تتمة لباب : " باب باب حسن الخلق إذا فقهوا " . شرح حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير إلا أنه كان رجلا يخالط الناس وكان موسرا ... ).
(( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) .
(( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) .
(( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) .
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
بعد انقطاع طال أمده لظروف قاهرة نعود ونستأنف درس * الأدب المفرد * للإمام البخاري .
وقد كان فيما أظن قد انتهى الدرس الأخير إلى الحديث الثالث والتسعين بعد المئتين، فنبتدئ به وهو من الأحاديث الصحيحة التي رواها الإمام البخاري في هذا الكتاب * الأدب المفرد * بالسند الصحيح .
عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان رجلا يخالط الناس وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال الله عز وجل: فنحن أحق بذلك منه تجاوز عنه ).
في هذا الحديث بيان فضل الخلق الحسن إذا تخلّق به المسلم حتى أنه ليكون سببا في تخليص صاحبه من العذاب الذي يستحقه بسبب ما كان قد اقترف وارتكب من الآثام والذنوب، فهذا رجل يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كان فيما قبلنا ) يعني من بني إسرائيل ، ( لم يعمل خيراً قط ) : سوى أنه كان مؤمناً يجب أن نفترض دائما وأبداً في كل حديث نقرأه أو كل خبر نسمعه فيه مثل هذا الفضل البالغ وليس فيه ذكر أن المستحق لهذا الفضل كان مسلماً، يجب أن نفترض في كل حديث نسمعه فيه ذكر فضيلة ما أن المستحق لهذه الفضيلة هو كان مسلماً، فنحن نسمع في هذا الحديث قوله عليه السلام : ( كان رجل ممن قبلكم ) لم يقل كان مسلم فيجب أن نفسّر هذا الرجل بأنه كان مسلماً ولو لم يكن مذكوراً وصفه بالإسلام في الحديث وهذا يؤخذ من قواعد الشريعة، لأن الله يقول في حق كل مشرك : (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )) ويقول الله عز وجل مخاطباً أمة النبي صلى الله عليه وسلم في شخص النبي : (( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين )) فإذا سمعنا مثل هذا الحديث : ( حوسب رجل ممن قبلكم ) ثم سمعنا في آخر الحديث أن الله تجاوز عنه، فيجب فوراً أن نقدّر في بالنا أن هذا الرجل كان مسلماً، ومثل هذا الحديث في صورة خاصة من الضروري جداً أن هذا الرجل كان مسلماً لأنه يقول: ( فلم يوجد له من الخير شيء ) مع أن أكبر الخير هو الإيمان، لذلك جاء في حديث الشفاعة أن الله عز وجل يأمر في آخر الأمر حينما يشفع الرسل والأنبياء والملائكة والصالحون ثم يشفع رب العالمين تبارك وتعالى فيقول في بعض الروايات الصحيحة : ( أخرجوا ) يقول للملائكة ( أخرجوا من الناس من كان فيه ذرة من خير ) والمقصود بهذا الخير هو الإيمان، فإذا قرأنا هذا الحديث: ( حوسب رجل ممن قبلكم ) ثم ختم الحديث بأن الله عز وجل بعد محاسبة هذا الإنسان تجاوز عنه فيجب أن نقدّر ونحط في البال أنه كان مسلماً ، وإلا لو كان مشركاً وكان قد ملأ الدنيا خيراً وفضلاً فذلك لا يفيده شيئاً كما سمعتن في الآية السابقة : (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )).
ويؤكّد هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم في *صحيحه* من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه معنى الحديث : ( أن المؤمن إذا أتى بحسنة جوزي عليها في الدنيا وحوسب بها أيضًا يوم القيامة ) يعني كان له جزاءان خيران الأول: في الدنيا عاجلاً والآخر في الآخرة آجلاً، أما الكافر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما الكافر فمهما عمل من حسنات في الدنيا جوزي عليها فيها في الدنيا حتى إذا جاء يوم القيامة جاء وليس في صحيفته من حسناته شيء ).
الله عز وجل كما قال : (( ولا يظلم ربّك أحداً )) ولكن يحاسب كل شخص بحسب ما قام فيه من إيمان، فالمؤمن يجزى بحسناته في الدنيا والأخرى خيراً ، وأما الكفر فيجزى بحسناته في الدنيا أما في الآخرة فيأتي وليس في صحيفته حسنة ذلك لأنه كفر بالله ورسوله وأشرك بالله عز وجل فحبط عمله وكان في الآخرة من الخاسرين.
أردت من هذا الكلام أن ألفت النظر وأن تتفقّهن في الدين حينما تقرأن حديثاً كهذا : ( كان رجلاً ممن قبلكم ثم تجاوز الله عن آثاره ) يجب أن تحطّوا في البال أنه كان مسلمًا وإلا لو كان مشركا لم يفده عمله الصالح شيئاً .
1 - تتمة لباب : " باب باب حسن الخلق إذا فقهوا " . شرح حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير إلا أنه كان رجلا يخالط الناس وكان موسرا ... ). أستمع حفظ
تتمة شرح حديث : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم ... ) .
قال عليه الصلاة والسلام : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء ) .
في هذا الحديث إشارة إلى أن الحساب في يوم الحساب معناه مناقشة الإنسان فيما قدّم من خير أو شر ، وعرض هذه الحصيلة وهذه النتيجة على الإنسان ليرى كذلك إما أن يكون من أهل الجنة أو يكون من أهل النار، بعد أن حوسب هذا الرجل ولم يوجد في صحيفته كثير شيء إلا الإيمان كما ذكرنا وإلا أنه كان رجلاً يخالط الناس شو معنى كونه يخالط الناس ؟ يعني لا يعتزلهم وإنما هو كما يقول اليوم : " إنسان اجتماعي" لا هو منعزل ، ولا هو منزوي على الناس إنما هو يعاملهم ويخالطهم ، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح يبيّن فيه فضيلة المؤمن الذي يخالط الناس ولكن بالخير وإذا أوذي منهم لم يبغهم وإنما تحمل أذاهم قال عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ) المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ) يعتبرهم إما في بادية أو في زاوية حتى لو في المسجد لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم هذا بلا شك بسبب إيمانه فيه خير، ولكن ذاك الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من هذا المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .
فهذا الرجل الذي كان قبل الأمة المحمّدية وحوسب فلم يوجد في صحيفته شيء من الخير سوى الإيمان كان له يقول الرسول عليه السلام في هذا الحديث : كان له خصلة واحدة ألا وهي أنه كان يخالط الناس ويعاملهم وبسبب هذه المعاملة كان قد اكتسب مالاً حتى صار رجلا ميسراً وصار عنده خدم وعمال فقال عليه الصلاة والسلام : ( وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ) هذا الرجل بسبب هذه المخالطة والمعاملة مع الناس والأخذ والإعطاء والتجارة والربح صار من كبار الأغنياء وصار تاجراً له إما خدم بالأجرة وإما غلمان عبيد كان إسقاط العبيد كانت عادة قديمة حتى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر مشروع لكن له شروطه المعروفة في كتب الحديث وكتب السنة ولست الآن في صدد بيان شيء من هذه الشروط على الأقل المهم أن هذا رجل صار بسبب المخالطة رجلا موسرا غنياً وصار له غلمان خدم يحاسبون الناس، فكان يأمر غلمانه بأنهم إذا حاسبوا رجلاً من زبائنه ألا يؤاخذهم وألا يشتد بالمطالبة عليهم بل يأمرهم بأن يتجاوزوا، وأن يصفحوا: معك توفّي ما عليك من الذّمة فبها ، ما عليك الله يصفح عنك أنا ما بدي منك شيئ.
