويل ، لاسيما إذا كنت في أول الفتنة ، فإن القائمين بها سوف يحاولون ما استطاعوا أن يصلوا إلى قمة ما يريدون فاقطع عليهم السبيل وكن أطول منهم نفسَاً وأشد منهم مكرًا فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال ( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) فقلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً متفق عليه ... " .
القارئ : " ( فأتيته فأخبرته بما قال ، فتغير وجهه حتى كان كالصرف ، ثم قال : فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ، ثم قال : يرحمُ الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ، فقلت : لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً ) ، متفق عليه " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال ( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال : يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) فقلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً . متفق عليه ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا الحديث الذي نقله المؤلف -رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنه لما كان يوم حنين ، وهو غزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة ، غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وغَنِم منهم غنائم كثيرة جدا ، مِن إبل وغنم ودراهم ودنانير ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الجعرَّانة وهي محل عند منتهى الحرم مِن جهة الطائف ، نزل الجعرَّانة وصار صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم ، وقسم في المؤلفة قلوبهم يعني : في كبار القبائل يؤلفهم على الإسلام ، وأعطاهم عطاء كثيرا ، حتى كان يعطي الواحد منهم مئة من الإبل ، فقال رجل من القوم : ( والله إنَّ هذه لقسمة ما عُدل فيها وما أريد بها وجه الله ) : نعوذ بالله ، يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن حب الدنيا ، والشيطان يوقع الإنسان في الهلكة نسأل الله العافية ، هذه الكلمة كلمة كفر أن ينسبَ اللهَ ورسولَه إلى عدم العدل ، وإلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بها وجه الله ، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذه القسمة وجه الله ، أراد أن يُؤلف كبار العشائر والقبائل من أجل أن يتقوى الإسلام ، لأن أسياد القوم إذا ألِفُوا الإسلام وقوي إيمانهم بذلك حصل منهم خير كثير ، وتبعهم على ذلك قبائل وعشائر ، واعتز الإسلام بهذا ، ولكن الجهل والعياذ بالله ، الجهل يوقع الإنسان في الهلكة ، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرَ بها النبيَ صلى الله عليه وسلم ، رفعها إليه وأخبره بأن هذا الرجل يقول كذا وكذا ، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصِّرف يعني : كالذهب من صفرته وتغيره ، ثم قال : ( مَن يعدل إذا لم يعدلِ اللهُ ورسولُه ؟ ) : وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، إذا كانت قسمة الله ليست عدلا وقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست عدلا فمن الذي يعدل ؟! من الذي يعدل ؟! ثم قال : ( يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر مِن هذا فصبر ) : والشاهد هذا ، الشاهد من هذا الحديث هذه الكلمة أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يؤذون ويصبرون ، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قيل له هذا الكلام بعد ثماني سنين من هجرته ، يعني ليس في أول الدعوة بعد ما مكن الله له ، وبعد ما عُرف صدقه ، وبعد ما أرى اللهُ الناسَ آيات النبي صلى الله عليه وسلم في الأفاق وفي أنفسهم ، ومع ذلك يقال : هذه القسمة لم يعدل فيها ولم يرد بها وجه الله ، فإذا كان هذا قول رجل في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلا تستغرب أن يقول الناس في عالم مِن العلماء : إنَّ هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب ، لأن الشيطان هو الذي يؤز هؤلاء على أن يقدحوا في العلماء ، لأنهم إذا قدحوا في العلماء وسقطت أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحد يقودهم بكتاب الله ، مَن يقودهم بكتاب الله إذا لم يثقوا بالعلماء وأقوالهم فمن يقودهم بكتاب الله ؟! تقودهم الشياطين وحزب الشيطان ، ولذلك كان غِيبة العلماء أعظم بكثير بغيبة غير العلماء ، لأن غِيبة غير العلماء غيبة شخصية إن ضرت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة ، لكن غيبة العلماء تضر الإسلام كله ، لأن العلماء حملة لواء الإسلام ، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم سقط لواءُ الإسلام ، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية ، فإذا كانت لحوم الناس بالغيبة لحوم ميت ، فإن لحوم العلماء لحوم ميت مسمومة ، لما فيها من الضرر العظيم ، فأقول : لا تستغرب إذا سمعت أحدا يسب العلماء ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل فيه ما قيل ، اصبر ، يصبر الإنسان ويحتسب الأجر من الله عز وجل ويعلم أن العاقبة للتقوى مهما كان ، ما دام الإنسان في تقوى وعلى نور من الله عز وجل فإن العاقبة له ، كذلك يوجد بعض الناس يكون له صديق أو قريب يخطئ مرة واحدة فيصفه بالعيب والسب والشتم والعياذ بالله في خطيئة واحدة ، على هذا الذي وُصف بالعيب أن يصبر وأن يعلم أن الأنبياء قد سُبّوا وأوذوا وكُذبوا وقيل : إنهم مجانين وأنهم شعراء وأنهم كهنة وأنهم سحرة ، (( فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا )) هكذا يقول الله عز وجل . ففي هذا الحديث دليل على أن للإمام أن يعطي من يرى في عطيته المصلحة ولو أكثر من غيره إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام ، ما هي مصلحة شخصية يحابي من يحب ويمنع من لا يحب ، لا ، إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام وزاد في العطاء فإن ذلك إليه وهو مسؤول عن هذا أمام الله ، ولا يحل لأحد أن يعترض عليه ، فإن اعترض عليه فقد ظلم نفسه . وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر بمن مضى من الرسل ، ولهذا قال : ( ولقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ) ، لأن الله تعالى يقول : (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب )) ، ويقول عز وجل : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه )) : فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يهتدي بهدى الأنبياء قبله ، وهكذا ينبغي لنا أن نقتدي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الصبر على الأذى ، وأن نحتسب الأجر على الله ، وأن نعلم أن هذا زيادة في درجاتنا مع الاحتساب ، وتكفير لسيئاتنا ، والله الموفق .
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي وقال حديث حسن ... " .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبده خيراً عجَّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) ، رواه الترمذي وقال : حديث حسن " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي وقال حديث حسن ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : نقل المؤلف : " عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد به الشر أمسك عنه حتى يوافي به يوم القيامة ) " : الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته ، لأن الله تعالى يقول عن نفسه : (( فعال لما يريد )) ، ويقول تعالى : (( إن الله يفعل ما يشاء )) ، فكل الأمور بيد الله ، والإنسان ما يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب ، فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا : إما بماله ، أو بأهله ، أو بنفسه ، أو بأحد ممن يتصل به ، المهم أن تعجل به العقوبة ، لأن العقوبات تكفر السيئات ، فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن العبد فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب ، قد طهرته المصائبُ والبلايا ، حتى إنه ليشدد على الإنسان موتُه لبقاء سيئة أو سيئتين عليه ، حتى يخرج مِن الدنيا نقياً من الذنوب ، وهذه نعمة لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدرَّ عليه النعم ، ودفع عنه النقم حتى يبطر والعياذ بالله ، ويفرح فرحا مذموما بما أنعم الله به عليه ، وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته ، فيعاقب بها في الآخرة نسأل الله العافية ، فإذا رأيت شخصاً يبارز الله بالعصيان ، وقد وقاه الله البلاء ، وأدرَّ عليه النعم فاعلم أن الله إنما أراد به شرا ، لماذا ؟ لأن الله أخر عنه العقوبة حتى يوافي به يوم القيامة . ثم ذكر في هذا الحديث ( أن عظم الجزاء مِن عظم البلاء ) : يعني أنه كلما عظم البلاء عظم الجزاء ، فالبلاء السهل له أجر يسير ، والبلاء الشديد له أجر كبير ، لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس ، إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها مِن الأجر الكثير ، وإذا هانت المصائب هان الأجر : ( وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) ، وهذه أيضا بشرى للمؤمن ، إذا ابتلي بالمصيبة فلا يظن أن الله سبحانه وتعالى يبغضه .