تتمة شرح " ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل . رواه مسلم . وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال فلان اكسنيها ما أحسنها . فقال: ( نعم ) فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه فقال له القوم ما أحسنت لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا فقال: إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني . قال سهل فكانت كفنه رواه البخاري ... " .
الشيخ : حديث أبي سعيد في قصّة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رحل له، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وكأن النبي صلى الله عليه وسلّم فهم أن الرّجل محتاج، فقال عليه الصّلاة والسلام: ( من كان له فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، وذكر أنواعا ) ، ولم يبادر فيقول: من كان له فضل زاد، لئلا يخجل الرجل بل قال: ( من كان له فضل ظهر ) : والرجل لا يحتاج إلى الظهر لأنه على راحلته، لكن هذا من حسن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: ( حتى ظنّنا أنه لا فضل لأحد ) : يعني أن الإنسان يبذل كل ما عنده حتى لا يبقى معه فضل، يعني من الطعام والشّراب والرّحل وغير ذلك وهذا كلّه من باب الإيثار. أما الحديث الرابع حديث سهل بن سعد : ( فإن امرأة جاءت وأهدت النبي صلى الله عليه وسلم بردة أهدتها إليه ) : وكان صلى الله عليه وسلم لا يردّ الهديّة بل يقبل الهديّة ويثيب عليها صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من كرمه وحسن خلقه، فتقدّم رجل إليه فقال: ما أحسن هذه وطلبها من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ففعل الرسول عليه الصّلاة والسلام أعطاه إيّاها، فقيل للرجل: كيف تطلبها وأنت تعلم أنه لا يردّ سائلا؟ فقال: والله ما طلبتها لألبسها ولكن لتكون كفني رضي الله عنه، فأبقاها عنده فصارت كفنه، ففي هذا إيثار للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم على نفسه لأنه آثر بها هذا الرجل مع أن الذي يظهر أنه في حاجة لها.
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم ) متفق عليه . باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به . قال الله تعالى: (( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )) . وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ ) فقال الغلام: لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده . متفق عليه ... " .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم )، متفق عليه ". قال -رحمه الله تعالى- : " باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به : قال الله تعالى: (( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )). وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: ( أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله لا أوثر منك أحدا، فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده )، متفق عليه " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : ذكر المؤلف رحمه الله في آخر باب فضل الإيثار حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأصحابه الذين هم من الأشعريين من أهل اليمن ، كانوا يتساعدون في أمورهم ، فإذا أتاهم شيء من المال جمعوه ثم اقتسموه بينهم بالسّويّة ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ( فهم منّي وأنا منهم ) ، قال ذلك تشجيعا لما يفعلونه ، وهذا حديث أصل في الجمعيّات التعاونيّة التي يفعلها بعض الناس اليوم، تجتمع القبيلة على أن يضعوا صُندوقا يجمعون فيه ما يريد