تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان أو الخوف من فتنة في الدين ووقوع في حرام وشبهات ونحوها . قال الله تعالى: (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين )) . وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ) رواه مسلم . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال: ( مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله )قال: ثم من ؟ قال: ( ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه وفي وراية يتقي الله ويدع الناس من شره ) متفق عليه .
الشيخ : ولهذا صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: ( يوشك أن يكون خيرَ مال الرّجل غنم يتّبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن ) : فهذا هو التّقسيم : العزلة خير إن كان في الإختلاط شرّ ، وإلاّ فالأصل أن الإختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس، يأمر بالمعروف ، ينهى عن المنكر، يدعو إلى حقّ، يبيّن للناس فهو خير، لكن إذا عجز عن الصّبر وكثرت الفتن فالعزلة خير ، ولو أن يعبد الله على رأس جبل ، أو في قعر وادي ، وبيّن النبي عليه الصّلاة والسّلام فضل الرجل الذي يحبّه الله عزّ وجلّ فقال : ( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ) : التّقيّ : الذي يتقي الله عزّ وجلّ ، فيقوم بأوامره ، ويجتنب نواهيه ، يقوم بأوامره من فعل الصّلاة وأدائها في جماعة، يقوم بأوامره من أداء الزّكاة وإعطائها مستحقّها، يصوم رمضان، يحجّ البيت، يبرّ بوالديه، يصل أرحامه، يحسن إلى جيرانه، يحسن إلى اليتامى إلى غير ذلك من أنواع التّقى والبرّ وأبواب الخير. الغنيّ الذي استغنى بنفسه عن الناس، غنيّ بالله عزّ وجلّ عمّن سواه، لا يسأل الناس شيئاً ولا يتعرّض للناس بتذلّل، بل هو غنيّ عن الناس، عارفا نفسه مستغن بربّه لا يلتفت إلى غيره. خفيّ : لا يظهر نفسه ولا يهتم أن يظهر عند النّاس أو يشار إليه بالبنان أو يتحدّث الناس فيه، خفيّ من بيته إلى المسجد ومن مسجده إلى بيته، ومن بيته إلى أقاربه، إلى إخوانه، خفيّ يُخفي نفسه ، ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علماً أن يقوقع في بيته ولا يعلّم الناس، لا ، هذا يعارضه التقى ، فهذا خيرٌ من أن يقوقع في بيته ولا ينفع الناس في علمه، أو يقوقع في بيته ولا ينفع الناس بماله، لكن إذا دار الأمر بين أن يلمّع نفسه ويظهر نفسه ويبيّن نفسه وبين أن يخفيها فحينئذ يختار الخفاء، أما إذا كان لابدّ من إظهار نفسه فلابدّ أن يظهرها، هذا ممن يحبّه الله عزّ وجلّ. وفيه الحث على أن الإنسان يكون خفيّا، يكون غنيّا عن غير الله عزّ وجلّ، يكون تقيا لربّه سبحانه وتعالى حتى يعبد الله سبحانه وتعالى في خير وعافية.
