شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرين ... ) .
لقد قلنا في الدرس الماضي أن هذه الجملة: الفقراء المهاجرون يحتمل أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قصد بها المهاجرين الأولين، أبا بكر الصديق ومن تبعه من المهاجرين الذين هاجروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام قصد بهذه الجملة الفقراء المهاجرون: كل من يصدق فيهم هذه الصفات التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعل هذا المعنى الثاني أولى أن نذهب إليه لأنه أولًا يدخل فيه المهاجرون الأولون الذين هاجروا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وثانيًا : لأن هناك في أحاديث الباب ما يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام عنى غير المهاجرين الأولين، لأنه لما ذكر الرسول عليه السلام وأثنى على هؤلاء المهاجرين خيرًا وأنهم يدخلون الجنة قبل غيرهم بأربعين خريفًا أو عامًا قال أبو بكر نفسه: ( أنحن هم يا رسول الله ؟ قال: لا، أنتم على خير كثير )، ثم ذكر أناسًا من الغرباء كما جاء في الحديث وذكرناه في مناسبات شتى الذين وصفهم الرسول عليه السلام: ( بأنهم ناس قليلون صالحون بين ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) فأشار الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هؤلاء الفقراء المهاجرون ليسوا هم المهاجرين السابقين الأولين بل هم كل من يصدق فيهم هذه الصفات الذي وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام.
أول ذلك أنهم فقراء، ثاني ذلك أنهم يهاجرون في سبيل الله، ثالث ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( الذين تُسدّ بهم الثغور ) يعني هم يوضعون ويقدمون لكل مكروه للرباط في سبيل الله عز وجل، ( وتتقى بهم المكاره ) تُدفع بهم المكاره، إذا مثلاً كانوا في بلد فهاجمها الكفار والأعداء كانوا هم أولَ من يُتقى بهم شر هؤلاء الغزاة الكفار، ونحو ذلك من المكاره، ومن صفاتهم أيضًا: ( ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً ) : يمكن أن نضرب على هذا مثلاً بسيطًا: هو لفقره يشتهي شيئًا مما أحلَّ الله عزوجل من طعام أو من شراب كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنه اشتهى يومًا وتمنى أن يكون عنده رغيف مرققٌ مدهونٌ بسمن، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيش حياة الفقر، وكان يمضي عليه اليوم والاثنين والثلاثة ولا يوقد فيه النار، في بيته كما تقول السيدة عائشة، فالفقير يجد حاجة في نفسه ثم لا يستطيع قضاءها لفقره ولعدم وصوله إليها، فهذا من أوصاف هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً.
لاشك أن مثل هؤلاء الفقراء هم يعيشون في فقر بالغ والله عز وجل يقول: (( وبشر الصابرين )) ويقول: (( إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب )).
1 - شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرين ... ) . أستمع حفظ
تتمة شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( فيقول الله عزوجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك ... ) . وفيه مسألة اعتقادية وهي: أيهما أفضل الملائكة أم البشر ؟
ولذلك لما كان معلومًا أن البشر فيهم الصالح فيهم الطالح كان تعبير بعض العلماء: " أن صالحي البشر أفضل من الملائكة "، وبعضهم قال العكس : " الملائكة أفضل من صالحي البشر "، وبعضهم توقف ومنهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والتوقف هو الموقف التي تقتضيه القواعد العلمية الشرعية حينما لا يوجد نص صريح في القضية، لا من كتاب ولا من سنة نبوية، أما وقد وجدنا هذا النص وهو بين أيديكم حيث أن الملائكة حينما يؤمرون من ربنا تبارك وتعالى يوم القيامة أن يأتي أولئك الفقراء المهاجرين الموصوفين بتلك الصفات السابقة يؤمرون أن يأتوهم ويُحيوهم فيقول الملائكة: ( نحن سكان سمائك ) أولًا: هذه الجملة فيها إشارة للتفضيل، نحن سكان سمائك ولسنا سكان أرضك والسماء أفضل من الأرض، وما ذلك إلا لما فيها من السكان من الملائكة الموصوفين بأنهم: (( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ))، وما ذلك إلا كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: لا يوجد في السماء موضع شبر إلا وفيها لله ملك قائم أو راكع أو ساجد، فتشير الملائكة إشارة، ثم تفصح بصريح العبارة بأن الملائكة أفضل لأنهم سكان السماء، والسماء أفضل من الأرض، ثم يصرحون فيقولون: ( وخيرتك من خلقك ) إذن هذا الحديث يقطع النزاع ويرفع الجدال في المسألة السابقة الذكر فنقول كما قالت الملائكة: ( نحن خيرتك من خلقك )، فملائكة الله أفضل وأخير عند الله من أي خلق من خلق الله تبارك وتعالى بدليل هذا الحديث.