الله عزّ وجلّ من المال إما بالنّسبة وإمّا بالإجتهاد والترشيح، فيقول مثلا: على كلّ واحد منّا أن يدفع اثنين في المائة من راتبه أو من كسبه أو ما أشبه ذلك، ويكون هذا الصّندوق مُعدّا للجوائح والنّكبات التي تحصل على واحد منهم، فهذا أصله حديث أبي موسى رضي الله عنه الذي سمعتموه، فإذا جمع الناس صندوقا على هذا النّحو ليتساعدوا فيه على نكبات الزمان من الحوادث وغيرها، فإن لذلك أصلا في السّنّة، وهو من الأمور المشروعة، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا الصّندوق قد يكون لمن يقع عليه الحادث، وقد يكون لمن يقع منه الحادث، أما الأول: فأن يوضع الصّندوق لمساعدة الناس الذين يحصل عليهم جوائح، مثل جوائح تتلف زروعهم أو مواشيهم أو أمطار تهدم بيوتهم أو ما أشبه ذلك، أو حوادث تحدث على سيّاراتهم من غيرهم، فيحتاجون إلى مساعدة فهذا طيّب ولا إشكال فيه. أما الثاني فهو للحوادث التي تقع من الشّخص، إذا فعل حادثا مثل دعس أحد ونحو ذلك يساعد، فهذا ينبغي أن ينظر في هذا الأمر، لأننا إذا وضعنا صندوقا لهذا فإن السّفهاء قد يتهوّرون، ولا يهمّهم أن تقع الحوادث منهم، فإذا قُدّر أننا وضعنا صندوقا لهذا الشيء، فليكن ذلك بعد الدّراسة، دراسة ما حصل من الشّخص دراسة عميقة، وأنه لم يحصل منه تهوّر ولم يحصل منه تفريط، وإلاّ فلا ينبغي أن توضع الصّناديق لمساعدة هؤلاء السّفهاء الذين يوما يدعسون شخصًا، ويوما يصدمون سيّارة، وما أشبه ذلك، وربّما يقع ذلك عن حال غير مرضيّة كسكر، أو عن حال يفرّط فيها الإنسان كالنوم وما أشبه ذلك، المهم أن هذه الصّناديق تكون على وجهين: الوجه الأول: مساعدة من يحصل عليه الحادث ، فهذا طيب ولا إشكال فيه. والثاني: يكون ممن يحصل منه الحادث، فهذا إن وضع ولا أحبذ أن يوضع، لكن إن وضع فإنه يجب التّحرّز والتّثبّت من كون هذا الرجل الذي حصل منه حادث لم يحصل منه تفريط ولا تعدي، ثم هذا المال الذي يوضع في الصّندوق ليس فيه زكاة مهما بلغ من القدر، وذلك لأنه ليس له مالك، ومن شروط وجوب الزكاة أن يكون المال له مالك، وهذا الصّندوق ليس له مالك، من حصل عليه حادث فإنه يُساعد منه، وأصحابه الذين وضعوا الفلوس في هذا الصّندوق لا يملكون أخذها، لأنهم قد أخرجوها من أموالهم لمال مَن؟ لا لأحد، وإنما هو للمساعدة، وعلى هذا فلا يكون فيها زكاة. ثمّ ههنا مسألة يسأل عنها الكثير من الناس، وهي: أنه يجتمع أناس من الموظّفين مثلا يقولون: سنخصم من كلّ راتب من رواتب الإنسان سنخصم منه ألف ريال على كلّ واحد، أو عشرة في المائة من راتبه، يعني إما بالنّسبة أو بالتعيين، ونعطيها واحدا منّا، وفي الشّهر الثاني نعطيها الثاني، وفي الشّهر الثالث نعطيها الثالث، وفي الشّهر الرابع نعطيها الرابع حتّى تدور عليهم ثمّ ترجع للأول مرّة ثانية، فبعض الناس يسأل عنها، والجواب على هذا أن نقول: إن هذا صحيح ولا بأس به وليس فيه حرج، ومن توهّم أنه من باب : " القرض الذي جرّ نفعا " ، فقد وهم، لأني إذا سلّفت هؤلاء الإخوان الذين معي، إذا سلّفتهم شيئا فأنا لا آخذ أكثر مما أعطيت، وكونهم يقولون: لأنه سوف يرجع إليه مال كثير، نقول نعم لكن ما رجع إليه أكثر مما أعطى، فغاية ما فيه أنه سلّف بشرط أن يوفى وليس في هذا شيء، فهذا وهم من بعض الإخوان، من بعض طلبة العلم الذين يظنّون أن هذا من باب الربا، هذا ليس فيه ربا إطلاقا ، بل هو من باب التّساعد والتعاون ، وكثيرا ما يحتاج بعض الزملاء إلى أموال حاضرة ويفكّ هذا من المشاكل، يسلم من أن يذهب إلى أحد يتدين منه ويُربي عليه، أو يذهب إلى البنك يأخذ منه بالربا أو ما أشبه ذلك، فهذه مصلحة وليس فيها مفسدة بأي وجه من الوجوه، والله الموفّق.
