باب : " باب إذا لم يتكلم الكبير هل للأصغر أن يتكلم " . شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها لا تحث ورقها ؟ ... )
الآن يبوب المصنف -رحمه الله- بابا جديدا فيقول :
" باب إذا لم يتكلم الكبير هل للأصغر أن يتكلم " .
ذكرنا في الدرس الماضي أن الباب السابق والحديث الذي تحته يدلنا على أدب من آداب المجالس وهو أنه لا ينبغي للصغير عِلمًا وسِنًّا أن يتقدم بين يدي الكبير سنًّا وعِلمًا.
الآن من دقة الإمام البخاري رحمه الله أنه يأتي بفقه جديد تحت هذا الباب فيقول: " إذا لم يتكلم الكبير هل للأصغر أن يتكلم "
الجواب يُفهم من الحديث الآتي وهو الإيجاب كما قد تبين لنا .
والحديث الذي ذكره تحت هذا الباب إسناده صحيح يرويه .
عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها لا تحث ورقها ؟ فوقع في نفسي النخلة فكرهت أن أتكلم ، وثَمَ أبوبكر وعمر -رضي الله عنهما- فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هي النخلة ، فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتي وقع في نفسي النخلة ، قال : ما منعك أن تقولها ؟! لو كنت قلتها كان أحب إليّ من كذا وكذا ، قال : ما منعني إلا لم أرك ولا أبابكر تكلمتما فكرهت ) . انتهى الحديث.
نعود إلى شيء من التعليق على الحديث :
في مجلس أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه أن يختبر أصحابه وأن يمتحن أفهامَهم فوجَّه إليهم السؤال الآتي: ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ) :
شو معنى مثل المسلم :
يعني إنها دائمًا تنفع الناس، ذلك طبيعة الرجل المسلم أنه نافع للناس دائمًا وأبدًا ، وقد خصّ الرسول عليه السلام الشجرة التي مثّلها بالمسلم بقوله عليه السلام : ( تؤتي أُكُلها كلّ حين بإذن ربها ) وهذه قطعة من القرآن الكريم : (( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كلَّ حين بإذن ربها )) :
والحين في لغة العرب -هذه اللفظة- تطلق ويراد بها أوقات متفاوتة ما بين اللحظة وما بين السنين الطويلة، فهنا في هذه الجملة التي اقتبسها الرسول عليه السلام في هذا الحديث من الآية السابقة الذكر (( تُؤتِي أُكلها كل حين بإذن ربها )) فالحين هنا المقصود بها السنة ، على عكس مثلاً : (( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً )) فهناك المقصود به زمن طويل يقال إنه أربعون سنة.
الشاهد إن من صفة هذه الشجرة التي ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المثل لها بالمسلم فوصفها أنها تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها أي: كل سنة وهو من صفاتها:
( لا تحث ورقها ) أي : لا يتساقط ، يظل ثابتاً على أغصانها وعلى أعضائها لا يتساقط شأن أكثر الأشجار وإنما يظل كما هو أخضر هذا هو السؤال ، كان يطلب الرسول عليه الصلاة والسلام من الصحابة أن يخبروه عن شجرة مثلها مثل المسلم فهي تنفع الناس دائمًا وأبدًا لأن شجرة النخل صحيح أنها تحمل في السنة مرة ولكن يظل هذا الثمر طعاماً مُدخرًا لأصحابه إلى العام القادم الذي تكون الشجرة قد أثمرت من جديد وهكذا ، فهي تنفع الناس وتُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، هذه صفة بارزة في شجرة النخل فأضاف الرسول عليه السلام إلى هذه الصفة صفة أخرى مثلها في البروز ألا وهي الخضار وبقاء الشجر على الأم وعلى الأصل ، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تحث ورقها ) .
