شرح باب " باب ينمي خيرا بين الناس "
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) .
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) .
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )).
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
" باب ينمي خيرا بين الناس "
( يَنمي خيراً بين الناس ) معنى ينمي يعني: يزيد، أي: يأتِ بكلام ماله أصل، يقول لفلان قال عنك كذا وكذا مدحك وزكاك وأثنى عليك خيراً ونحو ذلك من الكلام والكلام لا أصل له لكن الذي زاد هذا الكلام وجاء به له هدف صالح وهو الإصلاح بين اثنين .
شرح حديث أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط رضي الله عنهم : ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ خَيْرًا، أَوْ يَنْمِي خَيْرًا ).
عن حميد بن عبد الرحمن، أن أُمَّه أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي مُعيط أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس فيقول خيراً أو يَنمي خيراً ) .
الذي يزيد في نقل الكلام من شخص إلى آخر في سبيل الإصلاح فالذي نقله من الكلام الزائد الذي لا أصل له من الثناء على الشخص الذي نقل إليه الكلام وغرضه من ذلك الإصلاح بين الاثنين، هذا الكلام ولو كان كذباً مختلقاً فهو ليس محرماً أي: ليس من الكذب المحرم، وإن كان الأصل في كل كلام يخالف الواقع ويكون كذباً فهو حرام، وهناك أحاديث كثيرة وكثيرة جداً في تحذير المسلم من أن يعتاد الكذب في كلامه، مع كون هذا محرمة فكثير من المحرمات فيها مستثنيات، لأن هناك مصالح تترتب وراء هذا الاستثناء، كمثل ما جاء في هذا الحديث: ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس يَنمي خيراً ويقول خيراً ) ذلك لأن الكذب إنما حرمه الله عزوجل لما يترتب من ورائه من مفاسد وأضرار كثيرة .
وعلى العكس من ذلك إنما أمر بالصدق لأن الصدق يترتب من ورائه مصالح للناس عديدة، فاذا ما انعكست القضية في بعض الأمور فنتج من الصدق ما ينتج عادة من الكذب فحينذاك ينقلب الصدق إلى حكم الكذب فيصير هذا الصدق محرماً، وعلى العكس من ذلك إذا نتج من الكذب ما ينتج عليك من الصدق ينقلب حكم الكذب إلى حكم الصدق، حينذاك يجب، هذا كله مراعاة لمقاصد الشريعة
وكما قلت آنفاً: الصدق كل الناس يعلمون أنه يترتب من ورائه مصالح للمجتمع والعكس من الكذب تماماً، فلذلك فمن الجمود العقلي والمنطقي أن يظل بعض الناس يتمسكون بالألفاظ فيحرمون من الكذب ولو كان فيه منجاة نفس مؤمنة.
2 - شرح حديث أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط رضي الله عنهم : ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ خَيْرًا، أَوْ يَنْمِي خَيْرًا ). أستمع حفظ
محاورة الشيخ للقادياني حول أن الكذب للإصلاح مباح وصحة حديث كذبات إبراهيم عليه السلام.
وهذه الكذبات مذكورة في القرآن الكريم، لما طلعت الشمس قال: (( هذا ربي هذا أكبر ))، ما هو يعني ربه حقيقة وإنما يريد تسميع قومه المشركين، وكذلك لما قيل له: (( من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون )) هو كسر الأصنام وخلى الصنم الأكبر سليماً فلما جاء قومه وجدوا القيامة قامت في معبودهم أصنامهم كلها مكسرة إلا الصنم الكبير، قالوا له من فعل هذا؟ قال: كبيرهم هذا، هذا كذب، لكن كذب مكشوف يراد به لفت نظر هؤلاء الجهلة عُباد الأصنام إنه كيف تعبدون من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً
في نفس هذه الحادثة وقبلها دعوه إلى أن يخرج معهم إلى عيد لهم، فاعتل بقوله: (( إني سقيم )) يعني مريض ولم يكن به مرض، هذه الكذبات تبع إبراهيم ليت الناس كلهم يكذبون مثل هذه الكذبات