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب فضل الغني الشاكر وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها . قال الله تعالى: (( فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى )) . وقال الله تعالى: (( وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى )) . وقال الله تعالى: (( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير )) وقال تعالى: (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم )) . والآيات في فضل الإنفاق في الطاعات معلومة ... " .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " باب فضل الغني الشاكر وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها: قال الله تعالى: (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى )). وقال تعالى: (( وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تُجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )). وقال تعالى: (( إن تبدوا الصدقات فنعِمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم * ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير )). وقال تعالى: (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم )). والآيات في فضل الإنفاق في الطاعات كثيرة معلومة " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : " باب فضل الغني الشاكر " : وهو الذي يأخذ المال بحقّه ويصرفه في حقّه. الغني هو الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى ما يستغني به عن غيره، من مال أو من علم أو جاه أو غير ذلك، وإن كان الأكثر استعمالا أن الغنيّ هو الذي أعطاه الله المال ليستغني به عن غيره. والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بالمال يعني بالغنى وبالفقر، فمن الناس من لو أغناه الله لأفسده الغنى، ومن الناس من لو أفقره الله لأفسده الفقر، والله عزّ وجلّ يعطي كلّ أحد بحسب ما تقتضيه الحكمة، (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) . وإذا أعطى الله الإنسان المال فإنه ينقسم إلى قسمين: قسم يعطيه الله المال يكتسبه من طريق حرام كالمرابي والكذاب والغشّاش في البيع والشراء، ومن أكل أموال الناس بالباطل وما أشبه ذلك، فهذا غناه لا ينفعه، لأنه غنى ولكنّه فقر والعياذ بالله، إذ أن هذا الشّيء الذي دخل عليه من هذا الوجه سوف يعاقب عليه يوم القيامة، وأعظمه الرّبا، فإن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: (( ومَن عاد فينتقمُ الله منه ))(( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )) ، ويقول الله تبارك وتعالى: (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلِمون ولا تُظلَمون )). القسم الثاني من الأغنياء : من أغناه الله بالمال لكن عن طريق حلال، يبيع بالبيان والنّصح والصّدق ويأخذ كذلك، ولا يكتسب إلاّ المال الحلال، فهذا هو الذي ينفعه غناه، لأن من كان كذلك فالغالب أن الله يوفّقه لصرفه فيما ينفع، فهذا هو الغنيّ الشاكر: الذي يأخذ المال بحقّه ويصرفه في حقّه على الوجه الذي شرعه الله له. ثمّ ذكر المؤلف -رحمه الله- آيات في هذا المعنى، فذكر قول الله سبحانه وتعالى: (( فأما من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى )) : أعطى يعني بذل المال في وجهه، واتقى الله سبحانه وتعالى في بذله وفي جمعه، فهذا ييسّر لليسرى، وقال: (( وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردّى * إن علينا للهدى )) وقال تعالى: (( وسيجنّبها )) يعني النار (( الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكّى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى ولسوف يرضى )): يعني سيجنّب هذه النار الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكّى: يعني على وجه يتزكّى به، على وجه يقرّبه إلى الله عزّ وجلّ، (( وما لأحد عنده من نعمة تجزى )) : يعني ليس يعطي المال من باب المكافئة، مكافئة نعمة يجزي عليها غيره، ولكنّه يعطي المال لله ولهذا قال: (( إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى )) : يعني لكن يعطي المال ابتغاء وجه ربّه الأعلى ولسوف يرضى، فعلى المؤمن إذا أغناه الله عزّ وجلّ أن يكون شاكرا لله، قائما بما أوجب الله عليه من بذل المال في حقّه على الوجه الذي يُرضي الله عزّ وجلّ.
