باب " باب المستبان ما قالا فعلى الأول " شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم )
روى تحته بإسناده الصحيح : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( المستبَّان ما قالا فعلى البادئ ، ما لم يعتد المظلوم ) :
في هذا الحديث بيان أنَّ رجلاً إذا ابتدأ أخاه المسلم بسبه ، ثم قابله المسلم بمثل سُبته ، فوبال السُبتين الأولى التي ابتدأها الأول والأخرى التي كانت جواباً من الآخر على الأول ، فكل من السّبتين تكتب على البادئ ، ذلك لأنه من باب أنه سنَّ سنة سيئة ، لكن هذا الإثم المضاعف إثم الأول الذي ابتدأ السِباب والآخر الذي أجابه ، فهذا الآخر ليس عليه إثم وإنما هي مسبة وهي عار ومذمة ، فيُكتب إثمها على البادي بالإضافة إلى إثمه الخاص به ، لكن هذا ليس على الإطلاق فقد قيده عليه السلام بقوله : ( ما لم يعتد المظلوم ) :
فإذا المظلوم زاد في السَّبة ، لو فرضنا مثلاً واحد قال للثاني : تِضرَب ، فقابله بالمثل : تضرب أنتَ ، فهنا صار إثمين : إثم المبتدي وإثم المجيب الإثمان كلاهما يعودان على البادي ، لكن لو قال المعتدى عليه بدل تِضرَب تضرَبين مثلاً هذا اسمه اعتدى ، فهذه طريقة وأسلوب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُعلِّم المسلم كيف يمكنه أن ينال ممن نال منه وأن يسبَّ مَن سبَّه دون أن يُسجل عليه أي إثم وذلك بأن يرد عليه السُّبة بالسُّبة ولا يزيد عليه بهذه الصورة هو بكون نجا من الإثم وبيكون كما يقولون هنا العامة : " بيكون فش خلقه " لأن الإنسان ما هو حجر أصم ، في عنده أحاسيس وعنده شعور ، فإذا سُبَّ جاز له أن يقابل السُّبة بمثلها ولا يزيد عليها .
فلذلك فمن اعتُدي عليه هذا نص القرآن صريح في القرآن : (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) فهذه المثلية : اعتداء الأول والمقابل الثاني للاعتداء بالمثل إثمان يُسجلان على البادي لأنه هو كان المتسبب ، فإذا ما زاد المعتَدى عليه في المقابلة بالمثل صار هو شريكه بالإثم لأنه تجاوب معه ، فهذا معنى الحديث : ( المستبَّان ) : يعني المتساببان ما قالا من السبة والشتائم ونحو ذلك فعلى البادي ، كل ذلك يعود إثمه وشره على البادي بشرط : ( ما لم يعتد المظلوم ) : إذا ما زاد في المقابلة بالمثل فكل شيء صدر منه ومن اعتدى عليه يسجل على المعتدي ، أما إذا هو زاد فقد شاركه في الإثم .
هذا أدب من آداب السنة النبوية يعلمنا الرسول عليه السلام كيف نقابل الناس بالمثل إذا ما اعتدوا علينا فلا مانع من المقابلة وإن كان : وإن تعفوا وتصفحوا فهو خير لكم مبدأ عام أيضاً معروف ، إلا أن هذا له محله ولا يوضع مع أي إنسان ، أي : العفو والصفح هذا أفضل لكن مع إنسان يُرجى أن يؤثر فيه العفو والصفح ، لا أن يستغل ذلك فيعتبره ضعفاً من الذي عفا وصفح في هذه الحالة ينبغي أن يقابَل بالمثل حتى لا يستغل الصفح بضعف أو بزعمه أنه ضعف .
الحديث الذي بعده هو نفس الحديث الذي قبله إلا أنه يختلف راويه من الصحابة : فالأول رواه بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ السابق .
1 - باب " باب المستبان ما قالا فعلى الأول " شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم ) أستمع حفظ
شرح حديث أنس رضي الله عنه : ( أتدرون ما العضه ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم ).
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المستبان ما قالا فعلى البادي حتى يعتدي المظلوم ) .
لكن في هذا الإسناد وفي هذه الرواية فائدة أخرى حيث .
قال : وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أتدرون ما العَضْه ؟ ) : أتدرون ما العضه بالضاد والهاء .
( قالوا: الله ورسوله أعلم ، قال : نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم ) :
في هذا الحديث يسأل الرسول عليه السلام أصحابه عن لفظة هي عربية ، لكن لعلها عربية ما هي مشهورة بينهم فقال لهم : ( أتدرون ما العضْه ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ) :
فأجاب عليه الصلاة والسلام بأنه هو النميمة التي هي عبارة عن نقل كلام من هؤلاء إلى هؤلاء بقصد الإفساد بين الفريقين ، فالعضه هو النميمة ، ثم النميمة تفسيرها أيضاً كما جاء في هذا الحديث : " نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم " .
