تعريف الحديث القدسي وبيان الفرق بينه وبين القرآن والحديث النبوي .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُن إلا وأنتم مسلمون )) .
(( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً )) .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومَن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )) .
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
روى المصنف -رحمه الله- في آخر الباب السابق بإسناده .
عن أبي ذر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الله تبارك وتعالى قال : ( يا عبادي ) : هذا حديث قدسي فينبغي أن تنتبهن له ، لأن فيه موعظةً بالغة ، والحديث القدسي هو يعني : " كلام من كلام الله عز وجل يرويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله " أي : إن الله عز وجل أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام القدسي كما أوحى إليه بالقرآن الكريم ، والفرق بينهما أي : بين الكلام القدسي والقرآن الكريم هو من ناحيتين :
الناحية الأولى : أن القرآن محفوظ في كتاب هو القرآن الكريم ثم هو متعبد بتلاوته ، بمعنى كما جاء في الحديث الصحيح : ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ، لا أقول ألم حرف بل ألف حرم ولام حرف وميم حرف ) .
ثم بالإضافة إلى ذلك فالقرآن الكريم في أسلوبه في لغته معجز أي : تحدى ربنا عز وجل فصحاء العرب في الجاهلية أن يأتوا بآية من مثله فعجزوا عن ذلك.
أما الحديث القدسي فهو مع كونه من الكلام الإلهي أوحاه الله عز وجل إلى نبيه عليه السلام فهو ليس فيه ذاك الإعجاز ثم هو ليس هو متلواً متعبداً بتلاوته ، كل ما في الأمر أنه من كلام الله وهو دون القرآن الكريم فصاحة وإعجازاً ، ولكن الحديث القدسي يلتقي مع القرآن الكريم في نقطة واحدة ألا وهي أن كلاً منهما من كلام الله تبارك وتعالى .
فهو إذن أي : الحديث القدسي يختلف عن الحديث العادي بناحية فقد عرفنا أن الحديث القدسي من كلام الله ، أما الحديث العادي فليس من كلام الله وإنما هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن كلاً من الحديثين أيضاً يلتقيان في نقطة واحدة ، الحديث القدسي والحديث النبوي يلتقيان في نقطة ويختلفان في أخرى :
يلتقيان في أنَّ كلاً منهما وحيٌ من الله تبارك وتعالى .
يختلفان في نقطة أخرى وهي : أن الحديث القدسي من كلام الله ، وأما الحديث النبوي فمن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السائل : ألا يكون الكلام من النبي والمعنى من الله أم أن كلًا منهما من عند الله ؟
الشيخ : هذا هو الفرق ، هذا من كلام الله ، الحديث القدسي من كلام الله.
السائل : هو من كلام الله ؟
الشيخ : هو كلام الله ، لكان إيش معنى كلام الله ؟
إذا قلنا أن الكلام من النبي فصار الحديث القدسي والحديث النبوي هو واحداً ، لكن هذا هو الفرق .
أعيد فأقول : الحديث القدسي يلتقي مع الحديث النبوي في شيء ويختلف عنه في شيء آخر :
يلتقي الحديث القدسي مع الحديث النبوي من حيث أن كلاً منهما وحي من الله إلى نبيه ، فهو كل منهما (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )) ، يختلفان في أن الحديث القدسي لفظاً ومعنى هو كلام الله ، أما الحديث النبوي فاللفظ للنبي والمعنى من الله تبارك وتعالى .
فحديثنا إذن الآن هو حديث قدسي أي : " أوحاه الله عز وجل إلى نبيه بلفظه ومعناه كما هو شأن القرآن أوحاه الله عز وجل إلى نبيه باللفظ من الله والمعنى من الله " ، لكن كما قلنا آنفاً : يختلف الحديث القدسي عن القرآن الكريم في أنَّ القرآن الكريم معجز تحدى به ربنا عز وجل فصحاء العرب جميعاً فعجزوا عن أن يأتوا ولو بآية منه ، أما الحديث القدسي فليس فيه هذه الخصوصية ، ليس فيه هذا الإعجاز ، ثم القرآن متعبد بتلاوته كما نفعل دائماً وأبداً من قرأ منه آية فله بكل حرف منه عشر حسنات كما ذكرنا ، الحديث النبوي ليس له هذه الخصوصية وإن كان بطبيعة الحال إذا المسلم قرأ كتاباً في الفقه فله أجر على ذلك ، لأنه يريد أن يتعلم الأحكام الشرعية ، فالحديث النبوي له أيضاً هذا الأجر ولكن ليس أجر القرآن ، تلاوة القرآن في كل حرف حسنات .