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) متفق عليه وتقدم شرحه قريبا . وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا . فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ) متفق عليه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم فقال: ( وما ذاك ؟ ) فقالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ ) قالوا بلى يا رسول الله قال: ( تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة ) فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم ... " .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها )، متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار )، متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أُعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء )، متفق عليه، وهذا لفظ رواية مسلم " .
الشيخ : ذكر المؤلف -رحمه الله- أحديث في بيان الذين ينفقون أموالهم ويجودون بها في سبيل الله، ففي حديث عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما بيان أنه لا حسد إلاّ في اثنتين يعني : لا أحد يُغبط غبطة حقيقيّة إلاّ هذان الصّنفان: الأول من آتاه الله العلم وهو : الحكمة فكان يعمل بها، ويعلّمها الناس، فهذا هو الذي يُغبط، لأنّك إذا قارنت بين حال هذا الرجل وحال الجاهل عرفت الفرق بينهما، الجاهل يعبد الله على جهل، ولا يعرف من شريعة الله إلاّ ما فعله الناس، فتجد يتبع الناس على الصّواب والخطأ، وهذا نقص كبير في عبادة الرجل، لأن الإنسان إذا عَبَدَ الله على غير بصيرة صارت عبادته ناقصة، كذلك إذا قارنت بين رجل آتاه الله العلم ولكنّه لم يعمل به، ورجل آتاه العلم فعمل به وعلّمه الناس تجد الفرق العظيم بين هذا وهذا، فالذي يُغبط حقيقة هو الذي آتاه الله العلم فعمل به وعلّمه الناس. والثاني رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه في سبيل الله، في كلّ ما يرضي الله ليلا ونهارا، فهذا هو الذي يُغبط، أما من آتاه الله المال ولكنّه لم ينفقه في مرضات الله، فلا غبطة فيه، ولا يغبط على ما أُوتي، لأن هذا المال إن انتفع به انتفع به في الدّنيا فقط، لأنه لا ينفقه لله ولا في سبيل الله. والرجل الثالث رجل فقير لم يؤت مالا فهو أيضا لا يغبط، فلا يغبط من ذوي المال إلاّ من آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحقّ، فيما يرضي الله عزّ وجلّ. ثمّ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه حين جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: ( يا رسول الله سبقنا أهل الدثور بالأجور، -جمع أجر-، والدرجات العلى والنعيم المقيم، قال وما ذاك؟ قالوا يصلون كما نصليّ ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون ولا نتصدّق، ويعتقون ولا نعتق ) : فهم أفضل منّا، لأن الله منّ عليهم بالمال وبذلوه في طاعة الله، وفيما يرضي الله، فقال عليه الصّلاة والسّلام: ( ألا أعلّمكم شيئا تسبقون به من سبقكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلاّ من صنع مثل ما صنعتم؟ فقالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين ) : يعني تقولون سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، فصاروا يفعلون ذلك، ولكنّ الأغنياء سمعوا بهذا فصاروا يقولونه، يسبحون ويكبرون ويحمدون ثلاثا وثلاثين دبر كلّ صلاة، فرجع الفقراء مرّة ثانية إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: ( يا رسول الله سمع إخواننا بما صنعنا فصنعوا مثله! فقال عليه الصّلاة والسّلام: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) : يعني أن الله سبحانه وتعالى وأعطاهم المال فبذلوه في طاعة الله وهذا فضل الله. وفي هذا دليل على أنّ الصّحابة رضي الله عنهم يتسابقون إلى الخير، فالأغنياء لما سمعوا بما أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام الفقراء بادروا إليه وفعلوه، والفقراء جاؤوا يشكون أنهم كانوا متأخرين عن أهل الأموال فقال لهم الرسول عليه الصّلاة والسلام: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ). والخلاصة أنه ينبغي للإنسان أن إذا آتاه الله المال أن يبذله فيما يرضي الله فإن هذا هو الذي يُحسد يعني يغبط على ما أتاه الله من المال.