وقد يقول قائل: إن هذه المسألة لا تستحق البحث الطويل، فأقول وهو كذلك ولكن بقيد واحد: حينما لا يوجد مثل هذا النص، أما وقد بُحثت المسألة وسُوّدت فيها صفحات عديدة وأقرب هذه الكتب إلى السُّنة هو كتاب شرح الطحاوية، ومع ذلك الرجل مع أنه وقف الموقف الذي يمليه عليه العلم الصحيح وهو عدم البت بترجيح الملائكة على صالحي البشر أو العكس لأنه لم يستحضر هذا الحديث، مع ذلك فقد سوّد صفحتين أو أكثر وفي النتيجة لم يصل إلى شيء لأنه قال: ما دام أنه لا يوجد في القضية نص فالأولى التوقف، هذا الموقف هو الصحيح، ومادام أن الموضوع قد بُحث طويلًا فلا بأس علينا من أن نذكر بهذه الفائدة التس تضمنها هذا الحديث وأن نربطها بذلك الخلاف الطويل العريض فنقول: إذا سمعتم هذا الخلاف فاقطعوه وانتهوا منه بشهادة الملائكة على أنفسهم وقولهم لربهم: ( نحن سكّان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم قال إنهم كانوا عبادً -أو عُبّادً لعل هذا أولى- يعبدوني لا يُشركون بي شيئًا، وتُسد بهم الثغور وتُتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب (( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )) ).
2 - تتمة شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( فيقول الله عزوجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك ... ) . وفيه مسألة اعتقادية وهي: أيهما أفضل الملائكة أم البشر ؟ أستمع حفظ
فوائد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرين ... ) . وبيان صفاتهم.
3 - فوائد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرين ... ) . وبيان صفاتهم. أستمع حفظ
شرح حديث ثوبان رضي الله عنه: ( إن حوضي ما بين عدن إلى عُمَان، أكوابه عدد النجوم، ماؤه أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل ... ) .
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( إن حوضي ما بين عدن إلى عُمَان، أكوابه عدد النجوم، ماؤه أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل، وأكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين، قلنا يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: شُعث الرؤوس، دَمِث الثياب، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تُفتح لهم السُّدد، الذين يُعطُون ما عليهم ولا يُعطَون ما لهم ) رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح، وهو في الترمذي وابن ماجه بنحوه .
السدد هنا هو الأبواب : هكذا شرحها المصنف وهو كذلك.
في هذا الحديث فضيلة أخرى للفقراء المهاجرين وهي أنهم يردون الحوض أكثر ما يردون عليه من سائر الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام يصفُ حوضه في هذا الحديث بالعديد من الأوصاف، فهو أولًا يقول: إن سَعته ما بين عدن اليمن وعُمَان هذه المعروفة اليوم، والحوض مسافته طويلة وطويلة جدًّا، وجاء في بعض الأحاديث أن زواياه متساوية وهذا كناية من الناحية الهندسية أن الحوض مربّع، فإذا كان مربعًا فيكون المسافة طولًا وعرضًا متساوية ما بين عَدن إلى عُمَان.