الشاهد أن ذاك القادياني أنكر هذا الحديث، بل اتسعت الكلمة : كذب إبراهيم ثلاث كذبات والله وصف إبراهيم في القرآن الكريم: أنه (( كان صديقاً نبياً )) فبيجوا بيحولوا من ناحية لفظية، الله وصف إبراهيم بأنه (( كان صدّيقاً نبياً )) حديث أنه ( كذب ثلاث كذبات ) هذا حديث صححه العلماء أئمة الحديث كلهم، فأنا أتيته من ناحية المنطقية فقلت له: آلصدق وجب لأنه مركب من ثلاثة أحرف هي ص د ق والكذب حرم لأنه مركب من ثلاثة أحرف أخرى هي ك ذ ب أم الصدق وجب لما يترتب من ورائه من مصالح والكذب حرم لما يترتب من ورائه من المفاسد، قال: هو كذلك، طبعاً لم يعرف ما وراء التوطئة بالمقدمة، فقلت له: فإذا لزمت في بعض الأحيان ونتج من ص د ق ما ينتج عادة من ك ذ ب أو نتج من ك ذ ب ما ينتج عادة من ص د ق فيقع من ص د ق إذا نتج منه ما ينتج من ك ذ ب واجباً، ويبقى ك ذ ب محرماً وإن كان نتج منه ما ينتج من ص د ق عادة ؟ قال: ما فهمت، كنا يومئذ حديثي عهد بالثورة السورية ضد الفرنسيين وكان من عادة الثوار المسلمين أنهم يباغتون بعض المغافر الفرنسية بقنابل يدوية وسرعان ما يفرون وينطلقون بين الحارات والدخلات وسرعان ما ينطلق الدرك الفرنسي للبحث عنهم، فقلت لهذا القادياني : لو أنك كنت واقفاً على باب دارك فجاءك رجل من هؤلاء الثوار: دخلك الدرك الفرنسي لاحقني فآويني عندك فآويته، وشوي جاء الدرك الفرنسي قال لك في حد من الثوار هون شو تقول له؟ قال: بقله إي، ليش؟ لأنه ما يجوز الكذب، يا أخي هذا الصدق إذا صدقت معناها قتلت مسلم، فهكذا
جاء هذا الحديث لتفتيح ذهن المسلم وأن لا يكون واقفاً عند الألفاظ وإنما يمشي مع المقاصد الشرعية، شو المقصود من الصدق؟ الإصلاح لا الإفساد، شو المقصود من الكذب؟ ضد الإصلاح وهو الإفساد.
فهنا رجل أو امرأة جاء لشخص آخر في خلاف بينهما قال له فلان يقول عنك كذا وكذا وكذا وكل ذلك لا أصل له، وإنما ليرقق قلب المتحدَّث معه حتى يميل ويستغل ذلك في سبيل الإصلاح بين الاثنين، هل هذا الكذب جائز أم حرام؟ الجواب في هذا الحديث أنه جائز، ليه؟ لأنه ليس المقصود به الإفساد بل الإصلاح، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ خَيْرًا، أَوْ يَنْمِي خَيْرًا ) ، ( قالت: -هذه أم كلثوم بنت عتبة-: وَلَمْ أَسْمَعْهُ -يعني الرسول عليه السلام- يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ مِنَ الكذب إلا في ثلاث: الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امرأته، وحديث المرأة زوجها ) .
وهذه التتمة الكلام عليها في الدرس الآتي إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
تتمة شرح حديث أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط رضي الله عنهم : ( ... فَيَقُولُ خَيْرًا، أَوْ يَنْمِي خَيْرًا ).
هذا الحديث رواه المصنف رحمه الله كما كنا ذكرنا من طريق أم كلثوم ابنة عقبة ابن أبي مُعيط أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ خَيْرًا، أَوْ يَنْمِي خَيْرًا ).
فتكلمنا عن الكذب في سبيل الإصلاح بين اثنين بما تيسر يومئذ، ففي هذا الكذب يقول هنا في الحديث : ( يقول خيراً أو يَنمي خيراً ) والواقع أن الشاهد في هذا الحديث في جواز الكذب للإصلاح بين الناس إنما هو في قوله: ( أو يَنمي خيراً ) ليس في قوله : ( فيقول خيراً ) لأن قول الإنسان الخير أمر مشروع وفيه كل خير فلا غرابة فيه أن يقول الإنسان خيراً أي: مطابقاً للواقع في سبيل الإصلاح بين اثنين، وإنما الذي قد يُستغرب بادئ الرأي هو ما جاء في هذا الحديث بعد قوله: ( فيقول خيراً أو يَنمي خيراً ) أي يزيد في كلامه أي: كما قلنا في الدرس الماضي : ما يخالف الواقع، كأن يقول: إن فلان يحبك ليش أنت نافرٌ منه، وما يشبه هذا الكلام، والواقع أنه ما في هذه المحبة ولكن هو يزيد في الكلام في سبيل تقريب القلوب النافرة بعضها من بعض، والجملة التي لابد من الكلام عليها بعض الشيء هو تمام قولها راوية الحديث أم كلثوم: ( قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ ) يعني هي لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ مِنَ الكذب إلا في ثلاث: الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امرأته، وحديث المرأة زوجها ) بهذا ينتهي الحديث .