لما سأل الرسول عليه السلام هذا السؤال أصحابه الكرام أُلقي في نفس عبد الله بن عمر بن الخطاب أنها النخلة، عبد الله بن عمر بن الخطاب، فعمر بن الخطاب من كبار الصحابة الذين أسلموا قديماً وابنه صغير السن بطبيعة الحال كان حاضراً في المجلس حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا السؤال فهو كان عنده حكمة ، عبدالله بن عمر كان عنده حكمة وعنده كياسة وعنده علم وعنده أخيرًا أدب العلم ، وأدب العلماء ومجالس العلماء، أُلقي في نفسه إنها الشجرة التي من صفتها أنها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها والتي من صفتها أنها لا يسقط ورقها من تكون هذه إلا النخلة ، لكن ضبط أعصابه.
1 - باب : " باب إذا لم يتكلم الكبير هل للأصغر أن يتكلم " . شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها لا تحث ورقها ؟ ... ) أستمع حفظ
تتمة حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( ... ورقها فوقع في نفسي النخلة فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلما لم يتكلما ... )، ونصيحة للشباب المسلم بأن عليهم التأدب بآداب المجالس، بتقديم الكبار وأهل الفضل بالكلام.
يقول : ( وثمّ أبوبكر وعمر بن الخطاب ) هناك في المجلس أبوبكر أفضل صحابة الرسول عليه السلام من جهة وهناك أبوه وهو أفضل منه علمًا وسِنًا فكيف يتكلم؟ !
قال ابن عمر : ( فلما لم يتكلما أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السؤال الذي طرحه على الصحابة بقوله : هي النخلة ) .
قال ابن عمر : ( فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتي وقع في نفسي النخلة ) : بعد ما انفض المجلس أفضى عبدالله بن عمر بما كان ألقي في نفسه أنها النخلة، هنا أصابَ أباه شيء من الحزن والأسى والانقباض ذلك ما يعبر عنه قول عمر: ( ما منعك أن تقولها ؟! لو كنت قلتها كان أحب إليّ من كذا وكذا ) : يعني مما الناس يحبونه من المال والجاه و و إلى آخره لأنه يظهر والحالة هذه أن ابن عمر الصغير السن يظهر أمام الصحابة بأنه كبير العقل لو أنه صرّح بأنها النخلة ، ولكن قد أكّد ابن عمر السبب الذي منعه من أن يتحدث بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليه حيث فهم كلام الرسول عليه السلام الذي لم يفهمه الصحابة الكبار فقال متأدبًا ومعتذرًا بأنواع التأديب : ( ما منعني إلا لم أرك ولا أبابكر تكلمتما فكرهت ) : لما شفتك أنت وأبوبكر الصديق سكتوا ما حكيتوا فأنا بدي أسكت ما بدي أحكي من باب أولى.
2 - تتمة حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( ... ورقها فوقع في نفسي النخلة فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلما لم يتكلما ... )، ونصيحة للشباب المسلم بأن عليهم التأدب بآداب المجالس، بتقديم الكبار وأهل الفضل بالكلام. أستمع حفظ
فوائد حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها لا تحث ورقها ؟ ... ) ، وفيه بيان متى يتكلم الصغير إذا كان في القوم الكبار وأهل الفضل.
" باب إذا لم يتكلم الكبير هل للأصغر أن يتكلم " : هكذا فقه البخاري يترجم عن الحديث بباب يتساءل فيه هل له أن يتكلم ، ما بيعطيك الجواب لأنه يريد لطالب العلم أن يأخذ الجواب هو بنفسه من دراسته وتفقهه في الحديث الذي أورده تحت الباب ، فالآن ماذا نفهم من هذا التساؤل هل للصغير أن يتكلم إذا لم يتكلم الكبير وقد أورد المصنف تحت هذا الباب هذا الحديث الصحيح ؟!