ومن أوصافه أن أكوابه عدد النجوم، عدد الأكواب الكاسات التي يشرب بها الواردون على حوض الرسول عليه الصلاة والسلام عددَ نجوم السماء، تُرى كم عدد نجوم السماء؟! إن العلماء اليوم يحارون ويقولون بأن عدد النجوم بملايين الملايين (( ولا يُحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )) فالرسول عليه الصلاة والسلام يُشير بهذا ليبين للناس ويقرب إلى أذهانهم إلى أن عدد أكواب الحوض النبوي شيء لا يمكن أن يحصيه إنسان، وهو حين يقول : ( عدد نجوم السماء ) فالبشر حينئذ لا يعرفون شيئًا من كثرة نجوم السماء إلا ما يرونه في السماء الصافية، فما بالنا اليوم وقد اكتشف العلماء بالوسائل التي خلقها الله لهم فنحن نستطيع الآن أن نتوسع في فهم هذا التشريك.
4 - شرح حديث ثوبان رضي الله عنه: ( إن حوضي ما بين عدن إلى عُمَان، أكوابه عدد النجوم، ماؤه أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل ... ) . أستمع حفظ
يجب التزام فهم السلف للنصوص الشرعية من كتاب وسنة.
شرح حديث ثوبان رضي الله عنه : ( إن حوضي ما بين عدن إلى عمان أكوابه كعدد نجوم السماء ... ).
( من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا ): هذه بشارة إلى أن الذي يُقيّض له أن يشرب شَربة من ماء حوض الرسول عليه السلام وهو الكوثر فهذه بشارة أنه لن يظمأ بعدها أبدًا، أي: إنه سيدخل الجنة فيمر على هذا الحوض ويشرب منه فلا يظمأ بعدها أبدًا أبدًا.
وهذا الحوض هو كما قلت الكوثر، وهو المذكور بالقرآن الكريم بهذا الاسم: (( إنا أعطيناك الكوثر ))، والكوثر في اللغة وإن كان معناه الخير الكثير فذلك لا ينافي أن يكون هو هذا النهر الذي يصب على هذا الحوض وهو نهر الكوثر، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فسر الكوثر بهذا، فإما أن يكون والحالة هذه في قوله تعالى: (( إنا أعطيناك الكوثر )) أنه هو الخير الكثير كما هو أصله في اللغة ومنه هذا النهر الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام بأن حصباءَه الدر، وحافته الجواهر الكريمة التي جاءت في الحديث، فهذا النهر إما أن يُجعل تفسيرًا للكوثر، أو أن يقال هذا جزء من الخير الكثير الذي أُعطيه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعل هذا المعنى هو الأليق لغةً والأنسب لمقام الرسول عليه السلام، لأنه فعلًا أُعطي الخير الكثير فمنه الكوثر ومنه هذا الحوض الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات وقال: ( من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا ).
6 - شرح حديث ثوبان رضي الله عنه : ( إن حوضي ما بين عدن إلى عمان أكوابه كعدد نجوم السماء ... ). أستمع حفظ
تتمة شرح حديث ثوبان رضي الله عنه : ( وأول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المنعمات ... )
وبالإضافة إلى ذلك ما ينكحون المنعَّمات يعني: لا يُتاح لهم أن يتزوجوا بالنساء المتنعمات اللاتي عشن على الحياة الطيبة والعيش الرغيد، ولعل الإنسان إذا كان يملك نفسه أن يكون وسطًا بين هؤلاء الفقراء الدمث الثياب لأنهم لا يجدون وبين أولائك الأغنياء الذين يتوسعون في أكل الطيبات وشرب المشروبات واللباس الفاخر، أكون وسط بين هذا وهذا إذا أمكن وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إيَّاي والتنعّم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ) إياي والتنعم أي: والمبالغة في التنعم، ينهى الرسول عليه الصلاة والسلام ويحذر المسلم أن يكون من المبالغين في التنعم، ذلك لأن المسلم قد يتعرض لشيء من البلاء والامتحان بالفقر فإذا كان قد تمرن على شيء من شظف العيش استطاع أن يصبر على الفقر وبالتالي ربما يكون من هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام.