إذن حديثنا هذا هو حديث قدسي من كلام الله عز وجل باللفظ والمعنى أوحاه اللهُ تبارك وتعالى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام .
تتمة لباب : " باب الظلم ظلمات " شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ... ) .
كان أبو إدريس -وهو أحد رواة هذا الحديث- إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه . انتهى الحديث :
وجثي أبو إدريس راوي الحديث على ركبتيه إشعار بأهمية هذا الحديث القدسي ، شأن الإنسان لما يفاجأ بشيء يقف هكذا على ركبه كأنه مبهوت ومأخوذ ، فهذا الحديث في الواقع مع كونه مِن كلام الله عز وجل وكلام الله له تأثير كما تعلمون جميعاً ، لكن فيه أيضاً بيان أنه هو الغني عن العالمين ، وأنه المتفضل على عباده أجمعين ، فهو يفصل في هذا الحديث القدسي شيئاً من كبريائه تبارك وتعالى وعظمته :
أول ذلك أنه يخاطب عباده فيقول : ( يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي ) :
في هذه الفقرة الأولى بحثٌ واسعٌ جداً له علاقة بالتوحيد من جهة ، ومن جهة أخرى بما يسمونه بعلم الكلام ، لأن قول الله تبارك وتعالى : ( حرمت الظلم على نفسي ) فيه تصريح بشيئين اثنين ربما لا ينتبه لأحدهما كثير من الناس ، أما أن الظلم أن الله عز وجل مُنزه عنه فهذا أمر مجمع بين المسلمين جميعاً والآيات كثيرة وكثيرة جدّاً في هذا الصدد ، ولكن فلسفة التحريم هذا له علاقة بعلم الكلام ، فنحن نسمعُ ونقرأ في هذا الحديث هذا التعبير الذي لم يأتِ في القرآن الكريم ، ربنا يتنزه في القرآن أن يظلم الناس شيئاً وهذا لا شك فيه ، لكن الحديث يصرح بشيء آخر يقول : ( حرمت الظلم على نفسي ) :
وهذا يعني أن في قدرة الله تبارك وتعالى لو شاء أن يظلم الناس ، من أين نأخذ هذا ؟
من قوله: ( حرمت الظلم على نفسي ) ففيه إشارة قوية جدّاً إلى أن الظلم في مُتناول قدرة الله تبارك وتعالى وأنه قادر على كل شيء ومن ذلك أن يظلم الناس لو شاءَ ، ولكن الله عز وجل في هذا الحديث ينبهنا أنه من كماله أنه ترفَّع عن أن يظلم الناس شيئاً وهو يستطيع ذلك ، ولكنه حاشاه أن يظلم الناس شيئاً ، لذلك جاء بهذا التعبير العربي الصريح : ( إني حرمت الظلم على نفسي ) .
أما ما يتعلق بعلم الكلام فهو أن يوضح ما هو المقصود من الظلم ، أو بعبارة أخرى ما معنى الظلم لغة :
" إن الظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير محله المناسب له " ، الظلم في اللغة : هو وضع الشيء في غير مكانه المناسب له، وعبارة رجل من كبار علماء اللغة بالنص الواحد قال الراغب الأصبهاني هو : " -أي الظلم لغة- وضع الشيء في غير موضعه المختص به بنقص أو زيادة أو عدول عن وقته أو مكانه " ، هذا تعريف الظلم ، فربنا عز وجل حينما يصرح في هذا الحديث بأنه حرم الظلم على نفسه معناه أنه لا يضع الشيء بغير موضعه اللائق به ، لا يضع الشيء في مكانه المناسب له ناقصاً أو زائداً أو نحو ذلك مما ينافي صفة الكمال ، هذا هو الظلم ، وهذا هو مما تنزه ربنا عز وجل عنه .