فقولها: ولم أسمعه يرخص فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ مِنَ الكذب : فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرم الكذب تحريماً عاماً، وأنه لا يستثني منه شيئاً يُرخص فيه إلا في هذه الأمور الثلاثة وهي :
أولاً: الإصلاح بين الناس كما سبق في الجملة الأولى.
وثانياً: حديث الرجل امرأته وحديث المراة زوجها، هنا شيء لابد من توضيحه لأن الناس يريدون أن يتعلقوا ولو بأضعف وسيلة ليستحلوا ما حرم الله عزوجل من الكذب بأدنى حيلة
فهذا الحديث يقول: إن حديث الرجل امرأته هو من الكذب الجائز، وحديث المرأة زوجها أيضاً من الحديث من الكذب الجائز، وهذا الاستثناء المذكور في هذا الحديث هو بلا شك أمر متفق عليه بين العلماء لثبوت الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لكنهم اختلفوا في تحديد هذا الحديث الذي يتحدث به الرجل مع زوجته والزوجة مع زوجها يتحدث حديثاً كاذباً أو فيه كذب، ما هي الحدود التي يجوز للرجل أن يكذب في حديثه على امراته والمرأة التي يجوز لها أن تكذب في حديثها مع زوجها .
لاشك أن الأمر فيه دقة، وأنا أقول كلمة فاصلة : يجب على كل من الزوجين أن يلتزما في حديثه مع الآخر الصدق في كل شيء وأن لا يترخص بهذه الرخصة على الرغم من مجيء الحديث بها لأن الأمر فيه ريبة، أي: الريبة تأتي من جهة أنه ليس من السهل أن يتمكن كل زوج فضلا عن كل زوجة أن تحدد الكذب الذي رخص الشارع الحكيم له أو لها به، فقد قلنا آنفاً: لقد اتفقوا على جواز هذا النوع من الكذب بين الزوجين لكن اختلفوا في التحديد، لذلك فالعزم والحزم أن يبتعد كل من الزوجين عن هذا الترخص لدقة الأمر ومن باب قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) فالرجل والمرأة كل من الزوجين إذا اعتادا دائماً وأبداً أن يأخذ في حديثه بالصدق فقد أخذ بالحيطة لدينه، وابتعد عن الشبهات فيه، ويؤكد ذلك أيضاً قوله عليه السلام: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ).
4 - تتمة شرح حديث أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط رضي الله عنهم : ( ... فَيَقُولُ خَيْرًا، أَوْ يَنْمِي خَيْرًا ). أستمع حفظ
بيان متى يجوز للرجل أن يكذب على زوجته والعكس.
وأنا شخصياً أعتقد أن الزوجين إذا انطلقا في حياتهما على التعامل بالصدق في القول الذي هو الأصل الذي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يقوما به وعليه فأنا أعتقد أنه سوف لا يحتاج أيٌّ منهما أن يكذب على الآخر لأنه لم يحيَ معها ولم تحيَ هي معه على خلاف الأصل الذي هو الصدق.
ومن باب التوضيح والتمثيل لدقة الرخصة هذه أن بعض العلماء ذكروا أن الكذب الذي يجوز للزوجين هو أن يُظهر لها من الحب أكثر مما يشعر هو لها في قلبه وهي له في قلبها .
هذا النوع من الكذب هو الذي ذهب إليه المحدثون في تفسير هذه الرخصة التي توسع الناس في استعمالها، أقول توسع الناس لأني أعلم أن كثيراً من العلاقات الزوجية تفسد بسبب هذا التوسع في استعمال هذه الرخصة.
فإذن من كان من الرجال والنساء عنده من العلم ومن الثقافة الإسلامية بحيث أنه يستطيع أن يختار الكذب الذي يمكن إدخاله في هذه الرخصة التي جاء الحديث بها فله أن يترخص بذلك وإلا فالأولى كما قلت آنفاً أن يلتزم كلاً منهما القول الصدق كل منهما مع الآخر.
ذلك لأن الأصل في الكلام هو الصدق وهو الواجب والأصل في الكلام الابتعاد عن الكذب وهذا هو الواجب ولعل المؤلف -رحمه الله- أشار إلى هذه الحقيقة حينما أتبع الحديث السابق بهذا الباب اللاحق حيث قال في الباب الثمانين بعد المئة: " بابٌ لا يصلح الكذب ".
باب " بابٌ لا يصلح الكذبُ " شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة .. ).