وفي هذه الجملة ( ليفسدوا بينهم ) : هذه الجملة جملة تعليلية ، يعني فيها بيان أن نقل الكلام من ناس إلى آخرين إنما يكون عَضْهاً ويكون نميمة محرمة فيما إذا كان الناقل مِن هؤلاء إلى هؤلاء ومن هؤلاء إلى هؤلاء يقصد بذلك الإيقاع والإفساد بينهم ، فخرج بهذا التعليل ما إذا كان النقل لا يُقصد به الإفساد ، مثلاً لو فرضنا جاء رجل إلى عالم فسأله عن مسألة فأجاب بجواب ، رجع هذا السائل إلى عالم آخر سأله نفس السؤال ، فأجابه بغير ذاك الجواب ، قال له : فلان العالم فلان الشيخ ما قال مثل حكايتك ، قال كذا وكذا ، بيشرح له ما عنده مثلاً أن هذا الجواب مبني على فهم للآية خطأ أو للحديث فهم خطأ أو مبني على حديث إسناده ضعيف أو أي جواب من عنده ، بيرجع السائل نفسه إلى العالم الأول ، يقول له : رحت عند فلان وقال لي كذا وكذا ، وقال كذا وكذا يعني رد على جوابك ، بيرجع هذا الثاني قد يجيب بجواب ضد جواب الثاني وهكذا ، فإذا ظل هذا السائل يتنقل مِن عالم إلى آخر بقصد الإفساد بينهما فهي النميمية ، وهي العَضْه ، لا ، هو غرضه فقط يفهم وجهة نظر هذا ووجهة نظر هذا لحتى يطمئن وليس قصده الإيقاع بينهما فحينئذٍ هذا ليس محرماً وكلٌّ من الصورتين في الواقع يقع اليوم ، يقع اليوم وقبل اليوم ، يعني إنسان يستفتي عالم بيعطيه الجواب ، بينقل الجواب إلى عالم ثاني ، العالم الثاني بيرد على الأول فيعود ينقل الرد إلى العالم الأول وهكذا ، فإذا كان غرضه الإفساد بين العالِمين وإيغار صدور الاثنين فهذا بلا شك حرام وهي النميمة والعَضْه ، وإن كان لا يقصد شيء من ذلك إطلاقاً ، وإنما كل قصده وكل مُراده أن يفهم ليش هذاك قال حرام مثلاً وهذا قال حلال لحتى يطمئن قلبه ويتفقه في دينه .
إذن العَضْه : " نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم وهذه هي النميمة " .
2 - شرح حديث أنس رضي الله عنه : ( أتدرون ما العضه ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم ). أستمع حفظ
شرح حديث أنس رضي الله عنه : ( إن الله عز وجل أوحى إليّ أن تواضعوا ولا يبغي بعضكم على بعض )
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله عز وجل أوحى إليّ أن تواضعوا ، ولا يبغي بعضكم على بعض ) :
هنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل أوحى إليه أن يأمر أمته بأن يتواضع بعضهم لبعض ( أن تواضعوا ) : ليتوضاع بعضكم لبعض ، لا يتكبر الغني على الفقير ولا العالم على الجاهل ولا الجميل الصورة التي الله خلقه على قبيح الصورة ، يعني ما حدا يشوف حاله على الثاني ، لأن الأمر كما قال تعالى : (( وما بكم من نعمة فمن الله )) : فأنت أيها العبد سواء كنت غنياً أو كنت عالماً أو كنت جميلاً فما بك من نعمة فمن الله فبم تفخر على غيرك !؟
عليك أن تقابل ما أنعم الله عليك بالشكر ، ومن شكرك لله عز وجل ألَّا تتكبر على أحد .
( ولا يبغي بعضكم على بعض ) أي : لا يعتدي ، البغي هو الظلم والاعتداء ولا يبغي بعضكم على بعض ، في هذا الحديث في الواقع تربية كبيرة جداً للمسلمين لو كانوا يتجاوبون مع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته الكريمة ، ( إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا ولا بغي بعضكم على بعض ) .
3 - شرح حديث أنس رضي الله عنه : ( إن الله عز وجل أوحى إليّ أن تواضعوا ولا يبغي بعضكم على بعض ) أستمع حفظ
باب : " باب المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان " شرح حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: ( قلت يا رسول الله الرجل يسبني ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ).
