تخريج أثر الحسن البصري : "كانوا يرجون في كل ليلة كفارة لما مضى من الذنوب " .
(( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا )) .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا، يصلِحْ لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اللهَ ورسولهَ فقد فاز فوزًا عظيمًا )) :
أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار:
أما بعد : أما التالي فهو حسن ، وهو قوله : " وعنه -يعني الحسن- : قال : كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة لما مضى من الذنوب ، رواه ابن أبي الدنيا ورواته ثقات " .
هذا الحديث ليس فيه التصريح برفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه أولًا : من رواية الحسن وهو : الحسن البصري ، والحسن البصري قد عرفنا من دروسنا السابقة أنه رجل من أفاضل وكبار علماء التابعين وزهادهم وشجعانهم، قد جمع كثيرا من الخصال التي قلَّما أن تتوفر في أفراد من الرجال ، إلا أنه من الناحية الحديثية فيه ما يمنع العالم بالحديث من الاحتجاج بحديثه في بعض الأحيان ، وذلك حينما يروي الحديث عن الصحابي ، بل وعمن دونه أيضا من التابعين بصيغة : عن ، أو بصيغة : قال ، أو بأي صيغة أخرى لا يصرح فيها بسماعه للحديث من ذلك الصحابي أو غيره ، إذا لم يصرح بالسماع لا يُحتج بحديثه مع جلالته وفضله ، ذلك لأنه محشور عند العارفين بعلم الحديث ومصطلحه في زمرة المدلسين .
توضيح المراد بالتدليس عند المحدثين مع بيان منزلته وحكمه .
والنكتة في ذلك : أن إنسانًا ما ، أنا لو قلت مثلًا : قال الشيخ محمد عبده ، أو قال السيد رشيد رضا ، أو قال الشيخ حسن البنا كذا وكذا ، أكون مدلسًا ، مع أنني عاصرتهم جميعًا ، واحد في آخر حياته ، وواحد في منتصف حياته إلخ ، لأني معاصر لهم فإذا قلت : قال فلان ، أُوهم السامع أنني تلقيته منه مباشرة ، لكن لو قلت : سمعت من فلان وأنا لم أسمع ، أحشر في زمرة الكذابين لا سمح الله ، فالآن إذا تفكرتم في هذه النقطة كم وكم من الأخبار يرويها أحدنا في كل يوم بدون واسطة ، مثلا أحدكم يقول : قال الشيخ ناصر كذا في كثير من المسائل ، وهو لم يسمعه من الشيخ ناصر ، وإنما سمعه ممن سمعه من الشيخ ناصر ، وربما ممن ممن ممن إلخ ، فهؤلاء كلهم يدخلون في زمرة المدلسين في اصطلاح المحدثين . وترون أنه ليس في هذا ذم ، لكن في هذا تحذير من الاعتماد على مثل هذه الرواية التي لا يصرح فيها الراوي بالسماع مباشرة من الشخص الذي يروي عنه ، لذلك وصل حِرص وغيرة علماء الحديث في نقل الحديث عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذه الدقة المتناهية ، الحسن البصري من كبار علماء التابعين ، إذا قال عن سمرة بن جندب مثلا وهو صحابي مشهور أو قال : قال سمرة ، لا يحتج بحديثه ، وهو سمع منه ولقيه ، فلا يحتج بحديثه إلا إذا قال سمعت سمرة ، وقد حدث ببعض الأحاديث فعلا قال فيها : سمعت سمرة بن جندب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر حديث العقيقة .
عودة الشيخ للحديث عن أثر الحسن البصري : " كانوا يرجون في كل ليلة كفارة ..." .
