تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب - رضي الله عنه - من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه - يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ، ولم يعاتب أحد تخلف عنه ؛ إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها ... " .
الشيخ : فأخذوه ، والحمد لله أنه لم يصل إلى قريش ، فصار في هذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب ، لأن الذي أراد ما حصل من نعمة الله ، فلما ردوا الكتاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له : يا حاطب كيف فعلت هذا ؟ فاعتذر فقال عمر : " يا رسول الله ألا أضرب عنقك فإنه قد نافق ؟ " قال له النبي عليه الصلاة والسلام : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر أو إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ، وكان حاطب من أهل بدر رضي الله عنه ، فالمهم أن هذه الغزاة تخلف عنها كعب لكنها ليست غزاة في أول الأمر ، إلا في ثاني الحال ، وكانت غزاة مباركة ولله الحمد ، ثم ذكر بيعته النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في منى ، حيث بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام وقال : ( إنه يعني لا أحب أن يكون لي بدلها بدر ) : يعني هي أحب إليه من غزوة بدر ، لأنها بيعة عظيمة لكن يقول : ( كانت بدر أذكر في الناس منها ) : يعني أكثر ذكرا لأنها غزوة اشتهرت بخلاف البيعة ، على كل حال هو كأنه رضي الله عنه يُسلي نفسه بأنه إن فاتته غزوة بدر فقد حصلت له بيعة العقبة ، فرضي الله عنه كعب وعن جميع الصحابة . القارئ : نقل المؤلف رحمه الله تعالى في سياق حديث كعب : " ( وكان من خبري حين تخلَّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أَيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا ، واستقبل عددا كثيرًا ، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أُهبة غزوهم ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله كثير ، ولا يجمعهم كتاب حافظ -يريد بذلك الديوان - قال كعب : فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، فأنا إليها أصغر ، فتجهز رسول الله صلى الله عليه ) " .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، واستقبل عددا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله ، وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، فأنا إليها أصعر ، ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين : هذا قطعة مِن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الطويل ، وسبق أنه قال : أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في بدر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج لغزو ، وإلا في تبوك الذي ذكر حديثه رضي الله عنه ، يقول رضي الله عنه : ( إنه لم يكن في غزوة أقوى ولا أيسر من تلك الغزوة ) يعني : غزوة تبوك ، كان قوي البدن ، ياسر المال حتى إنه كان عنده راحلتان لتلك الغزوة ، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبدا وقد استعد وتجهز رضي الله عنه ، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها ) يعني : أظهر خلاف ما يريد ، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم وحنكته في الحرب ، لأنه لو أظهر وجهه تبين ذلك لعدوه ، فربما يستعد له أكثر ، وربما يذهب عن مكانه الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، فكان مثلا إذا أراد أن يخرج إلى الجنوب ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الشمال ، أو أراد أن يخرج إلى الشرق ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الغرب ، حتى لا يطَّلع العدو على أسراره إلا في غزوة تبوك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرها ، ووضحها وجلاها لأصحابه ، وذلك لأمور أولا : أنها كانت في شدة الحر ، حين طاب الثمار ، والنفوس مجبولة على الركون إلى الكسل وإلى الرخاء . ثانيا : أن المدى بعيد ، بعيد من المدينة إلى تبوك مفاوز ، رمال وعطش وشمس. ثالثا : أن العدو كثير ، أعداؤهم كثيرون وهم الروم اجتمعوا في عدد هائل حسب ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك جلى أمرها ووضح أمرها ، وأخبر أنه خارج إلى تبوك إلى عدو كثير ، وإلى مكان بعيد ، حتى يتأهب الناس ، فخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتخلف إلا من خذله الله بالنفاق ، أو ثلاثة رجال فقط هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية رضي الله عنهم ، هؤلاء من المؤمنين الخُلَّص لكن تخلفوا لأمر أراده الله عز وجل ، أما غيرهم ممن تخلف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق نسأل الله العافية ، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه وهم كثير إلى جهة تبوك حتى نزل بها هناك ، ولكن الله تعالى لم يجمع بينه وبين عدوه ، بل بقي عشرين يوما في ذلك المكان ثم انصرف على غير حرب ، ويأتي إن شاء الله بقية القصة .