قد يتبادر في أذهان بعض الناس القارئين لهذا الحديث إنه الجواب لا، لأن ابن عمر ما تكلم ، لكن الصحيح إنه الجواب : له أن يتكلم ، ذلك لأن الرسول عليه السلام لما وجه الخطاب بقوله : ( أخبروني عن شجرة مثلها ) كذا وكذا ما خصّ أبا بكر ولا عمر ولا غيرهما من كبار الصحابة ، وإنما وجه خطابًا عامًّا ، فلما لم يبادر إلى الإجابة عن هذا السؤال كبار الصحابة حينئذ يأتي دور صغارهم أمثال عبدالله بن عمر فلا مانع هناك بعد ذاك أن يبادر إلى الجواب عن هذا السؤال، فهذا مثله تمامًا كمثل معلم الدرس أو أستاذ الدرس أو شيخ الدرس أو ما شابه ذلك يوجه سؤالًا إلى الحاضرين جميعًا: ماذا تقولون في كذا وكذا يجوز أو لا يجوز! فالسؤال موجه للجميع لو كان موجهاً إلى كبار القوم فهناك يأتي الأدب الذي التزم به عبدالله بن عمر، لا بأس عبدالله بن عمر التزم لكن إلى متى ما دام وجد أبابكر وعمر سكتا فكان عليه أن يفضي بما أنعم الله عليه من الفقه لكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن يقول : هي النخلة يا رسول الله ، فنحن نأخذ أن تساؤل البخاري في هذا الباب هل له أن يتكلم الصغير إذا سكت الكبير نأخذ الجواب من هذا الحديث بالإيجاب وليس بالسلب من ناحيتين :
الناحية الأولى: ما شرحناه آنفاً أن السؤال كان موجهاً للجميع فلما لم يتكلم الكبير فعلى الصغير أن يتكلم.
والناحية الأخرى: أن أحد الكبراء وهو عمر بن الخطاب والد عبدالله هو نفسه قال : ( لو تكلمت لكان أحب إليّ من كذا وكذا ) فلو كان ليس من أدب المجلس أن يتكلم الصغير حينما يصمت الكبير ما تمنى عمر بن الخطاب لابنه خلاف الأدب .
إذاً نستلخص من هذا الدرس ومن الدرس السابق أدبين اثنين :
الأدب الأول : أنه إذا كان هناك مجلس لاسيما إذا كان له خطورته وهناك كبار في العلم وفي السن، فمن أدب الصغار ألَّا يتقدموا بالكلام بين يدي الكبار ، والأدب الآخر أنه إذا عجز الكبير أن يتكلم فيما يناسب الموضوع فهناك ينبغي على الصغير أن يُثبت نفسه وشخصيته وعلمه لأن القضية ليست قضية في السن فقط فكثيراً ما يكون الأمر على العكس من ذلك، لكن القاعدة هي مراعاة الأكبر فالأكبر، فإذا لم يتكلم الكبير فعلى الصغير أن يتكلم كما أوحى بذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنه : ( لو كنت قلتها كان أحب إليّ من كذا وكذا ) .
3 - فوائد حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها لا تحث ورقها ؟ ... ) ، وفيه بيان متى يتكلم الصغير إذا كان في القوم الكبار وأهل الفضل. أستمع حفظ
باب : " باب تسويد الأكابر " . أثر حكيم بن قيس بن عاصم ( أن أباه أوصى عند موته بنيه فقال : اتقوا الله وسودوا أكبركم ... ) .
" باب تسويد الأكابر " .
يروي تحته بإسناده الحسن :
عن حكيم بن قيس بن عاصم : ( أن أباه أوصى عند موته بنيه فقال : اتقوا الله وسودوا أكبركم ، فإن القوم إذا سوَّدوا أكبرهم خلفوا أباهم ، وإذا سودوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم ، وعليكم بالمال واصطناعه ، فإنه منبهة للكريم ، ويُستغنى به عن اللئيم ، وإياكم ومسألة الناس فإنها من آخر كسب الرجل ، وإذا متُّ فلا تنوحوا فإنه لم ينح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا ما متُّ فادفوني بأرض لا تشعر بدفني بكر بن وائل فإني كنت أُغافلهم في الجاهلية ) .
هذه وصية من أحد الصحابة لأولاده فيها عديد من الوصايا التي يحتاج بها الأولاد عادة أن يتشبثوا بها وأن يظلوا ذاكرين لها وعاملين بها .