خلاصة القول : مثل هذا الحديث لا يُعطى له حكم المرفوع إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه أولًا : لم يذكر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطلقا . وثانيًا : لأن الذي يروي هذا الخبر هو تابعي وليس بصحابي لو كان الصحابي يقول هذا الكلام ، يعني ذلك أن الصحابة كانوا يرجون ، على كل حال الغرض مِن مثل هذا البحث وهذا التحقيق أننا لا نزال مع أولئك الراجين ، فلا نقطع بفضل ما جاء في هذا الأثر عن الحسن البصري : أن حمى ليلة كفارة الذنوب كلها ، لو كان حديثا مرفوعا إلى الرسول -عليه السلام- وصرح بنسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لعضدنا عليه بالنواجذ ، لكن ما هو إلا رواية مِن الحسن عن علماء عصره : بأنهم كانوا يرجون من حمى ليلة تصيب المسلم أنها كفارة للذنوب .
ما مزايا كل من صحيحي البخاري ومسلم عن الآخر من جهة المتون ومن جهة الأسانيد ؟
الشيخ : مِن المعروف أن صحيح البخاري يمتاز على صحيح مسلم من ناحيتين اثنتين : الناحية الأولى : أنَّ علمه بالأسانيد وبعللها وعلل المتون أتم وأكمل من صاحبه الإمام مسلم ، وكذلك هو أعلم بالرجال منه ومن كثير ممن هم سواه ، ولهذا فأسانيد البخاري أنقى وأسلم وأقوى من أسانيد الإمام مسلم هذه هي الميِّزة الأولى .
والميِّزة الأخرى هي : أن الإمام البخاري لم يخصص كتابه فقط لجمع الأحاديث الصحيحة في كل باب من الأبواب الفقهية كما هو شأن بقية أئمة السنة الستة وغيرهم ، ومنهم الإمام مسلم ، هؤلاء الأئمة كان قصدهم من تأليف هذه الكتب هو جمع الأحاديث الواردة في كل باب ، وكلٌ على شرطه ، ومن هؤلاء الإمام مسلم ، أما البخاري فقد توجه إلى ناحية أخرى ، هي في الواقع ثمرة الحديث وثمرة الاشتغال بالحديث ، والتأليف في الحديث وجمع الحديث : ألا وهو الفقه ، فالإمام البخاري يضع أبوابًا عديدة للحديث الواحد ، ويفرق الحديث الواحد في كتب متنوعة ، تارة في الصلاة ، تارة في الحج ، في الزكاة ، في النكاح ، في الطلاق حسب ما جمع الحديث مِن الفوائد ، فهو يأخذ من هذا الحديث الفائدة الفقهية ، وتارة يسوق الحديث بتمامه تحت باب واحد ، وتارة -وهو الأقل- يأخذ من هذا الحديث فقرات ويوزعها على الأبواب وعلى الكتب ، ويضع لكل فقرة بابا يدل على ما فيه من الفقه ، ولذلك فقد شاع عند المشتغلين بصحيح البخاري شرحًا وبيانًا وتفقهاً : أن فقه البخاري في أبوابه ، لذلك لو أن الإنسان أحصى أبواب البخاري لوجدها تزيد على أبواب مسلم ، بل وكل كتاب آخر من الكتب الستة بالمئات ، فهو يعقد كما قلنا للحديث الواحد العديد من الأبواب ، ولكنه يفرقها حسب الكتب .
هذا الاهتمام ببيان فقه الحديث استدعى وحمل الإمام البخاري على أن يأتي بشيء جديد في صحيحه هذا ، وهو : أن يأتي بكثير من الأحاديث الأخرى التي ليست على شرطه ، وإنما هي تارة تكون صحيحة دون صحيحه ، وتارة تكون حسنة وتارة تكون من قسم الضعيف.
هذا النوع من الحديث يسميه العلماء : " الحديث المعلق " ، تفرد الإمام البخاري بالإكثار من هذا النوع مِن الحديث في كتابه مع أن كتابه اسمه : المسند لصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن ليبين معنى الباب الذي ترجم به عن الحديث الذي أسنده وهو على شرطه ، بين الباب وبين الحديث المسند يسوق حديثا من تلك الأحاديث المعلقة ، وهي على الأقسام الثلاثة كما ذكرنا : صحيح أو حسن أو ضعيف .