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... فتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معه ، فأرجع ولم أقض شيئا ، وأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، فيا ليتني فعلت ، ثم لم يقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني أني لا أرى لي أسوة ، إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء ، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ( ما فعل كعب بن مالك ؟ ) فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ، حبسه برداه والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فبينا هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كن أبا خيثمة ) ، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون .... " .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- في سياق حديث كعب : " ( فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، وطفقتُ أغدو لكي أتجهز معه ، فأرجعُ ولم أقض شيئا ، وأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، ثم غَدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، فيا ليتني فعلت ، ثم لم يُقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحزنني أني لا أرى لي أسوة ، إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء ، ولم يذكرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ، حبسه بُراده والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه : بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبينا هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة ، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري ، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون ، قال كعب : فلما بلغني أن رسولَ الله ) " . الشيخ : بس بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقل من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الذي تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر ، يقول رضي الله عنه : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز هو والمسلمون وخرجوا من المدينة ، أما هو رضي الله عنه فتأخر وجعل يغدو كل صباح يُرحِّل راحلته ويقول : ألحق بهم ، ولكنه لا يفعل شيئا ، ثم يفعل كل يوم حتى تمادى به الأمر ولم يُدرك ) : وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح فإنه حَري أن يحرم إياه ، كما قال الله تعالى : (( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )) ، فالإنسان إذا علم الحق ولم يقبله ويذعن له من أول وهلة فإن ذلك قد يفوته ، ويحرم إياه والعياذ بالله ، كما أن الإنسان إذا لم يصبر على المصيبة مِن أول الأمر فإنه يحرم أجرها ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) ، فعليك يا أخي أن تبادر بالأعمال الصالحة ، لا تتأخر فتتمادى بك الأيام ثم تعجز وتكسل ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر ، هو رضي الله عنه كل يوم يقول : أخرج ، ولكن تمادى به الأمر ولم يخرج ، يقول : فكان يحز في نفسه أنه إذا خرج إلى سوق المدينة وإذا المدينة ليس فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، إلا رجل مغموس في النفاق والعياذ بالله ، قد غمسه نفاقه فلم يخرج ، أو رجل معذور عذره الله عز وجل . فكان يعتب على نفسه ، كيف ما يبقى في المدينة إلا هؤلاء وأقعد معهم ؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكره ، ولم يسأل عنه حتى وصل إلى تبوك ، فبينما هو جالس في أصحابه في تبوك سأل عنه قال : ( أين كعب بن مالك ؟ فتكلم فيه رجل من بني سَلِمة وغمزه ، ولكن دافع عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ) : لم يجب بشيء لا على الذي غمزه ولا على الذي رد عليه ودافع عنه ، سكت ، فبينا هو كذلك إذ رأى رجلا مبيضًا يعني بياضًا يزول به السراب يعني بعيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كن أبا خيثمة الأنصاري فكان أبا خيثمة ) : وهذا إما من فراسة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإما من قوة نظره صلوات الله وسلامه عليه ، ولا شك أنه من أقوى الرجال نظرا وسمعا ونطقا وكل شيء ، أعطي قوة ثلاثين رجل بالنسبة للنساء عليه الصلاة والسلام ، وكذلك أعطي قوة في غير ذلك صلوات الله وسلامه عليه ، أبو خيثمة هذا هو الذي تصدق بصاع ، حث النبي عليه الصلاة والسلام على الصدقة فتصدق الناس كل بحسب حاله ، فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون : هذا مرائي ما أكثر الصدقة ابتغاء وجه الله ، وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسرة قالوا : إن الله غني عن صاع هذا ، شوف والعياذ بالله يلمزون المؤمنين من هنا ومن هنا : (( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ )) : فإذا تصدقوا قالوا هؤلاء مراؤون ، (( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ )) : إذا تصدقوا بما يستطيعون قالوا : إن الله غني عن صاعك ، وهكذا المنافق يا إخواني ، المنافق شر على المسلمين شر ، إن رأى أهل الخير لمزهم وإن رأى المقصرين لمزهم وهو أخبث عباد الله ، وهو في الدرك الأسفل من النار ، الآن المنافقون في زمننا هذا إذا رأوا أهل الخير وأهل الدعوة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا هؤلاء متزمتون ، هؤلاء متشددون ، هؤلاء أصوليون ، هؤلاء رجعيون وما أشبه ذلك من الكلام ، كل هذا موروث عن المنافقين عن الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا ، لا تقولوا ليس عندنا منافقون ، عندنا منافقون ، عندنا منافقون وعلاماتهم كثيرة ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب * مدارج السالكين * في الجزء الأول صفات كثيرة من صفات المنافقين كلها مبينة في كتاب الله عز وجل ، فإذا رأيت الإنسان إذا تكلم الناسُ عنده في أهل الخير قال : هذا متزمت هذا متشدد ، وإذا رأى الإنسان المحسن الذي بقدر ما عنده يحسن قال : هذا بخيل الله غني عن صدقته ، إذا أريت هذا الذي يلمز المؤمنين من هنا ومن هنا فاعلم أنه منافق والعياذ بالله : (( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) . المهم أن هذا الحديث فيه عبر كثيرة استفدنا في درسنا اليوم فائدتين عظيمتين : الفائدة الأولى : أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير ، يتقدم يتقدم ، لا يتهاون أو يتكاسل ، وأذكر الآن حديثا قاله النبي عليه الصلاة والسلام في الذين يتقدمون إلى المسجد ، ولكن لا يتقدمون إلى الصف الأول يكونون في مؤخره قال : ( لا يزالون قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ) : إذا عود الإنسان نفسه على التأخر أخره الله ، فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها مِن عند الله عز وجل . الفائدة الثانية : أن المنافقين يلمزون المؤمنين ، إن تصدق المسلمون بكثير قالوا : هؤلاء مراؤون ، وإن قللوا بحسب طاقتهم قالوا : إن الله غني عن عملك غني عن صاعك ، وأبو خيثمة هو الذي تصدق بصاع فقال المنافقون : إن الله غني عن صاع هذا الرجل ، ولكنهم منافقون لا يؤمنون ، ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( أن الرجل يتصدق بعِدل أو بِعَدل تمرة -أي بما يعادل تمرة- فيأخذها الله عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فَلُوَّه ) أي : مهرة الحصان الصغير ، ( حتى تكون مثل الجبل ) : وهي تمرة أو ما يعادلها ، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) : نصف تمرة ، بل قال الله عز وجل : (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ )) مثقال ذرة ، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ، والله الموفق .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي ، فطفقت أتذكر الكذب وأقول : بم أخرج من سخطه غدا ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادما ، زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعا وثمانين رجلا ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب. ثم قال : ( تعال ) ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : ( ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ ) قال : قلت : يا رسول الله ، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ؛ لقد أعطيت جدلا ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله - عز وجل - والله ما كان لي من عذر ... " .