فالله تبارك وتعالى الذي هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين عامل هذا الإنسان من جنس العمل الذي كان هو نفسه يعامل بني الإنسان، كان هو يتجاوز ويعفوا ويصفح عن العاجز عن الوفاء لما عليه من دين أو ذمة فكان هذا الرجل الغني الموسر يتجاوز ويصفح عنه، فقال الله عز وجل لملائكته يوم حاسبه عز وجل ولم يجد في صحيفته خيراً كما ذكرنا إلا هذا التجاوز عن زبائنه وعن المدينين له ، فقال الله عز وجل لملائكته : ( نحن أحق بذلك منه ) إن كان هو يتجاوز عن عباد لي وهو عبد من عبيدي فأنا أحق بالتجاوز عنه تجاوزوا عنه، فغفر الله عز وجل لهذا الإنسان الموسر وتجاوز عن كل سيئاته ، لماذا؟ لأنه تجاوز عن أصحابه وعن زبائنه الذين لم يستطيعوا أن يبرئوا ذمتهم أمامه ، فالله عز وجل قابل هذا الإنسان بنوع عمله مع أن تجاوز الله ومغفرته تبارك وتعالى لا مثل لها، لأن هذا الإنسان الذي تجاوز إنما هو يتخلّق بجزء ضئيل ضئيل جدا لا يمكن المشابهة بين هذه الصفة ، وبين صفة رب العالمين في المغفرة ، فهو يتخلّق بسء من أخلاق الله عز وجل وهو التجاوز عن المقصر التجاوز عن المخطئ فلما علم الله عز وجل من هذا الإنسان عن الناس الذين كانوا يقصّرون معه فالله عز وجل تجاوز عن تقصيره معه ، وهذا كما قال الله عز وجل في القلرآن الكريم : (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )) بلى رب العالمين يجاوزي بخير مما يستحقه الإنسان لأنه كما قال : (( ذو الفضل العظيم )).
فائدة : بيان قد يتسائل شخص كيف يحاسب ويوم الحساب لم يأت بعد ؟
الجواب على هذا جوابان: أحدهما أن يكون قوله عليه السلام هنا: ( حوسب ) كقوله عز وجل : (( أتى أمر الله فلا تستعجلوه )) (( أتى أمر الله )) يعني قامت الساعة ، (( فلا تستعجلوه )) ترقّبوا الساعة ، يقول علماء البلاغة : " أن هذا معناه الإخبار بلسان الماضي عن أمر لما يقع وسيقع قريباً تحقيقاً لوقوعه " هذا أسلوب في اللغة العربية ، (( أتى أمر الله )) : يعني سيقع كما لو أنه وقع فعلاً وصار في خبر ماضي ، هذا: (( أتى أمر الله )).
كذلك على هذا الميزان قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم ) يعني سيحاسب قريباً وسريعا وسيوجد في صحيفته لا شيء من الحسنات إلا الإيمان إلى آخره فيقول الله عز وجل هو إن نجاوز عن عبادي فأنا أحق بالتجاوز عنه تجاوزوا عنه ، هذا الجواب الأول.
والجواب الآخر : وهو الأظهر والأقرب : أن هذا وقع فعلاً لأن الأصل في كل جملة عربية لا سيما إذا كانت قرآناً أو حديثاً نبوياً أن تفسر على ظاهرها فلا نقول: حوسب بمعنى سيحاسب بخلاف الآية السابقة ، حين قال : (( أتى أمر الله فلا تستعجلوه )) لا بد من تأويل (( أتى )) بمعنى يأتي قريباً ، ليه؟ لأن الله عز وجل أتبع قوله: (( أتى أمر الله )) بقوله: (( فلا تستعجلوه )) فجملة (( فلا تستعجلوه )) معناه أن هذا الأمر لم يأت بعد لكنه سيأتي قريباً فلا تستعجلوا الطلب ... لأنه آتكيم قريباً، القصد أن في الآية جملة تؤكد أن أتى هنا على اعتباره فعلا ماضياً على غير بابه، أي سيأتي لأنه قال (( فلا تستعجلوه )) ، وإلا لو كان أتى بمعنى أتى فعلاً فما معنى (( فلا تسعتجلوه )) ؟ قد يقول : فذوقوه ، فهذه الجملة كانت قرينة تفسير أتى بما سيأتي ، أما هنا ( حوسب رجل ممن كان قبلكم ) فليس هناك قرينة ، لذلك الراجح أن يفسَّر الحديث على ظاهره ، وهذا هو المعنى الثالث : (( حوسب رجل ممن كان قبلكم )) أي فعلاً حوسب ، يعني عجّل له حسابه ، والله عز وجل على كل شيء قدير ، ولا فرق عنده أبداً بين التعجيل بالحساب والتأني به والتأخير إلى يوم الحساب ، كله سواء عنده عز وجل فحاسب هذا الرجل لتظهر فائدة ونتيجة محاسبة الله لبعض عباده مع أنهم كانوا من الجناة والعصاة وإنما عفا الله عنهم لخصلة أو لخلق كان بهم، عجّل الله عز وجل حساب هذا الإنسان لهذه الحكمة أو لغيرها مما قد يفهمه بعض الناس ولا يفهمه البعض الآخر .
فائدة : ضرب أمثلة على التعجيل ببعث الناس بعثاً خاصاً .
الشاهد من هذا الحديث: أنه كحديثنا هذا كل من الرجلين بعثه الله عز وجل وحاسبه قبل يوم الحساب، وهذا كما قلنا لا فرق عند الله بين التعجيل بالحساب أو الإبقاء إلى اليوم الموعود ، ولكل قسمته لأن الله عز وجل حكيم وفعّال لما يريد .
فائدة حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير إلا أنه كان رجلا يخالط الناس وكان موسرا ... ).
5 - فائدة حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير إلا أنه كان رجلا يخالط الناس وكان موسرا ... ). أستمع حفظ
شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق ... ).
عن أبي هريرة: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ) .
هذا الحديث جاء بعد ذاك الحديث لأن هناك رابطة قوية بينهما ، الحديث السابق بين فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بوضوح أن تخلق الرجل المسلم الغني المثري بالخلق الحسن الذي منه التجاوز عن زبائنه المقصرين معه أن الله تجاوز عنه، جاء هذا الحديث ليؤكّد ما جاء في الحديث السابق حينما سئل الرسول عليه السلام عن أكثر ما يدخل الجنة؟ قال: ( تقوى الله، وحسن الخلق ) في هذا الحديث التصريح بذلك المضمون الذي أشرت إليه في الحدث السابق ،رقلنا في الحديث السابق قال رجل ، وقلنا لا بد من تقدير أن هذا الرجل كان مسلماً، أي كان متّقيا لله عز وجل بعيداً عن الإشراك به فصرّح هذا الحديث بما قلناه آنفاً في الحديث السابق حيث قال في الإجابة عن سؤال أكثر ما يُدخل الجنّة ذكر شيئين : الشيء الأول وهو الأهم قال عليه السلام : ( تقوى الله ).
6 - شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق ... ). أستمع حفظ
فائدة : التقوى تنقسم إلى قسمين .
أحدهما أخف من الآخر : ومعنى أخف من الآخر ومعنى أخف من الآخر بمعنى أقل معنى والآخر أكثر وأشمل معنى .