" باب المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان " :
هذا نص الباب نص حديث أورده تحت هذا الباب بإسناده الصحيح عن رجل من الصحابة اسمه عياض وأبوه اسمه حمار ، وهذا من أسلوب العرب في التسمية بأسامي قبيحة ، ففيهم من كان اسمه حمار ، فهذا عبد الله بن حمار الابن أسلم : ( قال: قلت يا رسول الله الرجل يسبُّني ؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ) :
هذا الحديث فيه فائدة لا توجد في الحديث السابق ، الحديث السابق كان تقريباً مِن يم المعتدى عليه حيث قال : إن المعتدى عليه إذا لم يزد في المقابلة على المثل فإثم كلامه وكلام المبتدي على المبتدي ، قال : ( ما لم يعتد ) ، الآن هنا يشير في هذا الحديث كيف يكون الاعتداء : بدأ ذاك يسبه فرد عليه بالزيادة رد عليه الأول بالزيادة وهكذا ، دخلوا في معركة سبابية وشتائمية لا نهاية لها ، هذا النوع من السباب هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله : ( المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ) يعني :حينما لا يقف المعتدي عند رد الاعتداء بالمثل وإنما ببالغ في الجواب يعود المعتدي بزيده في الجواب يعود المعتدى عليه يزيده في الجواب فهؤلاء المستبَّان كما قال عليه الصلاة والسلام : ( شيطانان يتهاتران ) يعني : المهاترة معروفة ، المجادلة بالباطل ويتكاذبان : وكل منهما يكذب الآخر .
4 - باب : " باب المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان " شرح حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: ( قلت يا رسول الله الرجل يسبني ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ). أستمع حفظ
شرح حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا ... يا رسول الله أرأيت لو أن رجلاً سبني في ملإ هم أنقص مني فرددت عليه هل علي في ذلك جناح ؟ قال: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ).
روى عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد ، فقلت : يا رسول الله أرأيت لو أن رجلاً سبني في ملإ هم أنقص مني ، فرددت عليه هل عليَّ في ذلك جناح ؟ قال: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ) :
في هذا الحديث العبارة الزائدة في السؤال حيث قال عِياض : ( أرأيت لو أن رجلاً سبني في ملإ هم أنقص مني ) :
هون بقى تثور النفس لتثأر لها بأكثر مما أباح الله لها ، يقول : ( لو أن رجل سبني في ملأ هم أنقصُ مني ) يعني : سبه وهو من قبيلة وتكون قبيلته دون قبيلة المسبوب فخراً ونسباً وشهرةً وحسباً ونحو ذلك ، فيقول هذا السائل وهو عياض بن حمار : هل عليَّ في ذلك جناح إن أنا رددت عليه ؟ قال عليه الصلاة والسلام -لفظ الحديث السابق- : ( المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ) .
5 - شرح حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا ... يا رسول الله أرأيت لو أن رجلاً سبني في ملإ هم أنقص مني فرددت عليه هل علي في ذلك جناح ؟ قال: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ). أستمع حفظ
تتمة شرح حديث عياض رضي الله عنه قال : ( ... وكنت حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت إليه ناقة قبل أن أسلم فلم يقبلها. وقال: إني أكره زبد المشركين ).
قال عياض : ( وكنت حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) : يعني قبل إسلامه كان من جملة الكفار الذين يحاربون الرسول عليه السلام بسبب دعوته للإسلام .
قال عياض : ( فأهديتُ إليه ناقةً قبل أن أُسلم فلم يقبلها وقال : إني أكره زَبْد المشركين ) :
هذا عِياض قبل أن يهديه االله عز وجل إلى الإسلام خطر بباله أن يُقدم إلى الرسول عليه السلام هدية مع أنه لم يؤمن به ولم يصدقه بعد ، فقدم له ناقة ، فرفضها الرسول عليه السلام وردَّها عليه ، وعلل ذلك بقوله عليه السلام : ( إني أكره زَبْد المشركين ) : الزَبْد هو الرفد وهو العطية والمنحة يعني : أي شيء يقدمه الرجل للآخر اسمه زبد ، مش الزبدة الزبدة بالمعنى المعروف هذا أما هذا الزبد ، الزَبد بالفتح وإسكان الباء هو الرفد والعطية ، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما رد الناقة على عياض ولم يقبلها منه هدية أتبع الرد بتقديم اعتذار بقوله : ( إني أكره زَبْد المشركين ) :
كأنه يقول : ما في صلة بيني وبينك ما في مودة أنا مسلم وأنت مشرك فكيف أقبل عطيتك ومنحتك لعلك يومًا ما تمتن بهذه العطية يوماً عليّ .