أول ذلك أن قال لهم : " اتقوا الله " :
وهذه وصية جامعة مانعة ، لأن تقوى الله عز وجل معناها : " أن يخشى العبد ربه فيطيعه في كل ما أمره به وينتهي عن كل ما نهاه عنه " ، هذه تقوى الله ، وهذه وصية من وصايا الرسول عليه السلام لأصحابه بمناسبات كثيرة منها أنه أوصى معاذًا فقال له : ( اتق الله حيث ما كنت ) هذه وصية مشهورة من وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
جرى على هدي الرسول عليه السلام وعلى سَننه من بعده الصحابة الكرام ومنهم قيس هذا ابن عاصم حيث أوصى بنيه بقوله : " اتقوا الله " .
وأتبع هذه الوصية بقوله : " وسودوا أكبركم " :
شو معنى سودوا أكبركم ؟!
يمكن لبعدنا عن اللغة العربية وآدابها نفهم سودوا يعني شحروا تشحير، أي : تسويد يعني ، لكن التسويد هنا من السيادة مِن السؤدد " سودوا أكبركم " يعني : اجعلوه رئيساً عليكم ، لا تجعلوا الصغير الحقير المنبوذ لأنه مثلًا في عنده صرافة لسان أو في عنده شوية شجاعة يضعها في غير محلها فأنتوا بترهبوا جانبه وبتريسوه عليكم ، لا ، سودوا أكبركم سناً وحِلماً وعِلماً وأدباً ، " وسودوا أكبركم " : لماذا ؟
" فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم " : فإن الأولاد إذا تأدبوا بهذا الأدب وأمروا وسيدوا وريسوا عليهم أكبرهم خلفوا أباهم بمعنى : أنهم عاشوا كما لو كان أبوهم بينهم ، لأنهم ريَّسوا عليهم أكبرهم ، فهذا الأكبر المفروض فيه أن يكون أكبر علماً وأكبر عقلاً وأكبر تجربةً فهو سيسير بإخوته مسيرة أبيهم من قبل هذا الأخ الذي سُوّد عليهم ، أي : كأنهم سوف لا يشعرون بفقد أبيهم ما دام أنه حلّ محله أخوهم الأكبر مِن بعده ، ولذلك شاع بين الناس أن الأخ الأكبر بمنزلة الأب ، فهذا فيه حكمة بلا شك ، ولكن لا يخفى أن هذا ليس على الإطلاق ، فكم من كبير سن هو صغير في المنزلة وفي العلم والعكس بالعكس ، ولكن ينبغي مراعاة هذا الأدب وهو تسويد الأكبر ما وُجِد إلى ذلك سبيلاً للمحافظة على نظام الأسرة ووحدتها وحياتها من بعد وفاة رئيسها وألا وهو والدها.
" فإنَّ القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم وإذا سوَّدوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم " :
وإذا عكسوا هذه الوصية وريسوا عليهم أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم أي : كان ذلك سبباً في أن تصيب الزراية والحقارة من هو كفء من بينهم أن يكون هو الرئيس عليهم.
4 - باب : " باب تسويد الأكابر " . أثر حكيم بن قيس بن عاصم ( أن أباه أوصى عند موته بنيه فقال : اتقوا الله وسودوا أكبركم ... ) . أستمع حفظ
تتمة شرح أثر قيس بن عاصم : ( ... وعليكم بالمال واصطناعه ....) ، وفيه بيان أهمية اصطناع المال في حفظ كرامة الإنسان من الإذلال.