تقوى الله بالمعنى الأقل هو بعد الإيمان به تبارك وتعالى كما جاء في الكتاب والسنة : " العمل بما أمر والانتهاء عن كل ما عنه نهى وزجر " هذا هو التقوى بأقل معنى .
لكن تأتي أحيانا بمعنى واقع جداً بحيث أن التقوى تشمل التحقيق والتطبيق لكل ما جاء في الشرع، سواء كان من الفرائض أو من المستحبات فهو يأتي هذه الأشياء أو كان من المحرمات أو المكروهات فهو يبتعد عن هذه الأشياء ، هذا هو المعنى الأعم والأشمل ، المعنى الأول من التقوى فرض على كل مكلّف ، المعنى الأول من التقوى فرض على كل مكلّف ، لأن معناها الإتيان بما فرض الله والابتعاد عما حرّم الله كما جاء في الحديث الصحيح: ( أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن أنا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وحللت الحلال وحرّمت الحرام أأدخل الجنة ؟ قال : نعم ، إن أنت صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وحللت الحلال وحرّمت الحرام دخلت الجنة ) أي : كل من اقتصر على القيام بما فرض الله والابتعاد عما حرّم الله فحلل ما أحل الله وحرم ما حرّم الله دخل الجنّة.
على حد ذلك الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن المحتمل أن يكون هو هذا في المثال السابق ، ذاك الأعرابي جاء إلى الرسول عليه السلام يسأله عما فرض الله عليه فقال: خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال هل علي غيرهن ؟ قال لا إلا أن تطّوع ، سأله عن الصيام فقال تصوم شهر رمضان قال علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطّوع ، وهكذا يسأله عما فرض الله فيبيّن له ، فيتبعه هل علي غير ذلك فقال لا إلا أن تطّوع يعني تتنفل بما لم يُفرض عليك ، لما انتهى من ذلك قال والله يا رسول الله لا أزيد عليهن ولا أنقص ، قال عليه السلام : ( أفلح الرجل إن صدق دخل الجنّة إن صدق )، أي هذا الذي تعهّد للرسول عليه السلام أنه يأتي بالفرائض لا يزيد عليها لا يتنفل ولا يتطوع ، في الوقت نفسه لا ينقص منها لأنه لو نقص منها يكون معناها عصى ربه، فقال له عليه السلام أو قال في حقه لمن حوله : ( أفلح الرجل إن صدق ، دخل الجنة إن صدق )، هذه التقوى هي في أضيق معانيها التي لا تقوى بعدها وهي تدخل صاحبها الجنة، لكن هناك تقوى أعم من ذلك بحيث تشمل من حيث النواحي الإيجابية أن يأتي بما شرع الله من المستحبات والنوافل وتشمل الابتعاد عما كره الله من الأمور المكروهات ولو أنها لم تكن من الأمور المحرّمات هذه التقوى أوسع وأشمل من ذلك.
بأي أنواع التقوى نفسّر جواب الرسول عليه السلام عن أكثر شيء يدخل الجنة ؟
الظاهر أن المقصود بهذه التقوى هو من النوع الأول ، لأنه لو فسرناه بالنوع الثاني فيشمل كل خير حتى لو كان مستحبا دخل في ذلك حسن الخلق بطبيعة الحال ، فلما قال : ( تقوى الله وحسن الخلق ) أراد تقوى الله بمعناها الأخصر والأضيق ، أي الإتيان بما فرض الله والابتعاد عما حرّم الله هذا أكثر ما يُدخل الجنة زائد حسن الخلق.
فائدة : المعنى الصحيح لحسن الخلق .
" ليس من يقطع طرقاً بطلا *** إنما من يتق الله البطل "
على هذا الأسلوب من تنبيه الناس إلى ضرورة تحسين الخلق وتمرين النفس على الصبر قال عليه السلام للناس خاصة : ( أتردون من الرقوب ؟ ) قالوا أو قلن: الرقوب فينا هي التي لا تلد، فأجابهن بأن الرقوب هي التي تلد ويموت ولدها، وذلك لأنها إذا ولدت ومات ولدها وصبرت على موته كان لها أجرا كبيرا عند الله عز وجل، بعكس المرأة العقيم التي تعيش ولا ولد لها فهي لا تجد الغضاضة ولا تجد الحساسية خاصة في نفسها كما لو رزقت ولدا وربته تلك التربية ثم الله عز وجل قبضه إليه، فهنا يظهر أهمية الصبر والرضى بالقضاء والقدر.
الخلاصة : أن هذا الحديث يبين لنا أن أكثر الأسباب التي تدخل صاحبها الجنة هي أولا التقوى الواجبة ثم حسن الخلق بأوسع أبوابه.
تتمة شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( ... وما أكثر ما يدخل النار ؟ قال: الأجوفان الفم والفرج )
هذا من بيان الرسول عليه السلام وفصاحته حيث قال مقابلا لجواب سؤال أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق : أكثر ما يدخل النار الفم والفرج ، وهذا معنى واضح ، لأن الفم باعتباره أجوف ويتكلم الإنسان عادة كثيراً وكثيراً جداً وكلام الإنسان كله يحاسب عليه إلا ما كان أمراً بمعروف أو نهيا عن منكر، لذلك جاء في الحديث الصحيح: ( من يضمن لي ما بين لحييه -فكّيه- وما بين فخذيه ضمنت له الجنّة ) ففي هذا الحديث حض على أمرين اثنين أحدهما: مما نجّى الله عز وجل من مخالفته كثيراً من المسلمين والمسلمات وهو المحافظة على الفرج، لكن الأمر الآخر وهو الفم فأكثر ما يبتلى به المسلمون هو هذا الأجوف هذا الفم ، لأننا لا نعبأ بكثير مما نقول ، ولا نهتم ولا نفكّر مع أن الإنسان منا قد يتكلم بكلمة شأنها كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفاً ) ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا ) يعني لا يبالي بها يظن أنها كلمة سهلة لا خطورة لها عند الله تبارك وتعالى ، لكن الواقع أنها تهوي بها في النار سبعين خريفا يعني سبعين سنة ، يهوي على أم رأسه في النار في جهنم بسبب أنه تكم بتلك الكلمة لا يلقي لها بالا لا يهتم لها إطلاقاً ، ولذلك كان الرسول عليه السلام جالساً يوما وبجانبه عائشة لما مر شخص أو امرأة قصيرة قصيرة القامة، فما كان من أمنا عائشة إلا أن قالت هكذا ، مثل ما يفعل الناس اليوم : انظروا انظراو ما أقصرها ، هي ما تكلمت وإنما أشارت فقال عليه السلام : ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأفسدته ) يعني: أنتي تعيّري هذه المرأة المسلمة بقصرها وهذا خلق من خلق الله تبارك وتعالى ، فهل أنت تعيبين الخالق أم المخلوق ؟ إن عبتِ المخلوق فما في مخلوق يريد لنفسه العيب ، إن كان مثلاً هناك قِصر ... بعدهم عن ... أنهم يؤاخذون القدر بأنهم يؤاخذون القدر لأنهم لا يتصورون أن الله عز وجل هو الذي قدر هذا القدر ها القدر، عابوا أو سبّوا أو شتموا القدر فإنما يؤاخذون رب القدر ، لذلك فهذا نوع من الكفر إلا إما أن يكون كفراً لفظياً وهذا إثم وفسق، وإما أن يكون كفراً اعتقاديا وهو ردّة عن الدين والعياذ بالله تعالى.