أنهم أول ما يسألون عن الرجل إذا جاء خاطبًا شو أمواله؟ شو عقاراته؟ شو بيوته؟ إلى آخره، وهذا طبعًا ليس من الإسلام في شيء، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلُقه فزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض )، فهؤلاء الفقراء لا ينكحون المنعَّمات أو المتنعِمات لأن الغالب على الناس أنهم لا يُنكحون إلا المتنعّم مثلهم، إلا القليل من عباد الله عزوجل فهؤلاء أقل من الكبريت الأحمر كما كان يقال، فإننا قلَّ ما نجد في الأغنياء من يقبل أن يُزوج ابنته الفقيرَ من الناس ولو كان صالحًا، ولو كان قد صدق فيه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلُقه ) فإن من صفات هؤلاء الفقراء المهاجرين أنهم لا ينكحون المنعمات.
( ولا تُفتح لهم السُّدد ) السدد يعني: لا تفتح لهم الأبواب، يعني: لا يُرحب بهم، لا يُستقبلون كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ( رُبَّ مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
7 - تتمة شرح حديث ثوبان رضي الله عنه : ( وأول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المنعمات ... ) أستمع حفظ
تتمة شرح حديث ثوبان رضي الله عنه : ( ولا تفتح لهم السدد الذين يعطون ما عليهم ولا يعطون ما لهم ... )
يقول عمر: " لكنّي قد نكحتُ المنعمات، فاطمة بنت عبد الملك، وفُتحت لي السُّدد، لا جرم أني لا أغسل رأسي حتى يشعثَ، ولا ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتَّسخ، رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد ".
قول عمر هذا فيه نظر، لأنه فهم من الحديث أن صفة من صفات أولئك الفقراء المهاجرين وهي أن ثيابهم وسخة أن هذا أمر مقصود من هؤلاء الفقراء، ونحن لا نفهم هذا أبدًا، فقد يكون المسلم فقيرًا ولا يجد من الثياب ما يغير لأدنى مناسبة، ولكن إذا كان يستطيع غسل هذه الثياب وتنظيفها فذلك لا ينافي فقره، ونحن كما قلنا آنفًا: فسرنا أن ثيابهم دمثة لا قصدًا منهم وإنما عجزًا منهم عن أن يتمكن أحدهم بأن يغسل ثيابه كلما اتَّسخت، فعمر بن عبد العزيز وهو رجل متزوج وعنده فاطمة زوجته وهي تستطيع أن تغسّل ثيابه وأن تغسله هو وتمشطه أيضًا، فأن يتعمّد أن يلبس الثياب الوسخة وأن يدع شعره لا يسرحه ولا ينظفه فهذا أمر لا نراه مقبولًا شرعًا ولا يدل عليه الحديث السابق، ولكن هكذا بدا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال هذه الكلمة، ومن هنا يصدق كلمة الإمام مالك : " ما منّا مِن أحد إلا ردَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر "، فكون عمر قُيّض له أن يتزوج المنعّمة وهي فاطمة هذا لا ينافي أن يكون من السابقين الأولين من جهات أخرى، فحسبه أنه أعاد إلى المسلمين حكم الخلفاء الراشدين، فتعمد الوساخة والقذارة هذا ليس من الإسلام، بل الإسلام ينهى عن القذارة كما ينهى عن كثير من الإسراف والتنعم كما ذكرنا آنفًا.
8 - تتمة شرح حديث ثوبان رضي الله عنه : ( ولا تفتح لهم السدد الذين يعطون ما عليهم ولا يعطون ما لهم ... ) أستمع حفظ
شرح حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، فقيل: صفهم لنا ؟ قال: الدَّمثة ثيابُهم الشعثة رؤوسهم ... ) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، فقيل: صفهم لنا ؟ قال: الدَّمثة ثيابُهم، الشعثة رؤوسهم، الذين لا يؤذن لهم على السُّدّات، ولا ينكحون المنعمات، توكل بهم مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا ) أي: موكلين عليها، هذا بمعنى ما سبق في قوله في الحديث: ( تسد بهم الثغور ).