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب ذكر الموت وقصر الأمل . قال الله تعالى: (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " باب ذكر الموت وقصر الأمل : قال الله تعالى: (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )). وقال تعالى: (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )). وقال تعالى: (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )) " .
الشيخ : قال المؤلف النووي -رحمه الله- في رياض الصالحين : " باب ذكر الموت وقصر الأمل " : يعني هذا الباب يذكر فيه المؤلف رحمه الله أنه ينبغي للعاقل أن يتذكّر الموت، وأن يقصّر الأمل، يعني الأمل في الدّنيا، وليس الأمل في ثواب الله عزّ وجلّ وما عنده من الثواب الجزيل لمن عمل صالحا، لكن الدّنيا لا تُطيل الأمل فيها، فكم من إنسان أمّل أملا بعيدا فإذا الأجل يَفجؤه، كم من إنسان يقدّر ويفكّر سيفعل ويفعل ويفعل، فإذا به قد انتهى أجله وترك ما أمّله وانقطع حبل الأمل وحضر الأجل، والذي ينبغي للإنسان العاقل أنه كل ما رأى من نفسه طموحا إلى الدّنيا وانشغالا بها واغترارا بها أن يتذكّر الموت، ويتذكّر حال الآخرة لأن هذا هو المآل المتيقّن، وما يؤمّله الإنسان في الدّنيا فقد يحصل وقد لا يحصل : (( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء )) : لا ما يشاء هو بل ما يشاء الله عزّ وجلّ ، (( ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )). ثمّ ذكر الآيات منها : (( كلّ نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة )) : كل نفس ، فكلّ نفس منفوسة من بني آدم وغير بني آدم ذائقة الموت، لا بدّ أن تذوق الموت، وعبّر بقوله: (( ذائقة )) : لأن الموت يكون له مذاق، مذاق مرّ يكرهه كلّ إنسان، لكن المؤمن إذا حضره أجله وبشّر بما عند الله عزّ وجلّ أحبّ لقاء الله، ولا يكره الموت حينئذ، قال تعالى: (( وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة )) أي : تعطونها وافية كاملة يوم القيامة، وإن أوتي الإنسان أجره في الدّنيا فإنه ليس هذا هو الأجر فقط، بل الأجر الوافي الكامل الذي به يستوفي الإنسان كلّ أجره يكون يوم القيامة، وإلاّ فإن المؤمن قد يثاب على أعماله الصّالحة في الدّنيا لكن ليس هو الأجر الكامل الذي وفى، التوفية الكاملة تكون يوم القيامة : (( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز )) : زحزح يعني : أُبعد (( عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز )) ، لأنه نجى من المكروه وحصل له المطلوب، نجى من المكروه وهو دخول النار، وحصل له المطلوب وهو دخول الجنّة، وهذا هو الفوز العظيم الذي لا فوز مثله. (( وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور )) : صدق الله عزّ وجلّ، الدّنيا متاع الغرور، يعني متاع ليست دائما، بل كما يكون للمسافر متاعه، يصل به إلى منتهى سفره، ومع ذلك فهي متاع الغرور: تغرّ الإنسان، تزدان له وتزدهر وتكتحل وتتحسّن وتكون كأحسن شيء، ولكنها تغرّه، كلّما كثرت الدّنيا وتشبّث الإنسان بها بعُد من الآخرة ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدّنيا فتتنافسونها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم )، ولهذا نجد الإنسان أحيانا يكون في حال الضّيق أو الوسط خير له من حال الغنى، يغرّه الغنى ويطغيه والعياذ بالله ولهذا قال: (( وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور )) : يعني فلا تغتروا بها، وعليكم بالآخرة التي إذا زحزح فيها الإنسان عن النار وأدخل الجنّة فإنه بذلك يفوز فوزا لا فوز مثله، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن أُوتي في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاه الله عذاب النار.