بقوله: " بابٌ لا يصلح الكذبُ " .
ثم ساق تحته بإسناده الصحيح:
عن عبد الله -وهو هنا عبد الله بن مسعود- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل يصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً ) أو كاذباً .
ففي هذا الحديث كما هو واضح وبيّن حض الرسول عليه الصلاة والسلام الناس جميعاً رجالاً ونساءً أزواجاً وأعزاباً أن يلتزموا بالحديث الصدق، ( عليكم ) هذا يساوي في التعبير واجب عليكم أن تتمسكوا بالصدق ثم علل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجملة تعليلية فقال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر ) يهدي إلى الخير يهدي إلى العمل الصالح، فمن كان أصله وديدنه في كلامه الصدق فيه فهذا الصدق يفتح له طريقاً إلى البر وإلى الخير.
وماذا بعد ذلك، قال: ( وإن البر يهدي إلى الجنة ) يعني يكون سبباً ليوصل صاحبة الذي التزم الصدق في كلامه أن يُدخله إلى الجنة، وهذا نحو الحديث الصحيح المشهور في مسلم وغيره: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة ) فطلب الإنسان العلم هو سبب يصل به إلى الجنة، لماذا؟
هذا أمر واضح لأنه الإنسان بالعلم يتعرف على الحلال فيأتيه ويمتع نفسه منه، ويتعرف على الواجب فيأتيه ويتعبد الله به، ويتعرف على المحرمات فيجتنبها ويكون بسبب ذلك عند الله تقياً وبذلك يصل الإنسان إلى الجنة، هكذا الصدق حينما يلتزمه المسلم في كلامه وفي حديثه فهذا الصدق سيطبعه بطابع الخير وطابع البر وهذا سيهديه إلى الجنة.
وعلى العكس من ذلك إذا التزم الكذب وهنا جملة يقول فيها الرسول عليه السلام: ( وإن الرجل يصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقاً ) وفي رواية أخرى: ( وإن الرجل لايزال يصدق ) وهذه أوضح من رواية المصنف هنا.
( وإن الرجل يصدق ) قد يفيد أنه يصدق كثيراً ولكن الرواية الأخرى: ( وإن الرجل لا يزال يصدق ) آكد في توضيح أن هذا الرجل هو من دأبه وشيمته أن يتحدث في حديثه دائماً بما هو صدق ومطابق للواقع، فلا يزال هذا الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً، وهذا مقام سام قلّ ما وصف الله عز وجل به عبدا من عباده إلا ذكر نبيه وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال فيه: (( إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)).
6 - باب " بابٌ لا يصلح الكذبُ " شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة .. ). أستمع حفظ
شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ... وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً ).
( وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) وفي الرواية الأخرى: ( وإن الرجل لا يزال يكذب ) أي هذا ديدنه دائماً وأبداً أنه يكذب ( حتى يُكتب عند الله كذاباً )
7 - شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ... وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً ). أستمع حفظ
شرح أثر ابن مسعود رضي الله عنه : " لا يصلح الكذب في جِدٍّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجزو له ".
هذا الأثر ولو أنه موقوف فهو تأكيد للحديث المرفوع الذي قبله وراوي الحديث المرفوع هو راوي هذا الحديث الموقوف وهو عبد الله بن مسعود، فهو إذن فهم من حديثه السابق المرفوع الذي سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الكذب مطلق الكذب لا يصلح في شيء من كلام الناس سواء كان هذا الكلام جِدًّا أو هزلاً، وهذا كله تأكيد لوجوب تمسك الرجل بالصدق في كلامه حتى يُصبح ذلك شيمته فلا يعرف أن يكذب لو أراد أن يكذب، لماذا؟ لأنه تأدب بأدب الإسلام، الذي حض المسلمين على أن يلتزموا الصدق دائماً وأبداً لأنه سيوصلهم إلى البر والبر يوصلهم إلى الجنة، فهو لا يعرف الكذب لا في جد ولا في هزل.
فهم هذا ابن مسعود باطلاق الأمر في الحديث السابق بالصدق والنهي فيه عن الكذب فقال: " لا يصلح الكذب في جِدٍّ ولا هزل " ، ومن هنا جاء حكم شرعي وهو قد أُخذ من حديث صحيح يقول فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما معناه : ( أن الكذب والهزل لا يصلح لا في نكاح ولا في طلاق ولا في عتاق )، وأنه لو صار هناك زواج في قصة تمثيلية مثلاً، زواج في قصة تمثيلية هزلية، وغير مقصود ما يقال فيها فإذا توفرت شروط الزواج الشرعي في هذه القصة التمثيلية أُلزم القائمون بما ذهبوا إليه ولو بطريق الهزل، وهذا عقوبة من الله عزوجل للذي يزوج مازحاً أو يطلق مازحاً.