2 - تتمة لباب : " باب الظلم ظلمات " شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ... ) . أستمع حفظ
الرد على الأشاعرة في قولهم : يجوز لله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي ، فيجوز له أن يدخل النبي النار ويدخل إبليس الجنة .
في المذهب الأشعري تصريحٌ خطيرٌ جدّاً ينافي الكتاب والسنة في نصوصهما العديدة ، يقولون : " إن الله عز وجل يجوز له -هكذا نصه- يجوز تعذيب الطائع وإثابة العاصي " : يجوز عندهم -الأشاعرة- تعذيب الطائع وإثابة العاصي ، بل إن بعض متأخريهم يصرحون بما هو أشدُّ خطورة من هذا الكلام وهو كافٍ في الخطورة ، فيقولون : " يجوز لله عز وجل أن يُدخل نبيه ومصطفاه -عليه الصلاة والسلام الذي هو سيد البشر- في النار أسفل السافلين، وبالعكس أن يدخل إبليس اللعين الرجيم في الجنة وفي الفردوس الأعلى ، يجوز له ذلك وأنه إن فعلَ فما ظلم شيئاً " ، كيف ذهبوا إلى هذا الكلام الخطير المنافي للكتاب والسنة لاسيما هذا الحديث كما سأيزده شيئاً من التوضيح ، لأنهم فسروا الظلم بغير ما سمعتُن من التفسير العربي ، قالوا عندهم : " الظلم هو تصرف المتصرف في مال غيره " ، الظلم عند الأشاعرة هو فقط التصرف في مال الغير ، ولما كان الناس جميعاً مِن أنس وجن وملائكة عبيدين مملوكين لله عز وجل والله هو المالك الحق فيجوز له أن يتصرف في ملكه كما يشاء ، فإذا ألقى بالنبي عليه السلام في أسفل السافلين ورفع إبليس الرجيم في أعلى درجات الجنان فهو يتصرف في ملكه كما يشاء وهذا ليس من الظلم لأنه يتصرف في ملكه ، فلما يُجابهون بالآيات الصريحة أنَّ الله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة (( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )) آيات كثيرة معروفة في القرآن وبمثل هذا الحديث ، يقولون : هذا كله بدهي أن الله عز وجل لا يفعل ، لا يظلم ، ولكنه لو فعل لم يكن ذلك نقصاً فيه ، لأنه يتصرف في ملكه كما يشاء ، هكذا يقولون ، لكن هذا في الحقيقة خطأ من ناحيتين :
الناحية الأولى : الناحية العربية أن الظلم ليس هو التصرف في مال الغير فقط وإنما هو كما ذكرنا آنفاً : " وضع الشيء في غير مكانه اللائق به " ، يدخل في هذا التعريف أن يأخذ مال الغير ، فمال زيد يأخذه عمرو فيضعه إلى ماله هذا ظلم وبغي ولكن ليس هذا هو الظلم فقط ، وإنما دائرة الظلم أوسع كما دل على ذلك نص الإمام الراغب الأصفهاني ، فحينما يتصور أحدهم بأنه من الممكن أن يُدخل أتقى الناس النار وأشقى الناس في الجنة فهذا وضع الشيء في غير محله بلا شك ، لذلك يكون هذا خلاف النص اللغوي الآتي في القرآن وفي الحديث .
ثانياً : لو كان الأمر كما زعمت الأشاعرة وهو أن التصرف في ملك الغير هو الظلم فقط وبناء على ذلك فإذا تصرف الله عز وجل في شيء مما يبدو لنا أنه ظلم فليس بظلم لأنه لم يتصرف في ملك غيره ، لو كان هكذا ، لم يكن هناك معنىً لتنزه الله عز وجل عن نسبة الظلم إلى نفسه في تلك الآيات وفي هذا الحديث ما دام أنَّ الظلم لا يمكن أن يُتصور صدوره منه ، لأنه مهما فعل بكون عم يتصرف في ملكه ، فحينئذٍ ما معنى تنزه الله عز وجل عن الظلم وهو لا وجود له إطلاقاً مهما كان تصرف رب العالمين .
3 - الرد على الأشاعرة في قولهم : يجوز لله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي ، فيجوز له أن يدخل النبي النار ويدخل إبليس الجنة . أستمع حفظ
بيان الرد على الأشاعرة في تجويزهم صدور الظلم من الله وأن ذلك تصرفاً في ملكه بقوله عليه السلام: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما ).