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وقال تعالى: (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )) وقال تعالى: (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )) . وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )) .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- في سياق الآيات في باب : " ذكر الموت وقصر الأمل : قال الله تعالى: (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )). وقال تعالى: (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )). وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله * ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلُها والله خبير بما تعملون )) ".
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب : " ذكر الموت وقصر الأمل " : فيما ساقه من آيات الله عزّ وجلّ، قال: (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت )) : وهذه إحدى مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلاّ الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: (( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو )) : ومفاتح الغيب هي الخمس المذكورة في قوله تعالى: (( إن الله عنده علم السّاعة وينزّلُ الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )) : فهذه الخمس لا يعلمها إلاّ الله عزّ وجلّ، فعلم الساعة لا يعلمه أحد، حتى إنّ جبريل وهو أشرف الملائكة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم محمّداً وهو أعلم البشر قال: ( أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) ، فلا يعلمها إلاّ الله عزّ وجلّ ، (( وينزّل الغيث )) : والمنزّل للغيث يعلم متى ينزل، فهو سبحانه وتعالى هو الذي يعلم متى ينزل الغيث، وهو الذي ينزّله، والغيث هو: المطر الذي يحصل به نبات الأرض وزوال الشّدّة، وليس كل مطر يسمّى غيثاً، فإن المطر أحيانا لا يجعل الله فيه بركة، فلا تنبت به الأرض، كما قال النبيّ عليه الصّلاة والسّلام : ( ليس السَّنة ألاّ تمطروا -يعني ليس الجدب ألاّ تمطروا-، بل السّنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئا ) : وهذا يقع أحيانا، أحيانا تكثر الأمطار ولا يجعل الله فيها بركة فلا تنبت الأرض ولا تحيى، وهذا الحديث الذي سقته في صحيح مسلم: ( إنما السّنة أن تمطروا فلا تنبت الأرض شيئاً ) ، فالذي ينزّل الغيث هو الله، والمنزّل له عالم متى ينزل.
الشيخ : وأما ما نسمعه في الإذاعات من أنّه بتوقّع مطر في المكان الفلاني وما أشبه ذلك فهو ظنّ بحسب ما يتبادر من احتمال المطر بمقياس الجوّ، وهي مقاييس دقيقة يعرفون بها هل الجوّ متهيّء للمطر أو لا، ومع ذلك فقد يقولون ويخطؤون كثيرا، ولا يتوقّعون أمطارا تحدث بعد سنوات أو بعد أشهر، إنما على المدى القريب والمكان القريب، فلا يعلم متى ينزل المطر إلاّ الله عزّ وجلّ.
تتمة شرح قوله تعالى : (( ... وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ... )) .