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ) فقال أصحابه وأنت ؟ قال: ( نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه البخاري . وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من خير معاش الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير ) رواه مسلم يطير . أي يسرع . ومتنه ظهره . و الهيعة الصوت للحرب . ... " .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت ؟ قال: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه البخاري. وعنه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مِن خير معاش الناس رجل ممسكٌ عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هَيْعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غُنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في خير ) رواه مسلم. قوله: ( يطير ) أي: يسرع، ( ومتنه ): أي: ظهره، ( والهيعة ): الصوت للحرب " . الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم: هذا حديثان في باب العزلة عن الناس خوف الفتنة : فيه حديث أبي هريرة الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي إلاّ رعى الغنم ) : يعني ما من نبيّ من الأنبياء أرسله الله عزّ وجلّ إلى عباده إلاّ رعى الغنم ، ( قالوا وأنت؟ قال: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة ) : يعني حتى النبي عليه الصّلاة والسلام رعى الغنم، قال العلماء : " والحكمة من ذلك أن يتمرّن الإنسان على رعاية الخلق وتوجيههم إلى ما فيه الصّلاح ، لأن الراعي للغنم تارة يوجّهها إلى وادٍ مزهر مخضرّ ، وتارة إلى واد خلاف ذلك ، وتارة إلى أرض ليس فيها هذا ولا هذا ، وتارة لا يرعاها أبدًا يبقيها واقفة " ، فالنبي عليه الصلاة والسّلام سيرعى الأمّة يوجّهها إلى الخير عن علم وهدى وبصيرة كالراعي الذي عنده علم بالمراعي الحسنة ، وعنده نصح وتوجيه للغنم إلى ما فيه خيرها وما فيه تسمينها ، واختيرت الغنم لأن الغنم صاحبها صاحب سكينة وهدوء واطمئنان، بخلاف الإبل، الإبل أصحابها في الغالب عندهم شدّة وغلظة، لأن الإبل كذلك، فيها الشدّة والغلظة فلهذا اختار الله سبحانه وتعالى لرسله أن يرعوا الغنم، حتى يتعوّدوا ويتمرّنوا على رعاية الخلق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم رعاها على قراريط لأهل مكّة، وموسى عليه الصّلاة والسّلام رعاها مهرًا لابنة صاحب مدين، فإنه قال : (( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممتَ عشرًا فمن عندك )). وأما الحديث الثاني: ففيه أيضا دليل على أن العزلة خير، يكون الإنسان ممسكًا بعنان فرسه يطير عليه كلما سمع هيعة : يعني أنه بعيد عن الناس ، مهتم بأمور الجهاد ، منعزل عن الناس لكنه على أتم استعداد للنفور والجهاد ، كلما سمع هيعة ركبه فطار به أي: مشى مشيًا مسرعًا، وكذلك ما كان في مكان من الأودية والشّعاب منعزل عن الناس ، ليس من الناس إلاّ في الخير فهذا في خير ، ولكنّنا سبق لنا أن قلنا : إن هذه النّصوص تحمل على أنّ ما كان في الإختلاط فتنة وشرّ ، وأما إذا لم يكن فيها فتنة وشرّ: ( فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ).
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين . قال الله تعالى: (( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين )) وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )) . وقال تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) وقال تعالى: (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) . وقال الله تعالى: (( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون )) . ... " .
القارئ : قال -رحمه الله تعالى- : " باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين : قال الله تعالى: (( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين )). وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين )). وقال تعالى: (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )). وقال تعالى: (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )). وقال تعالى: (( ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون )) " . الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم : قال النووي -رحمه الله تعالى- في كتاب: *رياض الصّالحين : " باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين " : التواضع ضدّ التعالي يعني : ألاّ يرتفع الإنسان ولا يترفّع على غيره بعلم، ولا نسب، ولا مال، ولا جاه، ولا إمارة، ولا وزارة، ولا غير ذلك، بل الواجب على المرء أن يخفض جناحه