فربنا عز وجل يتنزه عن مثل هذا وعن دون هذا بصريح هذا الحديث : ( إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) :
إذن تعريف الظلم بالاصطلاح الأشعري هو أولاً : مخالفٌ للغة ، وثانياً : مخالف لكل نصوص الكتاب والسنة التي فيها تنزه الله عز وجل عن أن يظلم الناس شيئاً لأن هذا معناه أنه لو شاء لفعله ولكنه مع قدرته على ذلك فهو لا يفعل شيئاً من الظلم ، لأن له كل صفات الكمال ومن ذلك العدل وعدم الظلم .
هذه النقطة مما يستفاد بلا شك من أول هذا الحديث : ( يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسيه وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا ) .
ولا شك أن الله عز وجل حينما يصرح في آيات القرآن وفي هذا الحديث بأنه حرم الظلم على نفسه ففي ذلك تطمينٌ للمؤمنين الصادقين الصالحين ، وأن العاقبة للمتقين ، وأن الأمر ليس عند الله عز وجل فوضى لا نظام لها فهو كما قالت الأشاعرة : لو جعل محمداً عليه السلام في أسفل السافلين جاز وإبليس الرجيم في أعلى عليين جاز ، إذن الإنسان في هذه الحياة ... لا يدري أيسلم ، بينما الحقيقة أنَّ هذا المذهب بأن الله عز وجل يتصرف في ملكه كما يشاء دون مراعاة هذه النصوص التي طمأننا الله عز وجل بها لكي لا نيأس وكي لا نعيش مضطربين تُرى ربنا عز وجل بماذا يعامل الصالحين وبماذا يعامل الفاسقين ؟!
إنه تبارك وتعالى يخاطبنا لتطمئن نفوسنا ونشرح صدورنا كما جاء في آخر هذا الحديث : ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم ) كما في لفظ لمسلم ، ( فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) .
بينما لو الإنسان ركن إلى ذلك الرأي الأشعري لعاش في هذه الحياة مضطرباً ، لأنه مهما كد وجد وتعب ليسعد عند الله عز وجل ويكون من أهل الجنة والنعيم شو يدريك بلكي ربنا عز وجل يأخذه ويدخله النار ، وبالعكس ذاك الإنسان يشقى ويشقى وبيقول القضية مو بالعمل القضية بمشيئة الله عز وجل فقط فربما يدخلني الجنة ، صارت القضية فوضى لا نظام ، فهذا وحده يكفي لبيان خطأ هذا التفسير والظلم من أولئك الناس .
ثم في القرآن الكريم آية صريحة : (( أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون )) : إذا قيل لهم وقد فعلنا وقلنا لهؤلاء الأشاعرة : يا جماعة كيف تقولون يجوز لله تعذيب الطائع وإثابة العاصي ، أليس الله عز وجل يقول في هذه الآية : (( أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون )) ؟! يقولون : إننا نقول بجواز ذلك عقلياً لا أن الله عزوجل يفعل ذلك ، نقول سبحان الله ! ما الذي حشركم في هذا المأزق ما الذي أدخلكم في جحر الضب ما دمتم تعتقدون أن الله عز وجل لا يفعل ما يخالف أخباره المتواترة في القرآن والسنة ، فتقولون : يجوز ذلك عقلاً ، معنى هذا وهذه خطيرة جداً : أن العقل والشرع ليسا توأمان ، لا يجريان بعضهما مع بعض ، لأنه جائز عقلاً أن ربنا يعذب الطائع لكن شرعاً لا يفعل ، كيف يجوز لله عز وجل أن يُنسب إليه فعل لو فعله كان خلاف ما تنزه عنه من الظلم المذكور في هذا الحديث وفي غيره .
لذلك ففي هذا الحديث إصلاح لعقيدة من العقائد الإسلامية الصحيحة طالما انحرف عنها جماهير من علماء المسلمين وهم المعروفون بالأشاعرة والأشعرية حينما يدسون في كتبهم قاعدة : " لله تعذيب الطائع وإثابة العاصي " ، هذا نص موجود في *الجوهرة* وغيرها وشروحها وحواشيها إلى آخره.