لذلك وعظ الرسول عليه السلام أمته في آخر هذا الحديث حينما أجاب أكثر ما يدخل النار إنما هما الأجوفان الفم والفرج لأنه يجب على المسلم أن بيحافظ على لسانه وأن يتذكر دائما وأبداً نبيه عليه الصلاة والسلام : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) لأنه إن لم يتكلم خيراً فكلامه إما أن يكون عليه يعني يحاسب عليه يوم القيامة أو لا يستفيد منه على الأقل إن كان على الأقل مباحاً ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) يعني يسكت ، لذلك قالوا في الفتن : " إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ".
وبهذا القدر كفاية .
والحمد لله رب العالمين .
وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .
10 - تتمة شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( ... وما أكثر ما يدخل النار ؟ قال: الأجوفان الفم والفرج ) أستمع حفظ
شرح حديث النواس بن سمعان الأنصاري : ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والاثم قال البر حسن الخلق ... ).
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وصل بنا الدرس الماضي من كتاب * الأدب المفرد * للحافظ الإمام البخاري إلى الحديث الخامس والتسعين بعد المئتين وإسناده صحيح.
عن النواس بن سمعان الأنصاري: ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ؟ قال: البر حسن الخلق، والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ).
في هذا الحديث يفسّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم البر والإثم جواباً لمن سأله عن كل منهما، يفسرهما بتفسير خلاف المتبادر والمعروف عند الناس ، لأن البر لغة إنما هو عمل الخير بكل أنواعه وأشكاله ، والإثم نقيض ذلك تماما هو كل ما نهى الله عز وجل عنه فيستحق مرتكبه الإثم والعذاب يوم القيامة ، هذا وذاك هو تعريف البر والإثم ، لكننا نجد الرسول عليه الصلاة والسلام في جوابه عن سؤال السائل عن البر والإثم يأتي بكل منهما بتفسير غير التفسير المعهود ، فيفسّر البر بأنه حسن الخلق ، علما أن حسن الخلق هو جزء من البر ليس كل البر ،البر الذي هو عمل الخير يشمل كلم ما شرعه الله عز وجل في الإسلام مما يدخل في عموم الواجبات وما يدخل في عموم المستحبات هذا كله بر هذا معناه الواسع في اللغة والشرع، لكننا وجدنا الرسول عليه الصلاة والسلام ههنا قد فسر البر بأنه حسن الخلق وهذا أسلوب في اللغة العربية معروف، أن يفسّر الكل بجزء منه.
البر كما ذكرنا كل خصال الخير وكل خصال الطاعة والعبادة ، وإنما الرسول عليه السلام هنا يفسر البر بحسن الخلق وحسن الخلق جزء من خصال الخير التي بها يجمعها لفظة البر ، هذا أسلوب في تفسير اللفظ العام بلفظ أخص منه لإلفات النظر إلى أهمية هذا الجزء بالنسبة لذلك الكل.
من الأمثلة المعروفة في اللغة من لفظ الرسول عليه السلام وغيره مثلاً الحديث المذكور الذي يقول فيه الرسول عليه السلام : ( الحج عرفة ) هل أن الحج عرفة فعلاً؟ بمعنى لو أن رجلا وقف بعرفات فقط ولم يصنع شيئاً من الطواف والسعي ولا البيات في منى ولا في مزدلفة ، هل يكون قد أدّى الحج؟ الجواب: لا الحج له أركان وله شروط وله واجبات، إذن ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( الحج عرفة ) ؟ هنا يظهر تفسير البر بحسن الخلق لقول الرسول عليه السلام : ( الحج عرفة ) الحج منه الوقوف بعرفة، الحج هو طواف وهو سعي بين الصفا والمروة وهو بيات في مزدلفة ووقوف بعرفة ، لما قال الرسول عليه السلام: ( الحج عرفة ) يعني أن هذا أمر هام جدّا ، الوقوف بعرفات أمر هام جدا كما لو أنه الحج كله، فهذا مبالغة في إلفات نظر السامع إلى أهمية الوقوف بعرفة كأن الوقوف بعرفة هو الحج كله لكن الحقيقة أنه من المعلوم شرعا أن الووقف بعرفات هو ركن من أركان الحج وليس هو كل الحج، لكن التعبير العربي جاء هكذا : ( الحج عرفة ) لبيان أهمية الوقوف بعرفة لا لحصر الحج بعرفة فقط.
كذلك مثلاً حينما يقول الرجل العربي : " لا فتى إلا علي ، ولا سيف إلا ذو الفقار " الصحيح لا يوجد هناك فتيان غير علي ؟ هناك في الصحابة كثر من الفتيان الشباب الشجعان الأبطال ، خالد بن الوليد وأسامة بن زيد إلى آخره، فحينما يقول القائل : " لا فتى إلا علي " فهو لا يعني حقيقة بأنه لا يوجد فتيان في الصحابة غير علي رضي الله عنه لكنه يعني أنه هو الفتى الأهم الأشجع الأشد بطولة، وإلا هناك فتيان كثيرون آخرون.
إذا عرفنا هذه النماذج من لغة العرب القديمة، سهل علينا أن نفهم هنا كيف فسر عليه السلام البر بحسن الخلق ، مع أن البر معروف بنص القرآن : (( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة )) وو (( وآتى المال على حبه )) فكيف قال الرسول عليه السلام لمن سأله عن البر ( حسن الخلق ) أي أن هذا من أهم ما جاء في الإسلام وهو حسن الخلق ، وكأن حسن الخلق هو البر كله ، لكن البر هو أوسع معنىً من حسن الخلق ، كما أن الحج أوسع أعمالاً من الوقوف بعرفات لكن الوقوف بعرفات من أهم تلك الأعمال، فحسن الخلق من أهم الخصال ومعاني البر المعروفة في الإسلام، فلا يستشكلن أحد كيف جاء الجواب عن سؤال البر بقوله: ( حسن الخلق ) معناها أين الصلاة وأين الصيام وأين الحج وأين الطاعة ونحو ذلك ؟ الجواب: إنما فسر الرسول عليه السلام حسن الخلق لبيان أهمية حسن الخلق من بين خصال البر كلها .
ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أجاب بهذا السؤال قد لاحظ في السائل شيئاً من سوء الخلق ومن وعورة الطبع فهو يعطي كل إنسان ما يناسبه من الوصف ومن العلاج ، فهو لم يره عليه السلام معرضا عن طاعة الله وعن طاعة رسوله ولكنه ربما وجد فيه شيئاً من سوء الخلق وحدّة الطبع فأراد عليه الصلاة والسلام أن يبين له أهمية حسن الخلق في الإسلام حتى لا يكاد أن يكون حسن الخلق هو البر كله فقال له: ( البر هو حسن الخلق ).
11 - شرح حديث النواس بن سمعان الأنصاري : ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والاثم قال البر حسن الخلق ... ). أستمع حفظ
فائدة : من الأمثلة النبوية على التعبير بالكل في بيان أهمية الجزء.
كذلك مثلاً حينما يقول الرجل العربي : " لا فتى إلا علي ، ولا سيف إلا ذو الفقار " الصحيح لا يوجد هناك فتيان غير علي ؟ هناك في الصحابة كثر من الفتيان الشباب الشجعان الأبطال ، خالد بن الوليد وأسامة بن زيد إلى آخره، فحينما يقول القائل : " لا فتى إلا علي " فهو لا يعني حقيقة بأنه لا يوجد فتيان في الصحابة غير علي رضي الله عنه لكنه يعني أنه هو الفتى الأهم الأشجع الأشد بطولة، وإلا هناك فتيان كثيرون آخرون.