الشيخ :(( ويعلم ما في الأرحام )) : لا يعلم ما في الأرحام إلاّ الله، والأجنّة التي في الأرحام لها أحوال: منها ما يعلم إذا وُجد ولو كان الإنسان في بطن أمّه، ومنها ما لا يعلم أبدا، فكونه ذكرا أو أنثى يُعلم وهو في بطن أمّه، ولكنّه لا يُعلم إلاّ إذا خلق الله تعالى فيه علامات الذّكورة أو علامات الأنوثة، وأما متى يولد؟ وهل يولد حيّا أو ميّتا؟ وهل يبقى في الدّنيا طويلا أو لا يبقى إلاّ مدّة قصيرة؟ وهل يكون عمله صالحا أو عمله سيّئا؟ وهل يختم له بالسّعادة أو بالشّقاوة؟ وهل يبسط له في الرّزق أو يقدر عليه رزقه؟ فكل هذا لا يعلمه إلاّ الله . (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا )) : يعني ماذا تكسب في المستقبل، لا تدري نفس ماذا تكسب؟ هل تكسب خيرًا أو تكسب شرّا، أو تموت قبل غد أو يأتي غد وفيه ما يمنع العمل وما أشبه ذلك، الإنسان يُقدّر يقول: غدا سأفعل كذا، سأفعل كذا لكن قد لا يفعل، فهو لا يعلم ماذا يكسب غدا علما يقينيّا، ولكنّه يقدّر وقد تخلف الأمور. (( وما تدري نفس بأي أرض تموت )) : لا يدري الإنسان بأي أرض يموت، هل يموت في أرضه أو أرض بعيدة عنها أو قريبة منها؟ أو يموت في البحر أو يموت في الجوّ؟ لا يدري، لا يعلم ذلك إلاّ الله، فإذا كنت لا تدري بأي أرض تموت، وأنت يمكنك أن تذهب يمينا وشمالا، فكذلك لا تعلم متى تموت، لا تدري في أي وقت تموت، هل ستموت في الصّباح؟ في المساء؟ في الليل؟ في وسط النهار؟ لا تدري، في الشّهر القريب؟ في الشّهر البعيد؟ لا تدري، لا تدري متى تموت ولا بأي أرض تموت، فإذا كنت كذلك، فاقصر الأمل، لا تمدّ الأمل طويلا، لا تقل: أنا شاب سوف أبقى زمانا طويلا، كم من شاب مات في شبابه وكم من شيخ عمّر، ولا تقل: إنّي صحيح البدن والموت بعيد، كم من إنسان مرض بمرض يهلكه بسرعة، وكم من إنسان حصل عليه حادث، وكم من إنسان مات بغتة، لذلك لا ينبغي للإنسان أن يُطيل الأمل، بل يعمل للدنيا عملها وللآخرة عملها، فيسعى للآخرة سعيها بإيمان بالله عزّ وجلّ واتّكال عليه. وقال الله تبارك وتعالى: (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )) : إذا جاء أجل الإنسان لا يمكن أن يتأخّر ولا دقيقة، ولا يمكن أن يتقدّم، بل هو بأجل معدود محدود لا يتقدّم ولا يتأخّر، فلماذا تجعل الأمل طويلا؟ فالإنسان لا يعلم متى يموت ولا يعلم بأيّ أرض يموت، وقد حدّثني أحد إخواني الثّقات قال: إنهم كانوا في سفر الحجّ على الإبل، وكان معهم رجل معه أمّه، يمرّضها، فتأخّر عن القوم في آخر الليل، فارتحل الناس ومشوا وبقي مع أمّه يُمرّضها، ولمـّا أصبح وسار خلف القوم لم يدركهم ولم يدر إلى أين اتّجهوا لأنهم في الريع في مكّة يقول: فسلك طريقًا بين هذه الجبال فإذا هو واقف على بيت من الشَّعَر في عدد من الناس قليلين، فسألهم أين طريق نجد؟ قالوا: أنت بعيد عن الطريق، لكن نوّخ البعير واجلس استرح ثم نحن نوصلك، يقول: فنوّخ البعير وأنزل أُمه، يقول فما هي إلاّ أن اضطجعت على هذه الأرض فقبض الله روحها، كيف جاءت مِن القصيم إلى مكّة مع الحجّاج، وأراد الله تعالى أن يتيه هذا الرجل حتى ينزل بهذا المكان، من يعلم هذا؟ إلاّ الله عزّ وجلّ، وكذلك أيضا في الزمن، كم بلغنا من أُناس تأخروا قليلا فجاءهم حادث فماتوا به، ولو تقدّموا قليلا لسلموا منه، كلّ هذا لأن الله تعالى قد قدّر كل شيء بأجل محدود، فالإنسان يجب عليه أن يحطاط لنفسه وأن لا يطيل الأمل وأن يعمل للآخرة كأنه يموت قريبا لأجل أن يستعدّ لها، فهذه الآيات كلها تدل على أن الإنسان ينبغي له أن يقصّر في الأمل، وأن يستعدّ للآخرة، جعلنا الله وإياكم من المستعدّين لها بالعمل الصّالح.