فنحن نقول : لا يجوز لله عز وجل ويستحيل أن يظلم الناس قِيد شعرة لأن هذا ينافي كمال الله سبحانه وتعالى الكمال المطلق.
4 - بيان الرد على الأشاعرة في تجويزهم صدور الظلم من الله وأن ذلك تصرفاً في ملكه بقوله عليه السلام: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما ). أستمع حفظ
تتمة شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( ... يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم ).
قال : ( يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أُبالي فاستغفروني أغفر لكم ) :
في هذه الفقرة من هذا الحديث القُدْسي إخبار الله عز وجل لعباده بواقعهم وأنهم يخطئون ليلاً نهاراً ، ولكن كأنه يقول لهم : لا تيأسوا ، لا تيأسوا مِن روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، لأن الله عز وجل يقول : وإن كنتم تخطئون في الليل والنهار لكني أنا أيضاً موصوفٌ بصفةٍ أخرى من صفات الجلال والكمال كما وُصف بالتنزه عن الظلم فهو وصف نفسه تبارك وتعالى بأنه يغفر الذنوب جميعاً كما في القرآن أيضاً ، ولكن يريد من عباده أن لا يركنوا ولا أن يتواكلوا على مغفرة الله تبارك وتعالى ، وإنما عليهم أن يقوموا بواجب عبوديتهم له وخضوعهم له ، مِن ذلك أن يطلبوا منه أن يغفر لهم ذنوبهم ، أي : إن المسلم حينما يتذكر الحقيقة المتعلقة بنفسه وهو أنه خطَّاء ليلاً ونهاراً ، ويتذكر حقيقة أخرى متعلقة بالله تبارك وتعالى وهي أنه يغفر الذنوب جميعاً ، فينغي على هذا العبد أن يُثبت تمام عبوديته لله عز وجل فيطلب منه أن يناله وأن يشمله بمغفرته تبارك وتعالى ، لذلك جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولَجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) .
لما خلق هذا الكون ودبَّره وأحسن تدبيره كان مِن ذلك أن خلق الإنس خطائين ، لكن لا ليظلوا خطائين وإنما وتوابين ، خطائين وتوابين ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم غيركم ) : ماذا يفعل هؤلاء ؟
( يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) : لكن أنتم قد سددتم هذا الفراغ أي : أنكم تخطئون ، لكن عليكم أن تأتوا بالتتمة وهي أن تستغفروا الله عز وجل ليغفر لكم ، فقوله تبارك وتعالى في هذا الحديث : ( إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أُبالي فاستغفروني أغفر لكم ) : بيت القصيد من هذه الفقرة هي الجملة الأخيرة : ( فاستغفروني أغفر لكم ) ، فإذا كان أحدنا يشعر بأنه أخطأ يوماً ما فليتذكر بأن الله عز وجل يغفر الذنوب جميعاً وليتوجه إليه باستغفاره وطلب المغفرة منه .
وإن شاء الله في الدرس الآتي نتمم ما بقي من تمام هذا الحديث ، وبهذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين .
5 - تتمة شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( ... يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم ). أستمع حفظ
تتمة شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( ... يا عبادي كلكم جائع إلى من أطعمته فاستطعموني أطعمكم )
فكما أن الله تبارك وتعالى في هذه الفقرة التي فيها إخبار بأن من طبيعة البشر أن يخطئوا وأن يذنبوا فعليهم أن يتبعوا ذلك بطلب المغفرة من الله عز وجل حتى يغفر لهم ، كذلك هاهنا يقول ربنا عز وجل : إن الإنسان من حيث طاقته ومن حيث قدرته ومن حيث قطع مدد الله عز وجل عنه إنه جائع لا يستطيع أن يقيت نفسه ولا أن يعيلها ولا أن يطعمها ولذلك فربنا عز وجل أيضاً في هذه الفقرة كسابقتها يأمرنا أن نتعاطى السبب كما أمرنا في الفقرة السابقة أن نتعاطى السبب الذي به نستحق مغفرة الله عز وجل .