للمؤمنين : أن يتواضع لهم، كما كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة عند الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتواضع للمؤمنين ، حتى إنّ الصّبيّة لتمسك بيده لتأخذه إلى بيتها فيقضي حاجتها عليه الصّلاة والسّلام، وقول الله تعالى: (( واخفض جناحك للمؤمنين )). وفي آية أخرى: (( لمن اتّبعك من المؤمنين )) : اخفض جناحك : يعني نزّله وذلك أنّ المتعالي والمترفّع كالطّير يسبح في جوّ السّماء ، فأُمر أن يخفض جناحه وينزّله للمؤمنين الذين اتّبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، وعُلم من هذا أن الكافر لا يخفض له الجناح وهو كذلك ، بل الكافر ترفّع عليه وتعالى عليه ، واجعل نفسك في موضع أعلى منه لأنّك مستمسك بكلمة الله ، وكلمة الله هي العليا ، ولهذا قال الله عزّ وجلّ في وصف النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قال: (( أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم )) : يعني أنّهم على الكفّار أقوياء ذووا غِلظة، أما فيما بينهم فهم رحماء، ثمّ قال المؤلف، ساق المؤلف الآية الثّانية: (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين )) أي: من يرجع منكم عن دينه فيكون كافرا بعد أن كان مؤمناً، وهذا قد يقع، قد يقع من الناس: أن يكون الإنسان داخلًا في الإسلام عاملًا به ثم يزيغه -والعياذ بالله- الشّيطان حتى يرتدّ عن دينه فإذا ارتدّ عن دينه فإنه لا يكون وليّا للمؤمنين ولهذا قال: (( فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه )) يعني: بقوم مؤمنين يحبّهم ويحبّونه، (( أذلّةٍ على المؤمنين أعزّة على الكافرين )) يعني: في جانب المؤمنين أذلّة لا يترفّعون عليهم ولا يأخذون بالعزّة عليهم ، ولكنّهم يذلون لهم، أما على الكفّار فهم أعزّة مترفّعون، ولهذا قال النبي عليه الصّلاة والسّلام: ( لا تبدؤوا اليهود والنّصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطرّوهم إلى أضيقه ) : إذلالا لهم وخذلانا لهم، لأنهم أعداء، أعداء لك وأعداء لربّك وأعداء لرسولك، وأعداء لدينك، وأعداء لكتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية دليل على إثبات المحبّة من الله عزّ وجلّ، وأن الله يُحِبّ ويُحَبّ: (( فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه )) : وهذا الحبّ حبّ عظيم لا يماثله شيء، تجد المحب لله عزّ وجلّ ترخص عنده الدّنيا: الأهل والأموال بل والنّفس فيما يُرضي الله عزّ وجلّ ، ولهذا يبذل ويعرض رقبته لأعداء الله محبّة في نصرة الله عزّ وجلّ ونصرة دينه، وهذا دليل على أن الإنسان مقدّمٌ ما يحبّه الله ورسوله على ما تهواه نفسه، ومِن علامات محبّة الله أن الإنسان يديم ذكر الله، يكون دائما يذكر ربّه : بقلبه ولسانه وجوارحه. ومن علامة محبّة الله أن يحبّ من أحب الله عزّ وجلّ من الأشخاص فيحبّ الرّسول، ويحب الخلفاء الرّاشدين، يحب الأئمة، يحب من كان في وقته من أهل العلم والصّلاح. ومن علامة محبّة الله عزّ وجلّ: أن يقوم الإنسان بطاعة الله مقدّمًا ذلك على هواه، فإذا أذّن المؤذّن يقول: حيّ على الصّلاة ترك عمله وأقبل إلى الصلاة لأنه يحب ما يرضي الله أكثر مما يحب ما ترضاه نفسه، ولمحبّة الله علامات كثيرة. إذا أحب الإنسان ربّه فالله عزّ وجلّ أسرع إليه حبّا لأنّه قال سبحانه وتعالى قال في الحديث القدسي: ( من أتاني يمشي أتيته هرولة ) ، وإذا أحبّه الله فهذا هو المقصود وهذا هو الأعظم ، ولهذا قال تعالى: (( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ))، ولم يقل: فاتّبعوني تصدقوا الله، بل قال: (( يحببكم الله )) ، لأنّ هذه هي الثمرة ، أن يحب الرّبّ عزّ وجلّ عبده ، فإذا أحبّ عبده نال خيري الدّنيا والآخرة، جعلني الله وإيّاكم من أحبابه، وفي قوله: (( ويحبّونه )) : دليل على إثبات محبّة العبد لربّه وهذا أمر واضح، واقع، مشاهد يجد الإنسان من قلبه ميلا إلى ما يرضي الله، وهذا يدل على أنّه يجبّ الله عزّ وجلّ، والإنسان المؤمن الموفّق لهذه الصّفة العظيمة تجده يحب الله أكثر من نفسه، أكثر من ولده، أكثر من أمّه، أكثر من أبيه، يحب الله أكثر من كلّ شيء، ويحب المرء لأنّه يحب الله، ومعلوم أن المحبّ يحبّ أحباب حبيبه، فتجد هذا الرّجل لمحبّته لله يحب من يحبّه الله عزّ وجلّ من الأشخاص، وما يحبّه من الأعمال.
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وقال تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) وقال تعالى: (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) . وقال الله تعالى: (( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون )) ... " .