هذا النوع من الحديث لا نجده في الكتب الستة الأخرى ، فالإمام مسلم مثلا أحصى بعض أئمة الحديث الأحاديث المعلقة فيه فهي لم تتجاوز العشرين حديثا ، بل هي دون ذلك ، بينما المعلقات في صحيح البخاري فوق الألف بكثير ، وما أحصيت بعد ، لأنه ما تم طبع مختصر البخاري مرقمًا كما بدأت به في المجلد الأول منه ، فهذه الأحاديث المعلقة تساعد قارئ البخاري على أن يستجدي المعنى الذي جاء في الحديث ، وترجم له الإمام البخاري بباب خاص له .
فالحديث المعلق يساعد القارئ على تفهم ما رمى إليه البخاري من الفقه ، وتارة يكون جليا وأخرى يكون خفيا ، هذه مزايا لا توجد في صحيح مسلم ، ولكن صحيح مسلم لا يخلو من مزية لا توجد في صحيح البخاري ، وهذه سنة الكون : أن الإنسان الواحد لا يمكن أن تتوفر فيه كل المحاسن والمصالح ، فمقابل أن الإمام البخاري قد يورد الحديث مفرقا في أماكن ، بل قد يورد الحديث أحيانا بتمامه في مواطن.
أما مسلم فهو يجمع الحديث طرقه وأسانيده في مكان واحد ، وهذا يوفر على الباحث كما هو مجرب جهدا كثيرا بخلاف صحيح البخاري ، فأحدنا إذا أراد أن يحصل حديثا من أحاديث البخاري يجب أن يبحث في العديد من المواطن ، لأنه قد يورده في مكان مختصرا ، وفي مكان آخر مطولا ، بينما الإمام مسلم يذكر لك الحديث في مكان واحد وبكل رواياته التي وصلت إليه.
إذن الإمام البخاري يتميز على مسلم من حيث الصحة فهو أصح من مسلم ، ويتميز عليه أيضا بأنه عني بلفت نظر القارئ إلى فقه الحديث ، وساعده على ذلك بأن علق بعض الأحاديث بدون إسناد ، وهي إما : صحيحة أو حسنة أو ضعيفة .
هذا ما يمكن أن يذكر في هذه المناسبة .
ما هي أنواع أحاديث البخاري في صحيحه وما مدى صحة كل قسم منها ؟
الشيخ : نعم ، سبق الجواب ، أحاديث البخاري المسندة كلها صحيحة ولا يضرنا أن نقول : أن هذه قاعدة أغلبية ، لأنه لا يخلو أن يكون هناك بعض الأوهام والأخطاء من بعض الرواة ، ذلك ليتحقق القول المروي عن الإمام الشافعي : " أبى الله أن يتم إلا كتابه " ، فكل أحاديث البخاري المسندة -يعني التي يسوق سندها منه إلى الرسول عليه السلام - فهي صحيحة إلا أشياء قليلة ، وقليلة جدا ربما تعد بأصابع اليد الواحدة .