إذا عرفنا هذه النماذج من لغة العرب القديمة، سهل علينا أن نفهم هنا كيف فسر عليه السلام البر بحسن الخلق ، مع أن البر معروف بنص القرآن : (( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة )) وو (( وآتى المال على حبه )) فكيف قال الرسول عليه السلام لمن سأله عن البر ( حسن الخلق ) أي أن هذا من أهم ما جاء في الإسلام وهو حسن الخلق ، وكأن حسن الخلق هو البر كله ، لكن البر هو أوسع معنىً من حسن الخلق ، كما أن الحج أوسع أعمالاً من الوقوف بعرفات لكن الوقوف بعرفات من أهم تلك الأعمال، فحسن الخلق من أهم الخصال ومعاني البر المعروفة في الإسلام، فلا يستشكلن أحد كيف جاء الجواب عن سؤال البر بقوله: ( حسن الخلق ) معناها أين الصلاة وأين الصيام وأين الحج وأين الطاعة ونحو ذلك ؟ الجواب: إنما فسر الرسول عليه السلام حسن الخلق لبيان أهمية حسن الخلق من بين خصال البر كلها .
تتمة شرح حديث النواس بن سمعان الأنصاري : ( ... والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ).
فهل هذا هو الإثم فقط ؟ لا، قال تعالى في وصف عباد الرحمن : (( والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً )) فالإثم هو إتيان كل المعاصي التي حرّمها الله عز وجل والتي يستحق صاحبها العذاب كلّ بحسبه.
فما بالنا نرى الرسول عليه السلام هنا فسر الإثم بما حك في النفس؟ أيضًا لإلفات النظر إلى أهمية هذا النوع مما يحك في النفس لذلك من الإثم العام هو معروف لدى جميع الناس : لا تسرق لا تزني لا تغش لا كذا ما في إنسان ولو كان يعني أجهل الناس بالإسلام وأفسق الناس عملا إلا ويعرف هذه الأمور كلها إثم وأن صاحبها يستحق دخول النار بسببها ، لكن السائل كان بحاجة إلى أن يُعرَّف بنوع آخر من الإثم مما لا يخطر ببال كثير من المسلمين الطيبين فضلا عن غيرهم فقال عليه السلام: ( الإثم ما حك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ).
هذا الحديث في تفسير الإثم هو في الواقع يلتقي مع أنواع أخرى من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام مثلا : حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( إن الحلال بين والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) هذه الأمور المشتبهات هي التي تحك في النفس لا يدري الإنسان هذا من الحلال أم من الحرام، فالمسلم الكامل في دينه وفي خلقه هو الذي يدع ما حك في نفسه مما يشك في كونه مباحاً أو جائزا إسلاما، كذلك يشبه هذا الحديث الحديث الآخر الذي يرويه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) ويصح: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) دع الشيء الذي تشك فيه إلى الشيء الذي لا تشك فيه .
وهذا الحديث الذي يفسر الإثم ها هنا في الواقع يحل أمور كثيرة يتساءل الناس عنها خاصة في العصر الحاضر.
خذن مثلا المعلبات اللحوم المعلّبة الزبدة الجبنة المصنوعة في بلاد الغرب في بلاد الكفر والضلال الذين لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق يكثر التساؤل من الرجال والنساء هل يجوز أكل هذه العلب هذه اللحوم المعلّبة؟ هل يجوز شراء هذه اللحوم التي تأتي مجمّدة قطعة واحدة دابة ذبيحة فهل يجوز أكلها أو لا يجوز؟ يكثر السؤال عن مثل هذه القضايا ، كذلك الزبدة والجبنة فيها شحوم حيوانية.
... والذبيحة فيها شحوم مثلا من لحم الخنزير ولا ما فيها؟ أمور ليس من السهل بالنسبة لكل مكلّف أن يعرف حقائق التركيب الكيميائي لهذه الأمور ولا باستطاعة الإنسان أن يعرف في هذه الذبائح ذبحت ذبحا شرعيا أم قتلت قتلا فيصبح حكمها مثل " الفطيسة " هناك بعض الناس يتمثّلون لمعرفة ذلك ، لكن ليس كل الناس كذلك.
13 - تتمة شرح حديث النواس بن سمعان الأنصاري : ( ... والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ). أستمع حفظ
فائدة : أمثلة عن أمور مشتبهات هل يأكل منها الإنسان وما حكم أكل الزبدة والجبنة واللحوم المعلبة المصنوعة في بلاد الغرب والكفر .
خذن مثلا المعلبات اللحوم المعلّبة الزبدة الجبنة المصنوعة في بلاد الغرب في بلاد الكفر والضلال الذين لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق يكثر التساؤل من الرجال والنساء هل يجوز أكل هذه العلب هذه اللحوم المعلّبة؟ هل يجوز شراء هذه اللحوم التي تأتي مجمّدة قطعة واحدة دابة ذبيحة فهل يجوز أكلها أو لا يجوز؟ يكثر السؤال عن مثل هذه القضايا ، كذلك الزبدة والجبنة فيها شحوم حيوانية.
... والذبيحة فيها شحوم مثلا من لحم الخنزير ولا ما فيها؟ أمور ليس من السهل بالنسبة لكل مكلّف أن يعرف حقائق التركيب الكيميائي لهذه الأمور ولا باستطاعة الإنسان أن يعرف في هذه الذبائح ذبحت ذبحا شرعيا أم قتلت قتلا فيصبح حكمها مثل " الفطيسة " هناك بعض الناس يتمثّلون لمعرفة ذلك ، لكن ليس كل الناس كذلك.
فهل يجوز أكل اللحوم المعلّبة ؟
الجواب التفصيلي من الناحية الفقهية على وجه من ثلاثة وجوه، ولكن هذا التفصيل ليس من السهل كما قلنا آنفاً أن يعرفه كل مكّلف.
التفصيل كما سيأتي: هذه اللحوم المعلّبة أو هذه الحيوانات المجمّدة إن كانت ذبحت ذبحا شرعيا ولم تقتل قتلا إما بالمقتلة أو طعن في الرأس أو في مكان آخر وكانت ذبحت بأيدي أهل الكتاب فأكلها حلال، لأن الله عز وجل يقول : (( وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم )) أي: ذبائحهم ، معنى (( وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم )) أي: ذبائحهم أي ما ذبحوه ذبحا شرعيا، فهذه اللحوم التي عُلّبت إذا كانت ذبحت حيونتها ذبحا شرعيا فأكلها حلال ، وإن كانت قتلت قتلا فأكلها حرام ، وإن كنا لا ندري وهذا واقع جماهير الناس المكلّفين فيأتي هذا الحديث : ( الإثم ما حكّ في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ) أو بالأحرى يأتي الحديث السابق الذي ذكرناه آنفاً : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) اترك المعلّبات ما دام ما عرفت حقيقة أمرها ولا تأخذ منها وكل مثلاً من السردين لحما طريا وهو حلال لا إشكال فيه.