هنا يقول : ( فاستطعموني أعطعمكم ) أي : فاطلبوا مني الرزق أرزقكم ، وفي الواقع إن هذه الفقرة من هذا الحديث القدسي فاستطعموني أطعمكم له صلة مباشرة بذاك الحديث النبوي الصحيح الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه : ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تروح خماصاً وتعود بطاناً ) : هذا الحديث فيه ما في هذا الحديث القدسي من الأخذ بالأسباب خلافاً لما يتوهمه بعض الناس حيث يقولون : هذا ربنا عز وجل يرزق الطير ، ويقولون من باب المبالغة وهم مخطئون : هذا ربنا عز وجل يرزق الطير في أوكارها ، هذا خطأ ، ربنا عز وجل حتى الطير أوحى إليها أن تنطلق صباحاً وراء رزقها لتعود إلى أعشاشها ممتلئة بطونها لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو -صباحاً في الغدوة- خماصاً -جائعة-، وتروح -مساءً- بطاناً ) : مملئة البطون .
إذن التشبيه هنا ليس لأن الطير تظل ملازمة لأعشاشها فيرزقهم الله عز وجل وهم فيها لم يغادروها ، ليس كذلك ، وإنما لو توكلتم على الله حق التوكل قلباً ومن حيث الانطلاق وراء الرزق عملاً حينئذٍ يرزقكم الله تبارك وتعالى ، فإذن الحديث ليس فيه حض على التواكل كما يتوهم بعض الناس وإنما فيه حض التوكل على الله تبارك وتعالى ، مَثَلُه تماماً كمثل الفلاح الذي يحرث الأرض ثم يبذرها ، يلقي البذر فيها ويتعاطاها بالسقي وبالبحش والنبش ونحو ذلك متوكلاً على الله عز وجل ، لا يقول كما نهى عمر عنه حينما قال : " لا يقعدنَّ أحدكم في المسجد يقول : الله يرزقني ، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة " ، إذن الأمر كما قال تبارك وتعالى : (( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه )) ما قال : كلوا من رزقه وبس قال : (( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )) .
هكذا ربنا عز وجل في هذا الحديث القدسي يحض أيضاً عباده إلى الأخذ بسبب الإطعام من الله لعبده ، ولكنه قبل ذلك يذكّر هذا العبد بأنه ليس في يده شيء وإنما الأمر كله بيد الله تبارك وتعالى ، لذلك يقول : ( كلكم جائع إلا من أطعمته ) فإذن نحن نظل هكذا نفتح أفمامنا ونتلقى الرزق من ربنا فوق السماء ؟ !
لا ، وإنما قال : ( فاستطعموني أطعمكم ) يعني : اطلُبوا مني الطعام ، اطلبوا مني الرزق لأرزقكم أي : طلب الرزق يكون بسببين اثنين :
السبب الأول : وهو سبب مشترك بين المسلم والكافر وبين المسلم الصالح والطالح ألا وهو : الأخذ بالأسباب المادية التي أشرنا إليها آنفاً ، لكن المؤمن يمتاز على الكافر وبخاصة منه المؤمن الصالح بأنه لا يغتر بنفسه كما هو شأن الكافر يعتمد فقط على الأسباب المادية ولا يلتفت إلى خالق هذه الأسباب والمتصرف فيها كما يشاء ، المؤمن ليس كذلك ، وإنما هو يتعاطى السبب ويلتفت إلى الله عز وجل يطلب منه أن يبارك له في كسبه وأن يوسع له في رزقه ، فليس هو كشأن الكافر كل شيء عنده هو السبب المادي ونسي هؤلاء الكفار ربهم تبارك وتعالى ، كمثل ذلك الذي حكى الله عز وجل محاورته للمؤمن حين قال : (( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا *وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا )) :
هذا مثل الكافر الذي يعتمد على الأسباب المادية فقط ، أما المؤمن فيفترق عنه ، إنه لا يكفر بالأخذ بالأسباب المادية والسُّنن الكونية الطبيعية التي جعلها الله تبارك وتعالى سبباً للمسبَّبات ، المسلم لا يكفر بهذه الأسباب ، لكن في الوقت نفسه لا ينسى أن خلفها رب الأرباب تبارك وتعالى .
وهذا المؤمن حينما يتخذ الأسباب لو أن هذه الأسباب كانت بدائية أو كانت بسيطة سهلة فالله عز وجل بسبب إيمان هذا المؤمن الذي أخذ بالسبب الذي شرعه الله له ، ربنا عز وجل ييسر له من الأسباب ما لا تطولها أيدي الكفار مهما نبغوا ومهما افتكروا واخترعوا .