أما القسم الثاني من الأحاديث وهي الأحاديث المعلقة ، وهي التي لا يسوق إسنادها منه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى الصحابي ، أو إلى التابعي ، فهي كأقسام سائر كتب السنة : فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف ، لذلك من الخطأ الفاحش أن يقال ، بل وأن يؤلف رسالة في بعض البلاد الإسلامية ردًا على بعض المتهورين ، رسالة عنوانها : " كل ما في صحيح البخاري صحيح " ، هذه مكابرة ، هذا جهل ، هذا كلام يصدر من إنسان لم يدرس البخاري إطلاقا ، لو أنه قال مثلا : كل ما في صحيح البخاري من المسند صحيح ، كان يمكن أن يكون قريبا من الصواب ، لكن هذا الإطلاق وفي صحيح البخاري أكثر من ألف حديث معلق ، وفي هذا القسم المعلق عشرات الأحاديث الضعيفة ، فهذا لا يجوز إسلامياً أن يقال : كل ما في صحيح البخاري صحيح ، لأن هذا أولًا : خطأ يخالف الواقع ، وثانيًا : فيه مضاهاة للقرآن الكريم ، فالقرآن الكريم هو فقط (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )) ، أما كتاب ألفه زيد من الناس مهما كان عالما ، مهما كان حريصا على الصحة والصواب ، مهما مهما إلخ ، فلابد أن تزل به القدم ، وأن يغلبه القلم ، وذلك سنة الله في خلقه (( ولن تجد لسنة الله تبديلا )) .
تتمة جواب الشيخ وتوضيحه على مسألة الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري ، وبيان شرط البخاري فيها .
السائل : نعم .
الشيخ : قال قائل آنفا : بأن بعض العلماء يقولون : أن الأحاديث التي يذكرها البخاري معلقة في صحيحه بصيغة الجزم فهي صحيحة ، وما لا فليست بصحيحة !
هذا ليس صحيحًا على إطلاقه ، صحيح أن ما ذكره البخاري بصيغة الجزم فهو يعني صحة النسبة إلى مَن عُلِّق عليه الحديث ، وهنا دقة فأرجو الانتباه لها : صحيح أن ما علقه البخاري مِن الأحاديث المعلقة في صحيحه بصيغة الجزم فذلك يعني أنه صحيح ، لا يعني أنه صحيح إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- دائما وإنما إلى من علق الحديث عليه .
توضيح هذا: إما أن يكون الحديث في صحيح البخاري معلقا رأساً على النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن يقول : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، أو عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ، فهذا معلق عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبصيغة الجزم ، فهذا يعني أنه صحيح ، كذلك لو قال : قال أبو هريرة : قال رسولُ الله ، ذلك لأن الصحابة كلهم ثقات وعدول وحفاظ فلا إشكال في هذه الصورة ، كذلك مثلا إذا قال : عن سعيد أو قال : سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فهذا أيضا يعني أنه صحيح ، لم؟ لأن سعيدا أيضا ثقة ومعروفة روايته عن أبي هريرة إلخ ، لكن ليس كذلك فيما لو قال : عن طاووس -وقد قال فعلا- ليس كذلك فيما لو قال : عن طاووس عن معاذ ، فهذه صيغة جزم ، لكن انظروا معي على مَن علق الحديث ؟ على طاووس ، وطاووس ثقة ، فهو يعني أن السند الذي حذفه ولم يصرح به كما هو شأنه في الأحاديث المسندة هو صحيح إلى مَن ؟ إلى طاووس ، لكن حينما يقول لك : " عن طاووس عن معاذ " انظر !! فهنا نكتة رمى إليها بأن علق الحديث على طاووس ، ولم يعلقه على معاذ ، ذلك أنه لم يصح سماع طاووس من معاذ ، إذن كأن البخاري مَسَّكَك علة الحديث بلفتة نظر ناعمة جدًا ، بأن يقول لك : عن طاووس عن معاذ ، كان لو كان الحديث عنده صحيحًا لقال مثلا: عن معاذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
فهذا أيضا معلق بصيغة الجزم لكن لا يعطيك صحة الحديث ، والسبب أنه منقطع بين طاووس وبين معاذ . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى المقابلة لهذه أي : أحيانا البخاري يعلق الحديث الصحيح بصيغة التمريض ، أحيانا يأتيك بالحديث معلقًا بصيغة روي ، فهل هذا يعني أن الحديث ضعيف ؟ الجواب : لا ، ويقول شارحه الفذّ الحافظ ابن حجر أنه له اصطلاح في هذا ، وهو أنه حينما يأتي بالحديث الصحيح مُصدَّرا بصيغة تمريض روي ، فهو يشير إلى أن هذا الحديث اقتطعه من حديث مسند عنده في مكان آخر ، ولذلك فلا يصح أن نأخذ قاعدة عامة ، نقول : " ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح ، وما علقه البخاري بصيغة التمريض فهو ضعيف " ، لا ، هنا وهنا لا يقال : ما علقه بصيغة الجزم فهو صحيح ، لما سبق بيانه ، كذلك لا يقال بأن ما علقه بصيغة التمريض فهو ضعيف ، لما ذكرنا أيضا آنفا .