" وعليكم بالمال واصطناعه " :
المقصود هنا بالمال كل ما له قيمة وليس المقصود به المقدار فقط ، فهو يعظ أولاده بألَّا يكونوا عَالةً على الناس ، يعظهم وينصحهم بأن يكون عندهم مال مكسب يعتاشون منه ولا يحتاجون إلى غيرهم ، لماذا ؟
قال : " لأنه منبهة للكريم " :
لأن الإنسان حينما يكون عنده مال هذا المال يكون سبباً ليكون وجيهاً وبارزاً ونبيهاً عند الناس حيث أنه يساعدهم بماله ، فإن اصطناع المال واكتسابه يقول: " منبهة للكريم " من جهة ، " ويستغنى به عن اللئيم " :
الإنسان حينما يكون غنياً بما عنده فذلك يغنيه أن يطرق أبواب الناس لاسيما وفي العادة أن الناس الذين يملكون المال وبإمكانهم أن يساعدوا الناس يكونون لئاماً لا يكونون كراماً ، إذا ما أعطوا منُّوا ، هذا إذا ما ردوا وسبوا وشتموا ، فإذاً اكتساب الإنسان للمال وتعاطيه من جهة يرفع من مرتبته عند الناس ومنزلته ويجعله من بين الكريم أي : نبيهًا كريماً ، ومن جهة أخرى يستغني بهذا المال بهذه الحال عن أن يسأل المال بعض الناس من اللئام ، لاسيما وقد مضى معنا في بعض دروسنا السابقة قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ، واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة ) وكأنه هنا حينما قال : " عليكم بالمال واصطناعه ، فإنه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم " : استنبط هذا المعنى من هذا الحديث الشريف ( اليد العليا ) وهي المعطية ( خير من اليد السفلى ) .
5 - تتمة شرح أثر قيس بن عاصم : ( ... وعليكم بالمال واصطناعه ....) ، وفيه بيان أهمية اصطناع المال في حفظ كرامة الإنسان من الإذلال. أستمع حفظ
تتمة شرح أثر قيس بن عاص وفيه : ( ... وإياكم ومسألة الناس ... )، وفيه التحذير من المسألة من غير حاجة.
يُحذر أولاده أن يسألوا الناس أي شيء ، وفي الحقيقة أن هذه الوصية وحدها هي أيضاً من الوصايا التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بها أصحابه ، فقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة : ( أنه عليه الصلاة والسلام بايع بعض أصحابه على ألا يسأل الناس شيئاً ولو ناولني السوط ) : السوط الكرباج كانت المبايعة بهذه الدقة ، إنه أنت حتبايعني على الإسلام ولكن أنا اشترط عليك ألا تسأل الناس شيئًا مطلقًا، ولو كنت راكباً دابتك فرسك ناقتك فسقط منك السوط وواحد مارر بجنب السوط لا تقول له: من فضلك ناولني السوط، وإنما برّك الناقة وانزل وخذ السوط بيدك، أوقف الفرس وانزل منها وتناول السوط بيدك ، لماذا ؟
لأن هذا في الواقع من تمام العبودية لله عز وجل حينما المسلم يسعى ألَّا يسأل الناس شيئاً هو يحقق منزلة : (( إياك نعبد وإياك نستعين )) بأوسع مدى ، هذا بالطبع لا يعني أنه حرام الإنسان يقول لصاحبه : من فضلك ناولني السوط ناولني القلم ناولني الورقة ، لا ، هذا لا يعني أنه حرام ولكن يعني أن المسلم ينبغي أن يعتمد بعد الله على نفسه ، ( خذ السوط بيدك ولا تسأل الناس شيئاً ).