كذلك الزبدة إذا ما عرفنا فيها شحوم حيوانية ... أو فيها شحوم لحم الخنزير، فالأمر يدور على الثلاثة وجوه السابقة ، عرفنا أنها من حليب البقر ليس فيها شيء آخر فأكلها حلال ، عرفنا أن فيها شيء من الشحوم الحيوانية المحرّمة فأكلها حرام ، ما عرفنا لا من هذا ولا من هذا ( فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه، فهذا الحديث هو من هذا الباب ( الإثم ما حكّ في النفس ) يجد الإنسان تساؤلا هذه فيها ما فيها، إذن ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ).
14 - فائدة : أمثلة عن أمور مشتبهات هل يأكل منها الإنسان وما حكم أكل الزبدة والجبنة واللحوم المعلبة المصنوعة في بلاد الغرب والكفر . أستمع حفظ
فائدة : تنبيه على المسائل التي تحمل على حديث وهي غير مقصودة من حديث النواس بن سمعان الأنصاري : ( ... والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ).
15 - فائدة : تنبيه على المسائل التي تحمل على حديث وهي غير مقصودة من حديث النواس بن سمعان الأنصاري : ( ... والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ). أستمع حفظ
إذا وثقنا بما كتبه أهل الكتاب على معلّبات اللحوم أنها ذبحت بالطرق الشرعية هل نأكلها ؟
السائلة : ...
الشيخ : هذا البحث أختي ما بيخرج عما سبق لأن أنتي تقولي يكذبوا ومن أين أتت هذه الثقة بالكفار نحن لا نحاسب الناس أنتي عندك قناعة أن هؤلاء لا يكذبون أو واثقة من الزبدة لأنهم كتبوا عليها أنها خالية من الكحول مثلا ومن الحليب الصافي لكن ليس كل الناس يثقون أن الأوربيين لا يكذبون لا سيما...
السائلة : ...
الشيخ : ما اختلفنا هذا من حيث الكتاب أخت هذا من حيث الكتابة إن وثق بهذه الكتابة وعمل بها ونفسه لا تحكه لا تقل له يا ترى هم صادقون أم كاذبون ؟ لا شيء عليه لكن هناك ناس من الأوروبيين يكذبون أكثر من ... كل ما في الأمر أن هؤلاء جماعة تجار ماديين يعرفون كما يقال عربيةً : " كيف تؤكل الكتف" ، فهم يعرفون أنهم إذا غشّوا بضاعتهم فهذا الغش سوف ينتشر تباعاً، ولذلك يكذبوا لأجل ترويج بضائعهم، لكن هل هم معصومين من الكذب؟ هم كذابون بل أكذب من كذّابين يعني لكن هم يراعون مصلحتهم، أما قضية لا يكذبون فأنتي تقولين الآن أنه بالنسبة للحوم لا يوجد شك أنها ... أنتي تقولين أن هذه الكتابات التي تقول أنها ذبحت على هذه الطريقة،
السائلة : ...
الشيخ : طيب من الذي رآهم ومن الذي أشرف على ذبحهم ؟
هذا الحديث يجنّبنا مشاكل ما حك في النفس فابتعد عنه ما تبين لك الصواب سواء كان حراما فاجتنبه أو كان حلالا فأته إن شئت ، هذا هو الكلام الفصل في موضوع هذه القضية.
16 - إذا وثقنا بما كتبه أهل الكتاب على معلّبات اللحوم أنها ذبحت بالطرق الشرعية هل نأكلها ؟ أستمع حفظ
باب : " باب البخل " . شرح حديث جابر رضي الله عنه : ( من سيدكم يا بنى سلمة قلنا جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوى من البخل ... )
وهو قوله : " باب البخل" .
يروي أيضًا بإسناده الصحيح .
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سيدكم يا بني سلمة ؟ ) .
قبيلة من قبائل العرب بنو سلمة ، سأل أهل هذه القبيلة أو بعضها : من سيدكم من رئيسكم من أعلاكم.
قلنا: " جُدّ بن قيس " اسم عربي جُدّ قالوا هذا هو رئيسنا جد بن قيس لكن الجماعة عرب ومسلمون ويصدقون فيما إذا تكلّموا فبعد أن ذكروا ان رئيسهم فلان أتبعوا ذلك بقولهم: " على أنّا نُبَخِّله " ذكروا فيه عيباً " على أنّا نُبَخِّله " : يعني نجده بخيلاً مع أنه رئيسنا، والمفروض في الرئيس أن يكون كريم وأن يكون سخي لكنه على عكس ذلك " على أنّا نُبَخِّله " فرد عليهم الرسول بقوله : ( وأي داء أدوى ) أصله : " أدوء " ( وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح ).
في هذا الحديث في الواقع فوائد من أهمها: أن ذكر بني سلمة للرسول عليه السلام في غيبة جُد بن قيس رئيسهم أنه بخل هنا فائدة فقهية وهو أنه يجوز استغابة الرجل إذا ترتّب من وراء ذلك مصلحة شرعية ، هذه غيبة قول أهل بني سلمة للرسول عليه السلام لما سألهم عن رئيسهم وسيدهم فلان على أنا نبخّله أي وصفهم إياه بالبخل هذه غيبة لأنكم تعرفون كلكم أن الغيبة.
-اشربي بيدك اليمنى ، ولا تشربي باليسرى علموا أولادكن على الآداب الإسلامية-
فقول القائل نبّخله يعني نجده بخيلا هذه غيبة ، لأن الغيبة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) وكل منا إذا ذكر بما فيه من الخلق السيء فهو غيبة بلا شك، إذا أنا قلت: زيد من الناس بخيل هذا يكرهه ولو أنه يعرف من نفسه أنه بخيل، إذا قلت: فلان غضوب وهو فعلا غضوب ، ولكن هذا شيء يكرهه وعلى ذلك فقس ، كله غيبة ، لأن الرسول عليه السلام يقول: ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) فقال السائل كان يتوهّم السائل أن ذكر الإنسان بما فيه لا حرج فيه ، فلما ذكر الرسول عليه السلام أنه فيه كل الحرج قال : فإذا لم ما ذكرته فيه لم يكن فيه ؟ قال : ( فقد بهته ) بهتاناً هذا إثمه أكبر وأكبر.
إذن : إذا كانت الغيبة ذكرك أخاك بما يكره فكيف وصف أهل بني سلمة رأيسهم وسيدهم بحضرة الرسول عليه السلام بأنه بخيل وأقرّهم الرسول عليه السلام على ذلك ولم يقل لهم : ماذا تفعلون لماذا تستغيبوه ؟ كما يفعل بعض المتورّعين بل بعض المتنطّعين ، حينما تأتي مناسبة بوصف رجل ما بخلق سيء فيه تحذيراً للناس بيقوم واحد متورّع أو متنطّع يقول : يا أخي لا نريد أن نستغيب الناس.
فيجب أن نعرف تفصيل القول في الغيبة ، وهذا الحديث يعطينا مثال من أمثلة هذا التفصيل.