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم: ذكر المؤلف الحافظ النّووي رحمه الله في كتابه: *رياض الصّالخين ، تحت عنوان: " باب التّواضع وخفض الجناح للمؤمنين " : في سياق الآيات المتعلقة بهذا الموضوع قال: وقول الله تعالى: (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )) : يخاطب الله عزّ وجلّ الناس كلّهم مبيّنًا أنّه خلقهم من ذكر وأنثى، أي: من هذا الجنس أو من هذا الشّخص، يعني إمّا أن يكون المراد بالذّكر والأنثى آدم وحوّاء، أو أنّ المراد الجنس: أن بني آدم خلقوا كلّهم من ذكر وأنثى، وهذا هو الغالب وهو الأكثر، وإلاّ فإنّ الله خلق آدم من غير أمّ ولا أب، خلقه من تراب، من طين، مِن صلصال كالفخّار، ثمّ نفخ فيه من روحه، خلق له روحاً فنفخها فيه فصار بشراً سويّاً، وخلق الله حوّاء من أبٍ بلا أمّ، وخلق الله عيسى من أمّ بلا أب، وخلق الله سائر الإنسان من أمّ وأب، والإنسان أيضاً كما أنّه أربعة أنواع من جهة مادّة خلقه، كذلك هو أربعة أنواع من جهة جنس الخلق، يقول الله عزّ وجلّ: (( ولله ملك السّموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذّكور أو يزوّجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا )) : هذه أيضا أربعة أقسام، (( يهب لمن يشاء إناثًا )) : أي بلا ذكور، يعني يوجد بعض النّاس يوجد له الإناث ولا يوجد له الذّكور، لا يولد له ذكور أبدًا، كل نسله إناث، (( ويهب لمن يشاء الذّكور )) : فيكون كلّ نسلهِ ذكوراً بلا إناث، (( أو يزوّجهم ذكرانا وإناثا )) : يزوّجهم يعني يصنّفهم، لأن الزوج يعني الصّنف، كما قال الله تعالى: (( ومن شكله أزواج )) أي: أصناف وقال: (( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم )) أي: أصنافهم وأشكالهم، (( يزوّجهم )) يعني يصنّفهم (( ذكرانا وإناثا )) : هذه كم يا عبد الرحمن؟ ثلاثة أقسام، القسم الرابع: (( ويجعل من يشاء عقيماً )) : لا يولد له لا ذكر ولا أنثى، لأنّ الله سبحانه وتعالى له ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، لا معقّب لحكمه وهو السّميع العليم، يقول جلّ ذكره: (( وجعلناكم شعوباً وقبائل )) :الشّعوب : الطوائف الكبيرة كالعرب والعجم وما أشبه ذلك، والقبائل : ما دون ذلك جمع قبيلة، فالناس بنو آدم شعوب وقبائل، شعوب : أمم عظيمة كبيرة كما تقول: العرب بجميع أصنافهم، والعجم بجميع أصنافهم، كذلك القبائل دون ذلك، كما تقول : قريش، بنو تميم وما أشبهها، هؤلاء القبائل ، نعم (( لتعارفوا )) : هذه الحكمة من أن الله جعلنا شعوبا وقبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضاً، هذا عربي وهذا عجميّ، هذا من بني تميم وهذا من قريش، هذا مِن خزاعة وهكذا. فالله جعل هذه القبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضًا، لا مِن أجل أن يفخر بعضنا على بعض فيقول: أنا عربي وأنت عجميّ، أنا قبيلي وأنت خضيري، أنا عبد وأنت شيخ، هذا ما يجوز ، هذا من دعوى الجاهلية والعياذ بالله، لم يجعل هؤلاء الأصناف إلاّ من أجل التعارف فقط، لا من أجل التّفاخر، ولهذا قال النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( إنّ الله أذهب عنكم عِبّيّة الجاهليّة وفخرها بالأنساب ، فلا فخر لأحد على أحد: لكن: (( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم )) ) : أكرمنا عند الله أتقانا لله عزّ وجلّ، فمن كان لله أتقى فهو عند الله أكرم، ولكن يجب أن نعلم أن بعض القبائل أو بعض الشّعوب أفضل مِن بعض، فالشّعب الذي بُعث فيه الرسول عليه الصّلاة والسّلام هو أفضل الشّعوب، شعب العرب ، لأن الله قال في كتابه : (( الله أعلم حيث يجعل رسالته )) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) ، فلا يعني هذا إهدار الجنس البشري بالكلية، لا، لكن التّفاخر هو الممنوع، أما التّفاضل