8 - شرح أثر ابن مسعود رضي الله عنه : " لا يصلح الكذب في جِدٍّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجزو له ". أستمع حفظ
ذكر مسألة : هل يقع طلاق السكران والمغمى عليه ؟
لكن العلماء الآخرين يقولون: فقده لعقله كان بكسبه بيده وليس هو كالمغمى عليه مثلاً وليس هو كالمعتوه الذي فرض ذلك بقضاء الله وقدره عليه، فطلاق السكران يقع لأنه متسبب لهذا الطلاق.
هل يقع طلاق الهازل ؟
تتمة شرح قول ابن مسعود رضي الله عنه : ( ... ولا أن يعد أحدكم ولده شيئاً ثم لا يُنجز له ).
هذه نقطة تعالج أمراً يقع فيه كثير من الآباء والأمهات في تربيتهم لأولادهم حيث قال ابن مسعود عطفاً على جملة: لا يصلح الكذب في شيء من الجد والهزل:
ولا أي: ولا يصلح أيضاً.
" أن يعد أحدكم ولده شيئاً ثم لا ينجز له " علماً بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في بعض الأحاديث الصحيحة : ( أنت ومالك لأبيك ) وقال في حديث آخر: ( لا يحل لرجل أن يرجع في هبته إلا الوالد مع ولده ) وفي حديث ثالث: ( الذي يرجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه ) : هذا التشبيه خطير جدًّا فيه لوم من يهب لإنسان هبة ما ثم يسترجعها ويندم عليها، مثل هذا العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه: يرجع في قيئه: بمعنى الشيء الذي استفرغه يستعيده، كيف يستعيده وهو شيء قبيح؟! هذا مثل ذلك الذي يهب إنساناً ما شيئاً من ماله ثم يرجع فيه.
لكن الوالد مع الولد يجوز له ذلك، أي: يجوز للوالد أن يرجع عن هبته التي قدمها لابنه ، ومعنى يجوز هنا ينفذ، بخلاف ما لو كانت الهبة موجهة إلى رجل آخر غير الولد فالعود هنا لا يعتبر نافذاً يعني ليس له الرجوع .
مثلاً رجل اشترى حاجة من تاجر وقبل أن يتفرقا يجوز للشاري أن يرجع في شرائه على التاجر، يقول له: أنا عدلتُ، ما في مانع شرعاً إطلاقاً لكن بشرط قبل أن يتفرقا وليس على هذا النادم في شرائه أي إثم وأي ذنب وأي ... ، لكن الجواز المذكور في حديث رجوع الوالد في هبته إلى ولده يعني أن الشرع أي القضاء يحكم له بالرجوع لكن هل يحسن هذا ؟ هذه مسألة أخرى .
الجواب في حديث ابن مسعود حين قال: " لا يصلح الكذب في جد ولا هزل " قال " ولا أن يعد أحدكم ولده شيئاً ثم لا يُنجز له " هذا أبلغ في منع الوالد من رجوعه عن هبته التي قدمها لابنه لأنه يقول: إنه لم يهب له لأنه كل ما في الأمر أنه وعده، مع ذلك فهو يعتبر أنه ليس من مكارم الأخلاق أن يعد الوالد ولداً له بشيء بعطية ثم لا ينجز له لا ينفذ ذلك له، هذا لا يصلح في الإسلام لكنه إن فعل الوالد شيئاً من هذا مع ولده نفذ لكنه مع المخالفة للآداب الإسلامية.
خلاصة هذا الباب:
هو ما ذكرته في تضاعيف الكلام السابق أن المسلم عليه أن يلتزم دائماً وأبداً الصدق في كلامه وأن يبتعد دائماً وأبداً عن الكذب فيه إلا ما اضطررتم إليه، فحينذاك هذه الضابطة إلا ما اضطررتم إليه ممكن نجعل ضابطة للناس خاصة الذين لا فقه عندهم فيما يجوز لهم من الكذب بين الزوجين وفي الإصلاح بين الناس، حتى لا تفسد باسم الإصلاح العلاقات بين الزوجين بسبب التوسع في الترخص في استعمال الكذب بينهما أي بين الزوجين.
نسأل الله عزوجل أن يطبعنا بطابع الصدق في كلامنا دائماً وأبداً ويكتبنا عنده من الصدّيقين .
والسلام عليكم.