( إني أكره زبد المشركين ) ، ولعلَّ هذا كان سبب إسلام عياض لأنه عم يصرح في هذا الحديث أن هذه الحادثة وقعت قبل أن يسلم ، لما قدم الناقة للرسول عليه السلام هدية فرفضها عليه بحجة أنك أنت مشرك ، فلعل ذلك حز في نفسه ودفعه إلى أن يفكر بموقفه العدائي من النبي صلى الله عليه وسلم فأدَّاه ذلك إلى أنه أسلم وحسُن إسلامه وصار له أحاديث عديدة تذكر في كتب المسلمين تحت مسند عِياض بن حمار ، فصار من الصحابة الفضلاء الأجلاء.
6 - تتمة شرح حديث عياض رضي الله عنه قال : ( ... وكنت حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت إليه ناقة قبل أن أسلم فلم يقبلها. وقال: إني أكره زبد المشركين ). أستمع حفظ
بيان حكم قبول المسلم الهديةَ من المشرك أو الكتابي.
نحن نجد في كثير من أحاديث الرسول عليه السلام الصحيحة أنه كان يقبل هدايا بعض المشركين ، وفي الغالب كان هؤلاء مِن رؤوس الناس مِن الأمراء ، ولكن كما قلت هذا كان في الغالب وإلا أحياناً كان يقبل أيضاً من عاديّ الناس ، وما أحد منكم لا يذكر قصة اليهودية التي أَهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذراعَ شاةٍ ودسَّت في الذراع السُّم ، فجلس الرسول عليه السلام ليأكل ومعنى ذلك أنه قبل الهدية منها ، فجلس ليأكل ، كان سبقه أحد الصحابة فأكل فأحس بالسم ومات ، أما الرسول عليه السلام فما كاد يمد يده إلى الشاة المسمومة إلا ورماها وقال : ( إنها تحدثني بأنها شاة مسمومة ) : فمثل هذا الحديث فيه أن الرسول عليه السلام كان يقبل الهدية من المشرك ، فلماذا هنا يقول معللاً رفضه لناقة عياض : ( إني أكره زَبْد المشركين ) ؟
الجواب : أن ما تضمنه هذا الحديث هو الأصل ، أي : أنَّ المسلم يجب أن يعيش بعيداً عن قبول هدايا المخالفين له في عقيدته خاصة من كان منهم من المشركين ، لأن الهدية لها معنى نفسي قد لا يشعر بها الإنسان وبتأثيرها إلا بعد زمن مديد وطويل ، هذا المعنى النفسي هو الذي أشار إليه الشاعر العربي القديم حين قال :
" أَحسِنْ إلى الناسِ تستعبد قلُوبَهمُ *** فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ "
فقبول الهدية فيه تأثير في نفس المـُهدى إليه يحمله على أن يميل بعض الميل إلى المـُهدِي وقد يكون كما سمعتم كافراً ، وفي ذلك حمل للمهدَى إليه إلى أن يتساهل بالنسبة للدعوة مع المخالفين مع الكفار ، فيؤدي ذلك إلى الإخلال بما هو المأمور به من الصدع بالحق وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ومن هنا يكون مِن كمال الأُمراء بل والعلماء أن لا يعوِّدوا الناس لتقديم الهدايا إليهم ، لأن هذه الهدايا لها تأثير في نفوس الأُمراء والعلماء وقد يوصل ذلك أحدَهم إلى أن يُجامل المـُهدي بالحكم فيما إذا اختلف مع بعض الناس في قضية ما فرفعها إلى الأمير أو إلى الحاكم أو إلى العالم وكان مِن قبل يعطيه هدايا ، فقد تحمله هذه العطايا على أن يشد في حكمه أو يشتد في حكمه على خصم المـــُهدي ويلين في حكمه مع المهدي ، لذلك فالأصل قطع دابر الهدايا بين المسلم والكافر ، بل وبين المسلم الذي له كيان وله وجاهة وله مركز مرموق وبين عامة الناس حتى لا يتأثر بهداياهم .
فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يقبل بعض الهدايا كان ذلك من باب تأليف القلوب ، ولكن لم يجعل ذلك قاعدة له عليه الصلاة والسلام ، ولذلك جاء في هديه صلى الله عليه وسلم : ( أنه كان إذا أُهدِيَت إليه هدية قبلها وأثاب بخيرٍ منها ) ، هكذا يبدو لي لكل من كان لا بد من أن يقبل هدايا الناس أن يقابلهم بالمثل ، وألَّا يكون ذلك إخلال في حياته الإسلامية وإن كان ليس إخلالاً يرميه في المعصية ، ولكنه ينافي الكمال ، والكمال لله وحده .
أعتقد أن جواب هذا السؤال نرجيه ليوم الأحد ليوم آخر بحجة أن بعض الأخوات ما بيتمكنوا من الحضور ، يتحتاج إلى دراسة شخصية مني أولاً ، ثم ممن لم يحضرنا اليوم حتى تكون القضية شورى بين الجميع ، فالبحث يكون إن شاء الله في الدرس الآتي ، وبهذا القدر كفاية.