القارئ : قال المؤلف -رحمه الله- في سياق حديث كعب : " ( فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي ، فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطه غدا ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي مِن أهلي ، فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما ، زاح عني الباطل ، حتى عرفت أني لن أنجُ منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعاً وثمانين رجلا ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت تَبسَّم تبسُمَ المغضب . ثم قال : تعال ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : ما خلَّفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أُعطيتُ جدلا ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، وإن حدثتك حديث صدق تجدُ علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل ) ". الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما بقي من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن غزوة تبوك ، يقول رضي الله عنه : إنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع قافلا من الغزو بدأ يفكر ويشاور ، ماذا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع ؟! يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذبا من أجل أن يعذره النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول ؟ ولكن يقول رضي الله عنه : فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب عنه كلما جمعه مِن الباطل ، وعزم على أن يبين للنبي صلى الله عليه وسلم الحق ، يقول : ( فقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ودخل المسجد وكان مِن عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد عليه الصلاة والسلام ، أول ما يفعل أن يصلي في المسجد ) ، وهكذا أمر جابر رضي الله عنه كما سأذكره إن شاء الله ، ( فدخل المسجد وصلى وجلس للناس ، فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين ، وجلعوا يحلفون له أنهم معذورون فيبايعهم ويستغفر لهم ) : ولكن ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله ، لأن الله قال : (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )) ، يقول : ( أما أنا فعزمت أن أصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بالصدق ، فدخلت المسجد فسلمت عليه فتبسم تبسُمَ المغضَب ) : يعني الذي غير راض عني ، ثم قال : ( تعال فدنوت منه ، فلما دنوت منه قال له : ما خلفك ؟ فقال رضي الله عنه : يا رسول الله إني لم أتخلف لعذر ، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه ، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر فلقد أوتيت جدلا ) يعني : لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه ، لأن الله قد أعطاني جدلاً ، ( ولكنني لا أحدثك اليوم حديثا ترضى به عني ، فيوشك أن يسخط الله علي في ذلك ) : رضي الله عنه ، شوف الإيمان قال : ما يمكن أحدثك بالكذب ، لو حدثتك بالكذب ورضيت عني اليوم فإنه يوشك أن يسخط الله علي ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق فأجله . في هذا الحديث من الفوائد : أولا : أن الله سبحانه وتعالى قد يمن على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حسن النية ، فإن كعبا رضي الله عنه لما هم أن يُزَوِّر على النبي صلى الله عليه وسلم جلّ الله له ذلك عن قلبه ، وأزاحه عن قلبه ، وعزم على أن يصدق النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الفوائد : أنه ينبغي للإنسان إذا قدم بلده أن يعمد إلى المسجد قبل أن يدخل إلى بيته ، فيصلي فيه ركعتين ، لأن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية ، أما الفعلية فقد سمعتموها في حديث كعب هذا ، وأما القولية : ( فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين باع على النبي صلى الله عليه وسلم جمله في أثناء الطريق ، واستثنى أن يركبه إلى المدينة ، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه ، فقدم جابر المدينة ، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم قبله ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدخل المسجد فيصلي ركعتين ) : إذًا هذه -أعني صلاة ركعتين أول ما تقدم إلى بلدك- من سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية ، وما أظن أحدا من الناس اليوم إلا قليلا يستعمل هذه السنة ، ولكن لجهل الناس بها وإلا الأمر سهل والحمد لله ، وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك ، أو صليت في أدنى مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه ، فإذا مثلا قدمت وصليت في أول مسجد على دربك وأنت داخل لبلدك في نفس البلد ، حصلت السنة . وفي هذا من الفوائد ، في هذا الحديث من الفوائد : أن كعب بن مالك رضي الله عنه رجل قوي ، قوي الحجة ، فصيح ، لكن لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب ، وأخبر النبيَ صلى الله عليه وسلم بالحق . ومن فوائده : أن الإنسان المغضب قد يتبسم فإذا قال قائل : كيف أعرف أن هذا تبسم رضا أو تبسم سخط ؟ قلنا : هذا يُعرف بالقرائن : بتلون الوجه وتغير الوجه ، فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تبسم رضا بما صنع أو تبسم سخطا عليه . ومن فوائد هذه القطعة من الحديث : أنه يجوز للإنسان أن يسلم قائما على القاعد ، لأن كعبًا سلم وهو قائم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعال ) . ومن فوائد هذا الحديث أيضا : أن الكلام عن قرب أبلغ من الكلام عن بعد ، فإنه كان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكلم كعب بن مالك ولو كان بعيدا عنه ، لكنه أمره أن يدنو منه لأن هذا أبلغ في الأخذ والرد والمعاتبة ، فلذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادن ) . ومن فوائد هذا الحديث أيضا : كمال يقين كعب بن مالك رضي الله عنه حيث قال : إنني أستطيع أن أخرج بعذر من الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله علي فيه غدا . وفيه أيضا : أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ، فإن كعبا خاف أن يسمع اللهُ تعالى قوله ومحاورته للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيُنزل الله فيه قرآنا كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تشكو زوجها حين ظاهر منها ، فأنزل الله فيها آية من القرآن : (( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )) ، والله الموفق .