فإن الله يفضّل بعض الأجناس على بعض، فالعرب أفضل من غيرهم، جنس العرب أفضل من جنس العجم، لكن إذا كان العربي غير مُتّقٍ والعجميّ متّقياً فالأعجمي عند الله أكرم من العربي، ثم ساق المؤلف الآيات الأخرى : (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتّقى )) : لا تزكّوها : أي لا تصفوها بالزّكاء افتخارًا، وأمّا التحدّث بنعمة الله على العبد مثل أن يقول القائل : كان مسرفًا على نفسه، كان منحرفًا فهداه الله ووفّقه ولزم الإستقامة تحدّثا بنعمة الله لا تزكية لنفسه، فإنّ هذا لا بأس به، و لا حرج فيه: أن يذكر الإنسان نعمة الله عليه بالهداية والتّوفيق كما أنّه لا حرج أن يذكر نعمة الله عليه بالغنى بعد الفقر: (( فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتّقى )) هو : أي الرّبّ عزّ وجلّ (( أعلم بمن اتّقى )) ، وكم من شخصين يقومان بعمل أو يدعان عملاً وبينهما في التّقى مثل ما بين السّماء والأرض ، ولهذا قال : (( هو أعلم بمن اتّقى )) ، تجد شخصين يصلّيان كلّ واحد جنب الآخر لكن بين ما في قلوبهما من التقوى مثل ما بين السّماء والأرض ، شخصان يتجنّبان الفاحشة لكن بينهما في التقوى مثل ما بين السّماء والأرض ، (( لا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتّقى )) . ثم ذكر المؤلف آية ثالثة : (( ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون )) : أصحاب الأعراف : قوم تساوت حسناتهم وسيّئاتهم، فلا يدخلون الجنّة ولا يدخلون النار، يصرف أهل النار إلى النار، يُحشر أهل النار إلى النار ويُساق المتّقون إلى الرحمن وفداً، إلى الجنّة زمراً فيدخل أهل النار النار، وأهل الجنّة الجنّة، وأصحاب الأعراف في مكان مرتفع، الأعراف : جمع عَرْف وهو المكان المرتفع ، لكن ليسوا في الجنّة وليسوا في النار، وهم يطّلعون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، وفي النّهاية يدخلون الجنّة، لأنه ما فيه إلاّ جنّة أو نار، هما الباقيتان أبدًا وأما ما سواهما فيزول، يقول: (( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم )) أي : بعلامتهم معرفة تامّة ، (( قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون )) : يعني جمعكم المال والأولاد والأهل ما أغنى عنكم هؤلاء ؟! وما أغنى عنكم جمعكم من الناس الذين هم جنودكم تجمعونهم إليكم وتستنصرون بهم ، ما أغنوا عنكم شيئًا، (( وما كنتم تستكبرون )) : يعني وما أغنى عنكم استكباركم على الحقّ، (( أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة )) : يعني الضّعفاء ، وكان الملأ المكذّبون للرسل يسخرون من المؤمنين يقولون : (( أهؤلاء الذين مَنّ الله علينا من بيننا )) يقولون : أهؤلاء أصحاب الرّحمة؟ أهؤلاء أهل الجنّة؟ يسخرون بهم : (( إنّ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مرّوا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين )) . (( أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة ))، يعني : قد قيل لهم (( ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون )). إذن صار تواضعهم للحقّ واتّباعهم للرسل هو الذي أبلغهم هذه المنازل العالية. أما هؤلاء المستكبرون الذين فخروا بما أغناهم الله به من الجمع والمال، فإن ذلك لم يغن عنهم شيئا، فدل ذلك على فضل التواضع للحقّ، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من المتواضعين له وللحق الذي جاءت به رسله، إنّه على كلّ شيء قدير.
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد ) رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) رواه مسلم . وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله متفق عليه . وعنه قال: ( إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت ) رواه البخاري .