والحصيلة أنك يا طالب العلم لا تغتر بجزم البخاري لتعليق الحديث ، أو بعدم جزمه ، لأن له في ذلك ملاحظات واصطلاحات دقيقة لا يعرفه إلا كل من له عناية بدراسة صحيح البخاري ، وهذا مما عُرف عن الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني ، فهو الذي خدم هذا الصحيح ، فمن أشكل عليه شيء من هذا فعليه أن يرجع أولا : إلى شرحه المعروف ب " فتح الباري " ، وإلا فله مجلد من هذا الكتاب يسمى : " بمقدمة فتح الباري " ، هناك فيه تفصيل لكثير من هذه المعلقات وغير ذلك .
6 - تتمة جواب الشيخ وتوضيحه على مسألة الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري ، وبيان شرط البخاري فيها . أستمع حفظ
ما هو قول فضيلتكم في تصفية علوم الحديث وأصوله _يعني المصطلح_ أم أنه لا يوجد خلاف بين المحدثين في ذلك كما اختلفوا في سائر العلوم الإسلامية ؛ يرجى التبيان ؟
الشيخ : الجواب : لا شك بأن هناك خلافا معروفا في أصول الفقه ، وأصول الحديث أيضًا ، وإن كان الخلاف في أصول الثاني ، أصول الحديث أقل بكثير من الخلاف في أصول الفقه ، لكن نحن نعلم أن كل العلوم الشرعية إنما تقوم على الكتاب والسنة ، وقد اطلعتم آنفا كيف أن الإمام البخاري أقام الحجة في إثباته لتلك القاعدة في حديث ابن عمر في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الكعبة.
كل العلوم الشرعية مرجعها إلى الكتاب والسنة ، فلذلك التصفية التي ندندن حولها دائما وأبدا نحن لا نخصها بالسنة ، نحن نقول : لابد من تصفية العقائد قبل كل شيء ، التي هي أصل من جهة والخلود في الجنة ، من تمسك بها على هدى ، أو في النار إذا خالف ذلك والعياذ بالله ، فنحن لا نعني بتصفية السنة الوقوف عند هذا ، وإنما نقول : إن أصل كل التصفيات التي لا بد منها لتعود الأمة المسلمة إلى دينها المصفى من كل دخيل ، هو بتصفية السنة ، بعد هذه التصفية ، أو مع هذه التصفية إذا أمكن ، لابد من التوجه أيضا إلى تصفية أصول الفقه ، وأصول الحديث أيضا ، لما يمكن من ذلك ، وهو شيء لا بأس به فيما نعتقد ، فإذن نحن ندعو إلى التصفية بأشمل المعاني ولكن من أين نبدأ ؟ نبدأ بتصفية الأصل الثاني من أصول الشريعة ألا وهي الحديث والسنة ، هذا جوابنا على ذاك السؤال .
7 - ما هو قول فضيلتكم في تصفية علوم الحديث وأصوله _يعني المصطلح_ أم أنه لا يوجد خلاف بين المحدثين في ذلك كما اختلفوا في سائر العلوم الإسلامية ؛ يرجى التبيان ؟ أستمع حفظ
بيان صحة أسانيد ومتون الحديث التالي : ( من غسل ميتا وكتم عليه غفر الله أربعين كبيرة ) .