لذلك هذا الصحابي الجليل يوصي أيضاً بنيه وأولاده بهذه الوصية فيقول : " وإياكم ومسألةَ الناس فإنها من آخر كسب الرجل " :
مسألة الناس يكون من آخر كسب الرجل ، يشير إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد حرَّم الشحادة ، سؤال الناس المال ، أعطني قرش أعطني ليرة إلى آخره ، وهناك تفاصيل طبعاً في كتب الحديث والفقه خلاصتها أن السؤال بدون ضرورة يجعل وجه صاحبه يوم القيامة مشوهاً أشوه تشويه حيث يأتي وعلى وجهه خموش وخدوش وقدوش تعابير عربية تعني أنه يأتي وعلى وجهه أنواع مِن صدمات من لكمات من خرمشات، ليه؟ لأنه كان يسأل الناس لا يستحيي وهو ليس بحاجة إلى السؤال، ولذلك فلا يجوز الإنسان أن يسأل الناس شيئاً إلا إذا لم يكن عنده قوت يوم وليلة، ومن هنا نعرف أن الشحادة المعروفة اليوم هي محرمة في دين الإسلام لا يجوز لأصحابها أن يتعاطوا هذه المهنة من جهة ، ولا يجوز الناس أن يعطوهم من جهة أخرى ، لأنهم يساعدونهم على هذه المهنة القذرة شرعاً ، لذلك هو يوصي أولاده بألا يسألوا الناس إطلاقاً ، لأنه سؤالهم المال آخر كسب الرجل :
يعني رجل راح يموت جوعاً ما عنده قوت يوم وليلة وعنده أولاد حينئذ يسأل الناس ، هذا آخر طريق ، فهو يريد لأولاده أن يكونوا أعزاء ، أن يكونوا شرفاء أن يكونوا أصحاب همة عالية ونحو ذلك ولا يريد لهم أن يتدنوا فيسألوا الناس من أموالهم.
6 - تتمة شرح أثر قيس بن عاص وفيه : ( ... وإياكم ومسألة الناس ... )، وفيه التحذير من المسألة من غير حاجة. أستمع حفظ
تتمة شرح أثر قيس بن عاصم : ( فإذا متُّ فلا تنوحوا فإنه لم ينح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) ، وفيه التحذير من النياحة على الميت، وجواز الدفن بمكان لا يعلم عند خوف نبشه من عدو ونحوه.
" فإذا متُّ فلا تنوحوا فإنه لم ينح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا مت فادفنوني بأرض لا تشعر بدفني بكر بن وائل فإني كنت أغافلهم في الجاهلية " :
هنا كلمة كان ينبغي الوقوف عندها لكن الوقت ضيق فنقول : وصية الرجل بقوله : " وإذا متُّ فلا تنوحوا " يعني إذا جاءني اليقين والموت فلا تبكوا عليّ بكاء صياح ، فبكاء الصياح هو النوح وهذا محرم في الإسلام لاسيما إذا كان النَّوح مِن النساء ، أما بكاء الدمع بكاء حزن فهذا جائز وهذا أمر فطري وطبيعي ، فقد بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض أولاده منهم إبراهيم ومنهم زينب بنته عليه الصلاة والسلام ، لكن هذا البكاء كان بكاء رحمة وحُزن للمفارقة ولم يكن بكاء نوح وصياح كصياح الجاهلية ، هذه آخر وصية أوصى بها هذا الرجل أولاده ، وكل وصية منها تصح أن تكون وصية لكل فرد من أفراد المسلمين .
أما وصيته الأخيرة فهي وصية خاصة لا تتعدى غيرَه وهي قوله :
" وإذا مت فادفنوني بأرضٍ لا تشعر بدفني بكر بن وائل ، فإني كنت أغافلهم في الجاهلية " :
في الجاهلية كانوا كما نعلم جميعاً قبائل كما قال بعض الشعراء :
" يقتل بعضهم بعضاً ظلماً *** ولا يخاف حرجاً وإثماً "
ثم هذا الرجل أسلم وبطبيعة الحال حسن إسلامه لكن خشي أن تثور النعرة الجاهلية في بعض من كان غافلهم في الجاهلية وقتل منهم ، والإسلام يجُبُّ ما قبله ، فخشي أنه إذا دفن في مكان فيتنبه بكر بن وائل أي : بعض أفراده فيأتون وينبشون قبره ، فأوصى بهم أن يدفنوه في أرض لا يعرفها بنو بكر بن وائل ، لأنه لهم ثأر عنده في الجاهلية فقد يكون ثأرهم منه بأن ينبشوا قبره وهذا لا يجوز إسلامياً .
هذه آخر وصية أوصى بها قيس بن عاصم أولادَه -رحمه الله- وجعلنا نتمثل وصاياه هذه كلها ونعمل بها .
وبهذا القدر كفاية .
والحمد لله رب العالمين.