القارئ : نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- : " عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد ) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه، أنَّه مرَّ على صبيان فسلم عليهم وقال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ) متفق عليه . وعنه قال: ( إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت ) رواه البخاري " . الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم: هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في كتاب رياض الصّالحين في باب التواضع، فمنها حديث عياض بن حمار رضي الله عنه : ( أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن تواضعوا ) : يعني أن يتواضع كل واحد للآخر ولا يترفّع عليه، بل يجعله مثلَه أو يكرمه أكثر، وكان من عادة السّلف -رحمهم الله- أن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه، ومن هو أكبر مثل أبيه، ومن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى مَن هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مواساة ، فلا يبغي أحد على أحد، وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يتّصف بها ، أي : بالتواضع لله عزّ وجلّ ولإخوانه من المسلمين، أما الكافر فقد أمر الله تعالى بمجاهدته والغلظة عليه وإغاظته وإهانته بقدر المستطاع ، لكن مَن كان له عهد وذمّة فإنه يجب على المسلمين أن يفو له بعهده وذمّته وأن لا يخفروا ذمّته ، وأن لا يؤذوه ما دام له عهد. ثمّ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال : ( ما نقصت صدقة من مال ) : يعني أن الصّدقات لا تنقص الأموال كما يتوهّمه الإنسان ، وكما يَعِد به الشّيطان ، فإن الشّيطان كما قال الله عزّ وجلّ : (( يعدكم بالفقر ويأمركم بالفحشاء )) : الفاحشاء : كلّ ما يستفحش من بخل أو غيره ، فهو يعد الإنسان الفقر، إذا أراد أن يتصدّق قال: لا تتصدّق هذا ينقص مالك، هذا يجعلك فقيرا، لا تتصدّق أمسك، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الصّدقة لا تنقص المال ، فإن قال قائل : كيف لا تنقص المال والإنسان إذا كان عنده مائة فتصدّق بعشرة صار له تسعون؟ فيقال: هذا نقص كم ولكنّها تزيد في الكيف، ثمّ يفتح الله للإنسان أبوابًا من الرّزق تردّ عليه ما أنفق، كما قال الله تعالى: (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه )) أي : يجعل بدله خلفا ، فلا تظنّ أنك إذا تصدّقت بعشرة من مائة فصارت تسعين أن ذلك ينقص المال ، بل يزيده بركة ونماء، وترزق من حيث لا تحتسب. ( وما زاد الله عبدا بعفو إلاّ عزّا ) : يعني أن الإنسان إذا عفى عمّن ظلمه فقد تقول له نفسه : إن هذا ذلّ وخضوع وخذلان، فبيّن الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن الله ما يزيد أحدًا بعفو إلاّ عزّا، يعني : يعزّه ويرفع من شأنه. وفي هذا حثّ على العفو، ولكنّ العفو مقيّد بما إذا كان إصلاحًا لقول الله تعالى: (( فمن عفى وأصلح فأجره على الله ))، أما إذا لم يكن إصلاحا بل كان إفسادًا فإنّه لا يؤمر به، مثال ذلك: اعتدى شخص شرير معروف بالعدوان على آخر، فهل نقول للآخر الذي اعتُدي عليه: اعف عن هذا الشّرير؟ لا، ما نقول اعف عنه، لأنه شرير، إذا عفوت عنه تعدّى على غيرك من الغد أو عليك أنت أيضًا، فمثل هذا نقول: الحزم والأفضل أن تأخذه بجريرته، يعني أن تأخذ حقّك منه وأن لا تعفو عنه، لأن العفو عن أهل الشّرّ والفساد ليس بإصلاح، بل لا يزيدهم إلاّ فسادا وشرّا، فأما إذا كان في العفو خير وإحسان وربما يخجل الذي عَفوت عنه ولا يتعدّ عليك ولا على غيرك فهذا خير. ( وما تواضع أحد لله إلاّ رفعه ) : هذا الشاهد : ( ما تواضع أحد لله إلاّ رفعه الله ) : والتواضع لله له معنيان: المعنى الأول : أن تتواضع لدين الله فلا تترفّع عن الدّين ولا تستكبر عنه. والثاني : أن تتواضع لعباد الله من أجل الله لا خوفا منهم ولا رجاء لما عندهم ولكن لله عزّ وجلّ، والمعنيان صحيحان، فمن تواضع لله عزّ وجلّ في الدّنيا وفي الآخرة وهذا أمر مشاهَد: أن الإنسان المتواضع يكون محلّ رفعة عند الناس وذكر حسن، ويحبّه الناس، وانظر إلى تواضع الرسول عليه الصّلاة والسّلام وهو أشرف الخلق حيث كانت الأَمَة من إماء المدينة تأتي إليه وتأخذ بيده وتذهب به حيث شاءت ليعينها في حاجتها، هذا وهو أشرف الخلق، أَمَة من الإماء تأتي تأخذ بيده تذهب به إلى حيث شاءت ليقضي حاجتها ولا يقول أين تذهبين بي؟ أو اذهبي أنا لي شغل أو ما أشبه ذلك، لكن مع هذا ما زاده الله عزّ وجلّ بذلك إلاّ عزّا ورفعة صلوات الله وسلامه عليه.
شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله متفق عليه . وعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - يعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة . رواه البخاري . وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه ؟ فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها رواه مسلم ... " .
القارئ : " عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ) متفق عليه. وعن الأسود بن يزيد قال: ( سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة ) رواه البخاري. وعن تميم بن أُسيد رضي الله عنه قال: ( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليّ، فأُتي بكرسي، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها ) رواه مسلم " . الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم: هذه الأحاديث التي ذكرها الحافظ النووي في رياض الصّالحين في بيان تواضع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، منها : أنه كان يسلّم إذا مرّ على الصّبيان، يسلّم عليهم مع أنهم صبيان غير مكلّفين ، ومع ذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يسلّم عليهم، واقتدى به أصحابه رضي الله عنهم، فعن أنس رضي الله عنه أنه كان يمرّ بالصبيان فيسلّم عليهم، يمرّ بهم في السّوق يلعبون فيسلّم عليهم ويقول : ( إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يفعله ) : أي يسلّم على الصّبيان إذا مرّ عليهم . وهذا من التواضع وحسن الخلق، ومن التربية أيضا وحسن التعليم والإرشاد والتوجيه، لأن الصّبيان إذا سلّم الإنسان عليهم فإنهم يعتادون ذلك، ويكون ذلك كالغريزة في نفوسهم: أن الإنسان إذا مرّ على أحد سلّم عليه. وإذا كان هذا يقع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم على الصّبيان فإننا نأسف لقوم يمرون بالكبار البالغين ولا يسلّمون عليهم والعياذ بالله، قد لا يكون ذلك هجرًا أو كراهة، لكن عدم مبالاة، عدم اتّباع للسّنّة، جهل، غفلة، وهم وإن كانوا غير آثمين لأنهم لم يتّخذوا ذلك هجرًا لكنّه قد فاتهم خير كثير، فالسّنّة أن تسلّم على كلّ من لقيت، وأن تبدأه بالسلام ولو كان أكبر منك، ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ من لقيه بالسّلام ) : وهو عليه الصّلاة والسلام أكبر الناس قدرا ومع ذلك يبدأ من لقيه بالسلام ، وأنت إذا بدأت من لقيته بالسّلام حصلت على خير كثير، منها : اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومنها : أنّك تكون سببا لنشر هذه السّنّة التي ماتت عند كثير من الناس ، ومعلوم أن إحياء السّنن يؤجر الإنسان عليه مرّتين : مرّة على فعل السّنّة، ومرّة على إحياء السّنّة، ومنها : أنّك تكون السّبب في إجابة هذا الرّجل ، وإجابتك فرض كفاية ، فتكون سبباً في إيجاد فرض الكفاية من هذا الرّجل، ولهذا كان ابتداء السّلام أفضل من الرّد، وإن كان الرّدّ فرضًا وهذا سنّة ، لكن لما كان الفرض ينبني على هذه السّنّة كانت السّنّة أفضل من هذا الفرض لأنه مبني عليها.