وعدتكم أن آتيكم بجواب في هذا الدرس ، وقد يسر الله عز وجل فها أنا فاعل :
الحديث هنا من حيث الرواية الأولى وهي قوله : ( فكتم عليه غفر الله له أربعين كبيرة ) : يقول : " رواه الطبراني في الكبير ، ورواته محتج بهم في الصحيح " ، أما رواية : ( غفر الله له أربعين مرة ) ، فعزاها للحاكم في المستدرك وقال : " صحيح على شرط مسلم " ، فبطبيعة الحال رجعت إلى هذين المصدرين ، المصدر الأول : *معجم الطبراني الكبير ، الذي روى الرواية الأولى بلفظ : ( أربعين كبيرة ) ، فوجدت في السند كما قال المؤلف ، رجاله رجال الصحيح .
8 - بيان صحة أسانيد ومتون الحديث التالي : ( من غسل ميتا وكتم عليه غفر الله أربعين كبيرة ) . أستمع حفظ
توضيح الشيخ لمراد المنذري والهيثمي وغيرهما فيما يقولونه في بعض أسانيد الكتب المتأخرة : رجاله رجال الصحيح ، وتوضيح ذلك .
9 - توضيح الشيخ لمراد المنذري والهيثمي وغيرهما فيما يقولونه في بعض أسانيد الكتب المتأخرة : رجاله رجال الصحيح ، وتوضيح ذلك . أستمع حفظ
توضيح مراد الحاكم من عبارته في الحكم على الأحاديث : صحيح على شرط البخاري أو مسلم أو كلاهما .
10 - توضيح مراد الحاكم من عبارته في الحكم على الأحاديث : صحيح على شرط البخاري أو مسلم أو كلاهما . أستمع حفظ
بيان حال إسناد الحديث : (من غسل ميتا وكتم عليه ...) الحديث .
المهم هذا الرجل : هارون بن ملول شيخ الطبراني الذي روى الحديث عن المقري ، هو الذي قال : ( أربعين كبيرة ) ، الحاكم الذي رواه بلفظ : ( أربعين مرة ) ، رواه عن شيخين ، _ ليس له بل هما من شيوخ شيوخه _ عن المقري ، بلفظ : ( أربعين مرة ) ، فصار عندنا روايتان : ( أربعين كبيرة ) تفرد بها هارون بن ملول البصري أو المصري ، ( أربعين مرة ) : شيخان من شيوخ الحديث روياه بهذا اللفظ .
لو كان هارون بن ملول معروف بالعدالة والثقة والضبط لقلنا : إنه شاذ ، لأنه خالف ثقتين ، والحديث الواحد إذا جاء على وجهين مختلفين لا بد حين ذلك من الترجيح ، وطريقة الترجيح أن يقال : إذا كان المخالِف ثقة ، والمخالَف أوثق أو أكثر ، قيل للرواية المخالِفَة : رواية شاذة ، وإذا كان المخالِف ضعيفًا أو مجهولًا قيل في روايته : إنها نكرة ، لأنها خالفت الرواية الصحيحة .
خلاصة القول بعد هذا البيان والتوضيح ، وقد يستفيده كثيرون منكم إن شاء الله : رواية : ( أربعين كبيرة ) : ضعيفة ، ورواية : ( أربعين مرة ) هي الرواية الصحيحة ، فليكن هذا منكم على بال ، وليسجل هذا من يهمه التسجيل على هامش الكتاب .
توضيح الشيخ لأسلوب مالك رحمه الله في الموطأ فيما يريه بقول : بلغني ، وتعرف بالبلاغات .
هنا كلام كثير من علماء الحديث منهم المفرِط ، ومنهم المفرّط ، ومنهم المتوسط المعتدل ، منهم من يقول : كل بلاغات الإمام مالك صحيحة ، وهذا مغاير ، ومنهم من يقول : كلها أو جلها ضعيفة لا تصح ، ومنهم من يقول : كلها قد وجدنا لها أسانيد خارج الموطأ ، وهي ثابتة إلا أربعة أحاديث وهذا هو القول الوسط .