( توكل بهم مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، يُعْطون كل الَّذِي عَلَيْهِم وَلَا يُعْطَون كل الَّذِي لَهُم ): هذه الجملة لم نشرحها في الحديث السابق وهي لعلها واضحة: أي هؤلاء من صفاء قلوبهم أنهم إذا كان لهم حق أعطوه لصاحبه وليس العكس، إذا كان لهم حق عند غيرهم لم يُعطَوه، ذلك لأن حقوقهم مهضومة ذلك لفقرهم ومسكنتهم وأنه لا صولة لهم ولا دولة ولا جاه، فالناس عادة يطمعون في أمثال هؤلاء فيهضمون ويأكلون حقوقهم، فمن صفات هؤلاء الفقراء أنهم يُعطون ما عليهم من الحق، ولا يُعطون من الناس حقوقهم.
9 - شرح حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، فقيل: صفهم لنا ؟ قال: الدَّمثة ثيابُهم الشعثة رؤوسهم ... ) . أستمع حفظ
شرح حديث عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا : ( يَجْتَمعُونَ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال: أَيْن فُقَرَاء هَذِه الْأمة قال فيقال لهم ماذا عملتم ؟ ... ) .
وَعَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم قَالَ: ( يَجْتَمعُونَ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال: أَيْن فُقَرَاء هَذِه الْأمة ؟ فَيُقَال لَهُم: مَاذَا عملتم ؟ فَيَقُولُونَ: رَبنَا ابتليتنا فصبرنا، وَوليتَ السُّلْطَان الْأَمْوَال غَيرنَا، فَيَقُول الله جلّ وَعلا: صَدقْتُمْ.
قَالَ: فَيدْخلُونَ الْجنَّة قبل النَّاس وَتبقى شدَّة الْحساب على ذَوي الْأَمْوَال وَالسُّلْطَان، قَالُوا: فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمئِذٍ ؟ قَالَ: توضع لَهُم كراسي من نور، وتظلل عَلَيْهِم الْغَمَائم، يكون ذَلِك الْيَوْم أقصر على الْمُؤمنِينَ من سَاعَة من نَهَار ) .
: في هذا الحديث ما يشير إلى قيد من القيود التي ذكرناها في الدرس الماضي في بيان فضل الفقراء، ولعلكم تذكرون أننا قلنا إن الإسلام لا يحض على الفقر وإنما الغرض من هذه الأحاديث هو كتسلية للمسلمين الذين قد يبتلون بالفقر فعليهم حين ذاك أن يصبروا، فليس الغرض من مدح الفقراء والثناء عليهم الحض على أن يُصبح كل مسلم فقيرًا، وإنما لما كانت الدنيا دار ابتلاء وامتحان فالرسول عليه الصلاة والسلام يذكر في هذه الأحاديث فضائل الفقر والفقراء، لماذا؟ لكي إذا ابتُلي أحدنا بشيء من هذا الفقر أن يصبر، فإذن أجر الفقر والفقراء هو بالنسبة لمن صبر منهم، ففي هذا الحديث إشارة إلى هذا الذي ذكرناه حيث قال: ( فَيُقَال لَهُم: مَاذَا عملتم؟ فَيَقُولُونَ: رَبنَا ابتليتنا ) فإذن الفقر بلاء كما قلنا في الدرس الماضي أيضًا، فلا ينبغي أن يسعى إليه الإنسان، لكن إذا ابتُلي به صبر، ولذلك قلنا في الدرس الماضي أن الرسول عليه السلام استعاذ من الفقر، فاستعاذته من الفقر إشارة إلى أنه بلاء مما يُبتلى به المؤمن فلا ينبغي للمسلم أن يسع إلى البلاء بنفسه بل ذلك مما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الحديث الذي جاء في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " أن النبي عليه الصلاة والسلام مر برجل وهو يدعو في دعائه، وقد أصبح جسدًا لا روح فيه مريضًا، يدعو فيقول: اللهم ما ابتليتني أو ما كنت معاقبي في الآخرة فابتليني أو عجل به في الدنيا، فقال له عليه الصلاة والسلام: ( وهل لك طاقة في عذاب الله عز وجل يوم القيامة ؟! هلّا قلتَ: (( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) ) "، فكما لا يجوز للمسلم أن يسأل الله أن يبلوه في بدنه فكذلك لا يجوز له أن يبلوه في ماله أي: أن يجعله فقيرًا، بل ينبغي أن يستعيذ من الفقر وشرّه، ولكن إذا ابتلي بمرض في بدنه فعليه أن يصبر وهذا لا ينافي تعاطي الدواء، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواءً )، كذلك إن ابتُلي في ماله، إن ابتُلي بأن يقتَّر عليه في رزقه فعليه أن يصبر لعله ينال هذه الفضائل التي جاءت في هذه الأحاديث، فالفقر إذن بلاء والصبر عليه له جزاء وفير عند الله يوم القيامة، وفي هذه الأحاديث بيان شيء من ذلك.