الشيخ : وهذه من المسائل التي ألغز بها بعض العلماء وقال : عندنا سنّة أفضل من الفريضة ، لأنّه من المتّفق عليه أنّ الفرض أفضل ، يعني صلاة الفجر ركعتين أفضل من راتبتها الركعتين ، لأنها فرض ، لكن هذا سنّة ابتداء السّلام وهو أفضل من ردّه ، لأن ردّه مبني عليه.
تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله متفق عليه . وعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - يعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة . رواه البخاري . وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه ؟ فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها رواه مسلم ... " .
الشيخ : فالمهمّ أنه ينبغي لنا إحياء هذه السّنّة ، أعني إفشاء السّلام، وهو من أسباب المحبّة، ومن كمال الإيمان، ومن أسباب دخول الجنّة، قال النبي عليه الصّلاة والسلام: ( والله لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم ) . ومن تواضع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه كان في بيته في خدمة أهله، يخدم، يحلب الشّاة، يخصف النّعل ، يخدمهم في بيته، لأن عائشة سُئلت ماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ؟ قالت: ( كان في مهنة أهله ) : يعني في خدمتهم عليه الصّلاة والسّلام، فمثلا الإنسان في بيته من السّنّة أنه مثلا يسوّي الشاي لنفسه، ويطبخ إذا كان يعرف، ويغسل ما يحتاج إلى غسله كلّ هذا من السّنّة، أنت إذا فعلته تثاب عليه ثواب سنّة اقتداء بالرسول عليه الصّلاة والسّلام وتواضعا ، ولأنّ هذا يوجب المحبّة بينك وبين أهلك، إذا شعر أهلك أنك تساعدهم في مهنتهم أحبّوك ، وازدادت قيمتك عندهم فيكون في هذا مصلحة كبيرة. ومن تواضع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام : ( أنه جاءه رجل وهو يخطب الناس فقال : رجل غريب جاء يسأل عن دينه ) : كلمة استعطاف بل كلمتان: غريب، وجاء يسأل، لا يسأل مالا يسأل عن دينه، فأقبل إليه النبي عليه الصّلاة والسلام حتى انتهى إليه، ثم جيء إليه بكرسي فجعل يُعلّم هذا الرجل، لأن هذا الرجل جاء مشفقًا محبّا للعلم يريد أن يعلم دينه حتى يعمل به، فأقبل إليه النّبي عليه الصّلاة والسّلام وقطع الخطبة ثم بعد ذلك أكمل خطبته، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام وحسن رعايته، فإن قال قائل: أليست المصلحة العامّة أولى بالمراعاة من المصلحة الخاصّة ؟ وحاجة هذا الرجل خاصّة ، واحد ، وهو يخطب في جماعة ؟ قلنا : نعم لو كانت مصلحة العامة تفوت لكان مراعاة المصلحة العامّة أولى ، لكن مصلحة العامّة لا تفوت ، بل إنهم سيستفيدون ممّا يعلّمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرّجل الغريب، والمصلحة : مصلحة العامّة لا تفوت وهذا الغريب الذي جاء يسأل عن دينه إذا أقبل إليه الرسول عليه الصّلاة والسّلام وعلّمه صار في هذا تأليف لقلبه على الإسلام ومحبّة للإسلام، ومحبّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ، وهذا من حكمة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وفّق الله الجميع لما يحب ويرضى.
هل إذا قال الإنسان في الرد على السلام أهلا ومرحبا هل يكفي ؟
السائل : شيخ ! الشيخ : نعم نعم ! السائل : هل إذا قال الإنسان في الرّدّ على السّلام أهلا ومرحبا هل يكفي؟ الشيخ : أي نعم، هذا يسأل يقول : هل إذا قال الإنسان في الرّدّ على السّلام أهلا ومرحبا هل يكفي؟ نقول : لا يكفي، لو قال الإنسان في ردّ السّلام أهلا ومرحبا ألف مرّة واقتصر على ذلك ، فإنه عاصٍ وآثم لأنه لم يقم بالواجب، الواجب أن يرد فيقول : وعليكم السّلام ثم يقول أهلا وسهلا أو يقول: أهلا وسهلا ، عليكم السلام ، لكن يحسن بالمسلّم يا أخ حمد، يحسن بالمسلّم إذا سلّم.