12 - توضيح الشيخ لأسلوب مالك رحمه الله في الموطأ فيما يريه بقول : بلغني ، وتعرف بالبلاغات . أستمع حفظ
ضرب الشيخ لبعض أمثلة البلاغات في الموطأ مع التعليق عليها .
توضيح الشيخ لمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث النسيان ، وأنه يجب التوسط في ذلك بين غلو الغالين وجفو الجافين .
الغرض أن الإنسان المسلم يجب أن يكون وسطا : (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )) ، لا يواري في رفع الرسول -عليه السلام- خلافًا لقوله : ( لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله فيها ) ، ولا أيضًا يقول : يا أخي الرسول بشر مثل حكايتنا ، لا ، لا نقول : الرسول كما قال البوصيري وأمثاله :
" محمدٌ بشرٌ وليس كالبشر *** بل هو ياقوتةٌ والناسُ كالحجر "
هذا مبالغة ، كما بالغ في قوله :
" دع ما ادَّعته النصارى في نَبيِهِم *** واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكِمِ "
لا ، نحن وسط هكذا طبعنا ربنا بطابعه الكريم ، فلا نرفع الرسول -عليه السلام- فوق منزلته التي أنزله الله فيها ، ولا أيضًا نضعه في مقام عامة الناس ، الله اصطفاه بالنبوة والرسالة أولاً ، ثم اصطفاه بأن جعله سيد الأنبياء والرسل جميعاً .
14 - توضيح الشيخ لمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث النسيان ، وأنه يجب التوسط في ذلك بين غلو الغالين وجفو الجافين . أستمع حفظ
عودة الشيخ للحديث حول بلاغات الإمام مالك رحمه الله ، مع ضرب مثالا من الأمثلة الصحيحة الموصولة خارج الموطأ .
هذا الحديث يقول : ( من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة -في رحمة الله عز وجل- حتى يجلس ، فإذا جلس اغتمسَ فيها ) : هذا مبالغة لأنه إذا كان وهو يمشي يخوض في رحمة الله عز وجل ، فإذا جلس عند المريض ازدادت الرحمة حوله ، فانغمس فيها ، فالحديث صحَّ ليس برواية مالك بلاغا ، وإنما برواية الإمام أحمد ، الذي قال في رواته : أنهم رواة الصحيح ، مسندا عن جابر ، ومن النكت الطريفة الظريفة في كتب الحديث ، أن هناك بعض الأسانيد تروى من طريق الإمام أحمد ، عن الإمام الشافعي ، عن الإمام مالك : تسمى هذه الرواية بالسلسلة الذهبية ، لأنها مروية عن الأئمة المحدثين الفقهاء المجتهدين ، أحمد عن الشافعي ، الشافعي شيخ الإمام أحمد ، وأحمد تلميذه ، الشافعي عن مالك فمالك شيخ الشافعي ، والشافعي تلميذه ، فهي سلسلة ذهبية ، آخذ بعضها برقاب بعض ، لكن هذا عزيز من الحديث ، أي الأحاديث التي تروى بهذه الطريقة نادرة ، وليس طبعا هذا الحديث لأنه مقطوع بالنسبة لمالك ، ثم ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا الحديث شاهدا لتقويته فقال : " ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة بنحوه ، ورواته ثقات " .
آخر هذا الفصل قوله تقوية لما سبق من الحديث قبله : " وعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( من عاد مريضًا خاض في الرحمة ، فإذا جلس عنده استنقع فيها ) ، رواه أحمد بإسناد حسن ، والطبراني في الكبير ، والأوسط " . وفيما بعد رواية أخرى فيها ضعف . وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العلمين .