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك )) . وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه المخلفون ، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك . قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي من أحد ؟ قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، قال : قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، وهلال ابن أمية الواقفي . قال : فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ، قال : فمضيت حين ذكروهما لي . ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال : تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . ... " .
تتمة قراءة متن حديث عبدالله بن كعب بن مالك - رضي الله عنه - : ( ... والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ... ) .
القارئ : وفي سياق حديث كعب قال : " ( والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك . وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المخلفون ، فقد كان كافيك ذنبكَ استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي مِن أحد ؟ قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، قال : قلت : من هما ؟ قالوا : مِرارة بن الربيع العَمْري ، وهلال بن أمية الواقِفي . قال : فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ، قال : فمضيت حين ذكروهما لي . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس -أو قال : تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي ) " .
تتمة شرح حديث عبدالله بن كعب بن مالك - رضي الله عنه - : ( ... والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ... ) .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه الذين خُلفوا حين تخلفوا عن غزوة تبوك : أنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَقه القول ، وأخبره بأنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله ، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما هذا فقد صدق ) : ويكفي له فخرا أن وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق ، ( أما هذا فقد صدق ، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء ) : فذهب الرجل مستسلما لأمر الله عز وجل ، مؤمنا بالله ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . ( فلحقه قوم من بني سَلِمة من قومه ، وجعلوا يزينون له أن يرجع عن إقراره ، وقالوا له : إنك لن تذنب ذنبا قبل هذا ) ، يعني مما تخلفت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ( ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : وإذا استغفر لك الرسول صلى الله عليه وسلم غفر الله لك ، فاذهب ارجع كذب نفسك قل : إني معذور حتى يستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه ، فهَمَّ أن يفعل رضي الله عنه ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه ، وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة ، فسأل قومه قال : ( هل أحد صنع مثلما صنعت ؟ قالوا : نعم ، هلال بن أمية ، ومِرارة بن الربيع قالا مثلما قلت ، وقيل لهما : مثلما قيل لك ، يقول : فذكرا لي رجلين شهدا بدرا لي فيهما أسوة ) : شوف أحيانا يقيض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسيا به ، فهو رضي الله عنه لما ذكرا له هذين الرجلين وهما من خيار عباد الله الذين شهدوا بدرا ، فهما ممن شهدا بدرا ، فقال : لي فيهما أسوة فمضى ، يعني لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، ( فأمر النبي عليه الصلاة والسلام الناس أن يهجروهم ، فلا يكلمونهم فهجرهم المسلمون ) : ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول قد ذهِلوا ، تنكرت لهم الأرض ، فما هي بالأرض التي كانوا يعرفون ، لأنه يمشي إن سلم لا يرد عليه السلام ، وإن قابله أحد لم يبدأه بالسلام ، وحتى النبي عليه الصلاة والسلام وهو أحسن الناس خُلقا لا يسلم عليهم السلام العادي ، يقول كعب : ( كنت أحضر فأسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري أحرك شفتيه برد السلام أم لا ) ، هذا وهو النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ظنك بقوم أو برجل يُهجر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون ، إنها ستضيق عليهم الأرض ، وفعلا ضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، وبقوا على هذه الحال مدة خمسين يوما أي : شهرا كاملا وعشرين يوما ، والناس قد هجروهم لا يسلمون عليهم ولا يردون السلام إذا سلموا ، وكأنهم في الناس إبل جُرب لا يقربهم أحد ، فضاقت عليهم الأمور ، وصعبت عليهم الأحوال ، وفروا إلى الله عز وجل ، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة ، كان يحضر ويسلم على النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج ، لأنه يخجل أن يأتي إلى قوم يصلي معهم لا يكلمونه أبدا ، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة توبيخ وتأنيب ، تركوه بالكلية ، فضاقت عليهم الأرض وبقوا على هذا خمسية ليلة تامة ، ولما تمت لهم أربعون ليلة : أرسل إليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يعتزلوا نساءهم ، إلى هذا الحد فرق بينهم وبين نسائهم ، وما ظنك برجل مثل كعب بن مالك ، رجل شاب يعزل عن امرأته ، أمر عظيم ، لكن مع ذلك لما جاءهم الرسول من النبي عليه الصلاة والسلام وقال له : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ، قال : أطلقها أم ماذا ؟ ) : لو قال له : طَلقْها طلَّقَها بكل سهولة طاعة لله ورسوله ، سأل قال : ( أطلقها أم ماذا ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل أهلك ) : وبقي على ظاهر اللفظ ، حتى الصحابي الذي أرسل ما حرف اللفظ لا معنى ولا لفظا ، قال هكذا قال ولا أدري ، وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم ، ما قال والله أظن أنه يريد أن تطلقها ولا أظن أنه لا يريد أن تطلقها ، ما قال شيئا ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هكذا ، فقال كعب لزوجته : ( الحقي بأهلك فلحقت بأهلها ) ، وسيأتي إن شاء الله بقية الكلام على هذا الحديث .
تتمة قراءة متن حديث : " ... فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان . وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فسكت ، فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته، فقال : الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا . فقرأته فإذا فيه : أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك ، فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء ، فتيممت بها التنور فسجرتها ، ... " .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- في سياق حديث كعب ، قال : " ( فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرَّك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه ، وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله هل تعلمني أحبُّ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت ، فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ ، حتى جاءني فدفع إلي كتابا مِن ملك غسان ، وكنت كاتباً . فقرأته فإذا فيه : أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيَعة ، فالحق بنا نواسك ، فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا مِن البلاء ، فتيممت بها التنور فسجرتها ، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي ) " .
تتمة شرح حديث : " ... فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان . وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فسكت ، فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته، فقال : الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا . فقرأته فإذا فيه : أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك ، فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء ، فتيممت بها التنور فسجرتها ، ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما ساقه من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، حديث الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فخُلفوا في أمرهم حتى قضى اللهم فيهم ما قضاه عز وجل ، وكانوا ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ومِرارة بن الربيع ، قال رضي الله عنه في جملة حديثه : ( فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان ) : لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق والناس قد هجروهم ، لا يلتفت إليهم أحد ، ولا يسلم عليهم أحد ، وإذا سلموا لا يرد عليهم السلام ، عجزوا عن تحمل هذه الحال ، فبقيا في بيوتهما يبكيان ، يقول : ( وأما أنا فكنت أشدَّ القوم وأجلدهم ) : أشدهم : أقواهم ، وأجلدهم : أصبرهم ، لأنه أشبه منهم أصغر منهم سنا ، فكان يشهد الجماعة صلاة الجماعة مع المسلمين ، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد ، لا يكلمه أحد لماذا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجرهم بهجر الثلاثة وكان الصحابة رضي الله عنهم أطوع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( وكنت آتي المسجد فأسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس للناس بعد الصلاة فأقول : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ) يعني : ما يرد عليه ردا يُسمع ، يمكن حرك شفتيه أم لم يحرك ، هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقا ، ولكن امتثالا لما أوحى الله إليه أن يُهجر هؤلاء القوم هجرهم ، فكان يقول : لا أدري هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ، يقول : ( وكنت أصلي وأسارق النبي صلى الله عليه وسلم النظر ) : يعني أنظر إليه أحيانا وأنا أصلي : ( فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت إليه أعرض عني ) كل هذا من شدة الهجر . يقول : ( فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال علي جفوة الناس تسورت حائطا لأبي قتادة رضي الله عنه ) : تسوره : يعني دخله مع الجدار ، من دون الباب ، وكأن الباب مغلق والعلم عند الله ، يقول : ( فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام ) : وهو ابن عمه وأحب الناس إليه ومع ذلك لم يرد عليه السلام .