الأصل أن الغيبة محرّمة وضابطها : أن المستغيب ليس له مصلحة دينية حينما يستغيب المستغاب، وإنما هو تفشيش خلق أو من باب التسلية أو لت كلام أو غير ذلك ، هذا كله غيب محرّمة ، أما إذا كانت الاستغابة لا يقصد بها الترويح عن النفس بذلك، وإنما يراد بها مصلحة إسلامية هذه تكون غيبة جائزة ، وهذه طبعا تتنوع بصور شتى ، وقد جمعها بعض العلماء في بيت شعر قالوا:
" القدح ليس بغيبة في ستّة *** متظلم ومعرّف ومحذّر
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكر "
ست أشياء يدخل في كل خصلة من هذه الخصال فروع كثيرة جداً لكن جماع هذه الست خصال مما أبيحت واستثنيت من الغيبة المحرمة ، فقال العالم الشاعر:
" القدح ليس بغيبة في ستّة "
أولها: " متظلم " : متظلم أي مظلوم ، المظلوم له الحق أن يقول فلان ظلمني لماذا ؟ لأنه فعل كل الوسائل الممكنة ليصل إلى حقه من ذلك الظالم فلم يفلح ولم ينجح ، ما بقي إلا أن يشهّره بالناس لعله يتحسس قليلاً فيقدّم الحق بهذا المظلوم ، ولذلك قد صرح الرسول صلوت الله وسلامه عليه لهذا الحكم ولهذا الجواز فقال: ( ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته ).
( ليّ الواجد ) الّي المماطلة ، كما في الحديث الآخر: ( مطل الغني ظلم ) والواجد هو الغني ، ( لي الواجد ) أي مماطلة الواجد أي الغني الذي يجد ما يفي عنه الحق يعتبره الشارع الحكيم ظلماً فقال عليه السلام في الحديث السابق: ( لي الواجد يحل عرضه وعوبته ) يحل عرضه المقصود يحل النيل منه والطعن فيه لكن لا يقال مثلاً فلان كذّاب إذا كان يعرفه صادقاً ، فيتكلم بأمانة يطعن في عرضه بخصوص ما يعتني به على هذا المظلوم ، فقط هذا هو معنى ( لي الواجد يحل عرضه ) ( وعقوبته ) من يعاقبه؟ الحاكم المسلم الحاكم المسلم يحق له أن يستدعي الظالم الذي يمتنع عن أداء الحق الذي له على هذا المظلوم ، فيعاقبه يجلده خمسة عشرة حسب ما يرى تأديبه حتى لا يعود مرّة أخرى إلى الاعتداء على حقوق الناس، فهذا الحديث صريح في إباحة استغابة الظالم لي الواجد يحل عرضه : يعني الطعن فيه وعقوبته من الظالم فأول خصلة مما يستثنى من الغيبة المحرّمة هو المظلوم.
متظلّم : يعني يشكو مظلمته عند الناس يقول : فلان ظلمني ، وهذا الحكم ليس فقط في الحديث بل وفي القرآن الكريم حيث قال الله تبارك وتعالى : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم )) من ظُلم يجوز له أن يجهر بالكلام السيء بالنسبة لمن ظلمه، هذا أول نوع يستثنى من الغبيبة المحرّمة ، متظلّم.
" ومعرّف " : هذا مثال بين أيدينا الآن من الأمثلة الكثيرة الرسول عليه السلام سأل بعض الصاحبة من بني سلمة : ( من سيّدكم ؟ ) قالوا : " جُدّ بن قيس " هو يسألهم ليتعرّف فهم أجابوه تعريفاُ له عليه السلام فقالوا : " على أنا نبخّله ".
وأوضح من هذا المثال : لما جاءت أمرأة وقد خطبها رجلان جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله فلان وفلان خطباني ، هي قالت أبو جهم بالميم ، وليس أبو جهل باللام ، أبو جهم من الصحابة ومعاوية بن أبي سفيان ، كل منهما خطبني ، فكأنها تقول : أنا محتارة أوافق على هذا أو على هذا وكأنها تقول : انصحني يا رسول الله أوافق على هذا أو على هذا ؟ الرسول عليه السلام لم يقل لها لا خذي هذا ولا خذي هذا لأن المسألة حساسة النساء مقاصدهم وغاياتهم مختلفة، فما كان من الرسول عليه السلام غير أن يصف كلا من الخاطبَين للمرأة المخطوبة من كل منهما لذلك قال عليه السلام : ( أما أبو جهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه ، وأما معاوية فرجل صعلوك ) فنجد هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عيب كلا الخاطبين لتلك المرأة حتى تكون على بصيرة.
17 - باب : " باب البخل " . شرح حديث جابر رضي الله عنه : ( من سيدكم يا بنى سلمة قلنا جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوى من البخل ... ) أستمع حفظ
فائدة : بيان تفصيل في مسألة الغيبة , وذكر الأنواع المستثناة من الغيبة المحرّمة .
الأصل أن الغيبة محرّمة وضابطها : أن المستغيب ليس له مصلحة دينية حينما يستغيب المستغاب، وإنما هو تفشيش خلق أو من باب التسلية أو لت كلام أو غير ذلك ، هذا كله غيب محرّمة ، أما إذا كانت الاستغابة لا يقصد بها الترويح عن النفس بذلك، وإنما يراد بها مصلحة إسلامية هذه تكون غيبة جائزة ، وهذه طبعا تتنوع بصور شتى ، وقد جمعها بعض العلماء في بيت شعر قالوا:
" القدح ليس بغيبة في ستّة *** متظلم ومعرّف ومحذّر
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكر "
ست أشياء يدخل في كل خصلة من هذه الخصال فروع كثيرة جداً لكن جماع هذه الست خصال مما أبيحت واستثنيت من الغيبة المحرمة ، فقال العالم الشاعر:
" القدح ليس بغيبة في ستّة "
أولها: " متظلم " : متظلم أي مظلوم ، المظلوم له الحق أن يقول فلان ظلمني لماذا ؟ لأنه فعل كل الوسائل الممكنة ليصل إلى حقه من ذلك الظالم فلم يفلح ولم ينجح ، ما بقي إلا أن يشهّره بالناس لعله يتحسس قليلاً فيقدّم الحق بهذا المظلوم ، ولذلك قد صرح الرسول صلوت الله وسلامه عليه لهذا الحكم ولهذا الجواز فقال: ( ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته ).
( ليّ الواجد ) الّي المماطلة ، كما في الحديث الآخر: ( مطل الغني ظلم ) والواجد هو الغني ، ( لي الواجد ) أي مماطلة الواجد أي الغني الذي يجد ما يفي عنه الحق يعتبره الشارع الحكيم ظلماً فقال عليه السلام في الحديث السابق: ( لي الواجد يحل عرضه وعوبته ) يحل عرضه المقصود يحل النيل منه والطعن فيه لكن لا يقال مثلاً فلان كذّاب إذا كان يعرفه صادقاً ، فيتكلم بأمانة يطعن في عرضه بخصوص ما يعتني به على هذا المظلوم ، فقط هذا هو معنى ( لي الواجد يحل عرضه ) ( وعقوبته ) من يعاقبه؟ الحاكم المسلم الحاكم المسلم يحق له أن يستدعي الظالم الذي يمتنع عن أداء الحق الذي له على هذا المظلوم ، فيعاقبه يجلده خمسة عشرة حسب ما يرى تأديبه حتى لا يعود مرّة أخرى إلى الاعتداء على حقوق الناس، فهذا الحديث صريح في إباحة استغابة الظالم لي الواجد يحل عرضه : يعني الطعن فيه وعقوبته من الظالم فأول خصلة مما يستثنى من الغيبة المحرّمة هو المظلوم.
متظلّم : يعني يشكو مظلمته عند الناس يقول : فلان ظلمني ، وهذا الحكم ليس فقط في الحديث بل وفي القرآن الكريم حيث قال الله تبارك وتعالى : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم )) من ظُلم يجوز له أن يجهر بالكلام السيء بالنسبة لمن ظلمه، هذا أول نوع يستثنى من الغبيبة المحرّمة ، متظلّم.