10 - شرح حديث عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا : ( يَجْتَمعُونَ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال: أَيْن فُقَرَاء هَذِه الْأمة قال فيقال لهم ماذا عملتم ؟ ... ) . أستمع حفظ
تتمة شرح حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : ( ... فيقولون: ربنا ابتليتنا فصبرنا، ووليتَ السلطان والأموال غيرنا، فيقول الله جل وعلا: صدقتم ... ) .
( يكون ذلك اليوم أقصر على المسلمين من ساعة من نهار ) يعني يكون الوقوف في المحشر يوم القيامة هو نسبي، فمن كان من المؤمنين الصادقين فهو لا يظن إلا أن وقوفه في المحشر كان ساعة من نهار أو أقل من ذلك.
11 - تتمة شرح حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : ( ... فيقولون: ربنا ابتليتنا فصبرنا، ووليتَ السلطان والأموال غيرنا، فيقول الله جل وعلا: صدقتم ... ) . أستمع حفظ
شرح حديث عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: ( كنت عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم يَوْمًا، وطلعت الشَّمْس فَقَالَ: يَأْتِي قوم يَوْم الْقِيَامَة نورهم كنور الشَّمْس ... ) .
أما الحديث الخامس عشر فهو صحيح، وهو قوله:
وَعَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: ( كنت عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم يَوْمًا، وطلعت الشَّمْس فَقَالَ: يَأْتِي قوم يَوْم الْقِيَامَة نورهم كنور الشَّمْس، قَالَ أَبُو بكر نَحن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لَا، وَلكم خير كثير، وَلَكنهُمْ الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرُونَ الَّذين يُحشرون من أقطار الأَرْض ). فَذكر الحَدِيث، رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَزَاد: ( ثمَّ قَالَ: طُوبَى للغرباء،
قيل: من الغرباء؟ قَالَ: أنَاس صَالِحُونَ قَلِيل فِي نَاس سوء كثير من يعصيهم أَكثر مِمَّن يطيعهم )، وَأحد إسنادي الطَّبَرَانِيّ رُوَاته رُوَاة الصَّحِيح ".
ففي هذا الحديث منقبة أخرى وصفة أخرى من واقع حياة الفقراء المهاجرين الذين يُهاجرون من أقطار الأرض يجتمعون في مكان كما قلنا يتمكنون فيه من القيام بشعائر دينهم، وقد أشار الرسول عليه السلام إلى هذه الجملة بحديث آخر من حديث ابن مسعود وهو : أن الرسول عليه السلام لما قال: ( طُوبى للغرباء، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: هم النزَّاع من القبائل ) هم النزّاع جمع نازع وهو الذي نزع وهاجر من بلده، الغرباء هم النزّاع من القبائل يُهاجرون من أرضهم، أرض آبائهم وأجدادهم إلى أرض يتمكنون فيها من إقامة دينهم، هذا من صفة الغرباء.
ومن صفاتهم أيضًا كما قال عليه الصلاة والسلام في آخر هذا الحديث: ( أنَاس صَالِحُونَ قَلِيل فِي نَاس سوء كثير، من يعصيهم أَكثر مِمَّن يطيعهم ).