قراءة قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )) . وقال تعالى: (( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون، قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون، إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون، قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )) ... " .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- في سياق الآيات في باب ذكر الموت وقصر الأمل : " قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله * ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )). وقال تعالى: (( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت * كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون * فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خَفَّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تَلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون )) إلى قوله تعالى: (( كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يومًا أو بعض يومٍ فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون )) " .
الشيخ :بسم الله الرحمن الرحيم : قال المؤلف -رحمه الله- محيي الدين النووي في كتابه *رياض الصّالحين في باب: " ذكر الموت وقصر الأمل : (( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )) " : أمر الله بالإنفاق مما رزقنا أي مما أعطانا، وحذّرنا مما لا بدّ منه : (( من قبل أن يأتي أحدكم الموت )) وحينئذ يندم الإنسان على عدم الإنفاق، ويقول: (( ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب )) : يتمنّى أن الله يؤخّره إلى أجل قريب، (( فأصّدق وأكن من الصالحين )) : يعني فبسبب تأخيرك إياي أتصدّق وأكن من الصالحين، قال الله عزّ وجلّ: (( ولن يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )) : إذا جاء الأجل لا يمكن أن يتأخر الإنسان ولا لحظة، بل لابدّ أن يموت في المدّة التي عيّنها الله عزّ وجلّ على حسب ما تقتضيه حكمته، فمن الناس من يطول بقاؤه في الدّنيا ومن الناس من يقصر، كما أن من الناس من يكثر رزقه ومنهم من يقلّ، ومنهم من يكثر علمه ومنهم يقلّ، ومنهم من يقوى فهمه ومنهم من يضعف، ومنهم من يكون طويلا ومنهم من يكون قصيرا، فالله عزّ وجلّ خلق عباده متفاوتين في كلّ شيء، وقال الله عزّ وجلّ: (( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون )) : فنهى الله تعالى عن أن تلهينا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله، وبيّن أن مَن ألهته عن ذكر الله هو خاسر مهما ربح، لو ربح أموالاً كثيرة وكان عنده بنون، وكان عنده أهل، ولكنّه قد تلهّى بهم عن ذكر الله، فإنه خاسر، إذن من هو الرابح؟ الرابح من اشتغل بذكر الله عزّ وجلّ، وذكر الله ليس هو قول: لا إله إلاّ الله فقط، بل كل قول يقرّب إلى الله فهو ذكر له، وكلّ فعل يقرّب إلى الله فهو ذكر له، كما قال تعالى: (( وأقم الصّلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون )) ، ولأن الإنسان إذا قال قولا يتقرّب به إلى الله، أو فعلا يتقرّب به إلى الله، فهو حين النّيّة ذاكر لله عزّ وجلّ، فذكر الله يشمل كلّ قول أو فعل يقرّب إليه قال: (( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت )) : إذا جاء أحدهم أي: أحد المكذّبين للرسل، (( إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون )) : ارجعوني إلى الدّنيا، (( لعلّي أعمل صالحا فيما تركت )) : ولم يقل: لعلّي أتمتّع في قصورها وحبورها ونسائها وغير ذلك بل قال: (( لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت )) أي: فيما تركت من المال الذي بخلت به حتّى أنفقه في سبيل الله، قال الله تعالى: (( كلاّ )) يعني لا رجوع، ولا يمكن الرّجوع، لأنه إذا جاء الأجل فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ثم قال: (( إنها كلمة هو قائلها )) : هذه الكلمة يؤكّد الله عزّ وجلّ أنه يقولها وهي قوله: (( رب ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت ))، (( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )) : يعني مِن أمام هؤلاء الذين حضرتهم الوفاة : (( برزخ إلى يوم يبعثون )) ، والبررزخ : هو الفاصل بين الدّنيا وبين قيام الساعة سواءٌ كان الإنسان مدفونا في الأرض أو على ظهر الأرض تأكله السّباع .