" ومعرّف " : هذا مثال بين أيدينا الآن من الأمثلة الكثيرة الرسول عليه السلام سأل بعض الصاحبة من بني سلمة : ( من سيّدكم ؟ ) قالوا : " جُدّ بن قيس " هو يسألهم ليتعرّف فهم أجابوه تعريفاُ له عليه السلام فقالوا : " على أنا نبخّله ".
وأوضح من هذا المثال : لما جاءت أمرأة وقد خطبها رجلان جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله فلان وفلان خطباني ، هي قالت أبو جهم بالميم ، وليس أبو جهل باللام ، أبو جهم من الصحابة ومعاوية بن أبي سفيان ، كل منهما خطبني ، فكأنها تقول : أنا محتارة أوافق على هذا أو على هذا وكأنها تقول : انصحني يا رسول الله أوافق على هذا أو على هذا ؟ الرسول عليه السلام لم يقل لها لا خذي هذا ولا خذي هذا لأن المسألة حساسة النساء مقاصدهم وغاياتهم مختلفة، فما كان من الرسول عليه السلام غير أن يصف كلا من الخاطبَين للمرأة المخطوبة من كل منهما لذلك قال عليه السلام : ( أما أبو جهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه ، وأما معاوية فرجل صعلوك ) فنجد هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عيب كلا الخاطبين لتلك المرأة حتى تكون على بصيرة.
وقد ذكر العلماء في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام في أبي جهم وقوله فيه: ( أنه رجل لا يضع العصا عن عاتقه ) بأن معناه أحد شيئين : إما انه كناية على أنه معروف بظلمه للنساء وضربه لهن لأنه لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن أنه ميتعد لضرب المرأة لأقل خطيئة ، أو تكاسل أو تهاون ما شابه ذلك، بمعنى آخر أنه قيل : لا يضع العصا عن عاتقه أنه كثير الأسفار لأن العرب كانوا يضعون العصا ويضعون المزودة على طرف العصا ويمشي في البراري ، لكن المعنى الأول هو الأصح الذي قاله العلماء.
أما معاوية رجل صعلوك فمعناه رجل فقير، فنحن إذا تأملنا في هذين الوصفين لوجدنا أن كلاً من الرجلين لا يرضى أن يُذكر من الرسول عليه السلام خاصة برذيلة، فأبو جهم لا يريد أن ينفضح أمام النساء لا سيما أمام خطيبته بأنه رجل ضرّاب للنساء، ومعاوية كمان هو بدوره لا يناسبه أن يقال ويعرف النساء بأنه رجل صعلوك فقير لا جاه له ، ولا قيمة له في المجتمع هذا غيبة وهذا غيبة، ولكن مصلحة النصح كما قال عليه السلام في بيان حق المسلم على المسلم: ( وإذا استنصحك فانصحه ).
فالواحد إذا سأل جاره أو صدقه شو رأيك في فلان؟ خير إن شاء الله ، أريد أن أشاركه ، وهو يعرف أنه خائن وغشاش وأنه كذا وكذا لازم يذكر ما فيه لأن الدين النصيحة ، لا يقول هذا غيبة ؟ لا هذه ليست من الغيبة المحرّمة يا أبا فلان ما رأيك في فلان ؟ خير إن شاء الله ، والله خاطب من عندنا أيضًا يجب أن تبيّن عيوبه حتى إذا صار اتفاق على الخطبة يكونوا على بينة من الأمر لا أن يقول الناس والله هذه غيبة محرمة ، هذا الوصف والتعريف ولوتضمن غيبة فليس حراماً.
" القدح ليس بغيبة في ستة *** متظلّم ومعرّف ومحذّر ".
الخصلة الثالثة : أنا شايف فلان يعاشر فلان ، يقول له : إياك أن تماشي فلان ، ليه إن شاء الله ؟ هذا أخلاقه كذا وكذا، استغيبه ليه؟ لأن هذا المقصود به التحذير الشاب الصالح يحذّره من أن يخالط الشاب الفاسد، الشاب ذو الخلق الحسن ينهى أن يصاحب الشاب ذو الخلق السيء، ليه؟ لأن طبيعة الناس أنها تنعدي مثل الفواكه الجميلة إذا وضعت بجانب الفاكهة الفاسدة أفسدتها وسرت إليها العدوى، سنة الله في خلقه (( ولن تجد لسنة الله تبديلاً )) ومن أجل ذلك حذّر الرسول عليه السلام من رفقة السوء فقال: ( مثل الجليس الصالح كمثل بائع المسك إما أن يحذيك -يعني يعطيك بالمجان- وإما أن تشتري منه وإما أن تشم منه رائحة طيبة ) فجليس الرجل الصالح على كل حال كسبان مثله كمثل أن يجالس العطار إما أن يعطيه مجاناً وإما أن يشتري منه بمصاري وإما على الأقل أن يشتم الرائحة الطيبة.
أما مثل الجليس السوء فهو قال عليه السلام في تمام الحديث : ( كمثل الحداد إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشتم منه رائحة كريهة ) هذا وذاك مثل الجليس الصالح والجليس السوء ، فإذا رأينا إنساناً صالحاً يخالط إنساناً طالحاً فنحن نحذّره ونقول له لا تمشي معه يفعل كذا يقول كذا ويعتقد كذا إلخ ، أو نقول نحن لا نريد أن نستغيب الناس ؟ هذه ليست غيبة مكروهة بل هذه غيبة واجبة مو بس جائزة ، هذا التحذير إياك أن تمشي مع فلان لأن صفته كذا وكذا هذا واجب ، إذن صار معنا إلى الآن ست خصال :
" متظلّم ومعرّف ومحذّر ".
الخصلة الرابعة: " ومجاهر فسقاً " : ومجاهر فسقاً واحد يشرب خمراً علنا لا هو يخشى الله ولا هو يستحي من عباد الله هذا هو الفاسق المجاهر بفسقه هذا يُستغاب، يقال هذا إنسان يشرب الخمر ولا يستحي من الناس إطلاقا هذا داخل في النص العام : ( ذكرك أخاك بما يكره ) ؟ من حيث المعنى داخل لكن من حيث الأدلة المخصصة استثننى هذا النوع من هذا النص العام هذا هو الفاسق المعلن لفسقه وفجوره ، فلان فتح مثلاً " بار " فاتح محل خمور هذا ليس من الغيبة المحرمة أبداً هذا مستثنى من الغيبة المحرمة.
النوع الخامس بعد أن قال: " ومجاهر فسقاً " .
قال : " ومستفتٍ " هذا القسم الخامس من الغيبة المستثناة من التحريم ، ومستفتٍ ، المستفتي له أمثلة ووقائع وأنواع كثيرة جداً، يأتي الرجل إلى العالم فيقول زوجتي تفعل كذا وكذا وكذا إيش الحكم ؟، أو المرأة تأتي إلى العالم وتقول زوجي يفعل كذا وكذا ، وكل منهما يصف الآخر بوصف الغيبة هذا جائز أم حرام ؟ هذا جائز ، هذا مستثنى من الغيبة المحرّمة ، والدليل على ذلك قصة هند لما جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت : ( يا رسول الله إن زوجي رجل شحيح ) انظر شلون تبخّلبه ، رجل شحيح اي بخيل ، يعني ليس بقائم في واجب أولاده وزوجته ( أفيجوز لي أن آخذ من ماله ما يكفيني أنا وأولادي؟ فقال عليه السلام : خذي من ماله ). .