كنتُ ذكرتُ لكنَّ فيما بضى قصة ذلك الرجل الذي حكاها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في * صحيح مسلم * قال: ( بينما رجل ممن قبلكم يمشي في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً من السحاب يقول : يعني للسحاب اسقِ أرض فلان ) : فوجد هذا الإنسان الماشي على الأرض والذي سمع الصوت من السماء يخاطب السحاب المشحون بالمطر اتجهي إلى أرض فلان ، فلان ابن فلان ، تعجب هذا الذي يمشي على الأرض خاصة حينما رأى السحاب يتجه يمنة أو يسرة فسار وراء السحاب إلى أن وصل إلى أرض ، بستان متواضع وإذا بالسحاب يفرغ مشحونه من الماء في هذه الأرض في هذا البستان ، فأطل وإذا به يجد رجلاً يعمل في أرضه بمنكاشه أو مسحاته ، فسلَّم عليه بالاسم الذي سمعه من السماء ، فتعجب الرجل ورد عليه السلام وسأله إنه غريب فما الذي عرفه باسمه ؟!
فذكر له أنه سمع من السحاب صوتاً يقول : ( اسق أرض فلان فعرفت أنك أنت ، لأني رأيت السحاب يلقي مشحونه من المطر على أرضك فبما نلت ذلك ؟ -هنا الشاهد- قال : والله لا أعلم أمراً أستحق من ربي أن يكرمني كرامتي هذه سوى أن عندي هذه الأرض وأني أزرعها ثم أحصدها وأجعل حصيدها ثلاثَ أثلاث : ثلث أعيده إلى الأرض ) : حتى يتم رزقه ماشي بسببه .
( وثلث أنفقه على نفسي وعيالي ، وثلث أتصدق به على الفقراء والأمرامل قال له : بهذا ) : بهذا اكتسبت أن الله عز وجل سخر لك السماء خاصة فقط .
إذن هذا الحديث القُدسِي حين يقول فيه تبارك وتعالى : ( يا عبادي كلكم جائع إلا مَن أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) : يُلفِت النظر إلى أمرين اثنين ، أحدهما أهم من الآخر أُلخص ما قلت آنفاً :
الأمر الأول : أن المسلم يجب أن يعتمد على الله تبارك وتعالى في كل شيء ، في أن يهديه ، في أن يغفر له ، في أن يطعمه ، هذا الأمر الأول الاعتماد على الله عز وجل اعماداً كلياً .
الأمر الثاني : أن هذا الاعتماد وهذا التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب ، الأخذُ بالأسباب هو مِن الشرع ، لذلك قال تبارك وتعالى في الآية المعروفة : (( وإذا عَزمت فتوكل على الله )) : وإذا عزمتَ يعني صمَّمت وخططت لتنفيذ أمر ما فتوكل على الله ، ليس توكل على الله بمعنى التواكل وعدم الأخذ بالأسباب ، لا ، إنما اتخذ الأسباب وتوكل على رب الأرباب .
أكتفي الآن من التعليق على هذه الفقرة على اعتبار أنَّ عندنا سؤالاً من الدرس السابق ، وأظن أنه سيأخذ قِسطاً وافراً من الوقت ، لأنه يحتاج إلى شيء من البسط والبيان .
6 - تتمة شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : ( ... يا عبادي كلكم جائع إلى من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) أستمع حفظ
توضيح الشيخ لوجود الأصل الشرعي في تقبيل يد العالم ونحوه في الشرع لا أن التقبيل منهي عنه كما يفهم البعض.
قبل الإجابة عن السؤال مباشرة لا بد مِن لفت النظر إلى أن المسلم كلُّ مسلم سواء كان ذكراً أو أنثى يجب أن يتفهم إٍسلامه فهماً صحيحاً وليس فهماً سطحياً ، أقول هذا لأن في السؤال : الإسلام نهى عن تقبيل الأيدي ، حينما يقال : نهى الشارع عن كذا هذا النص معناه أن هناك فعلاً نصٌّ صريح في النهي عن كذا ، هنا مثلاً تقبيل اليدين كتقيل يد العالم أو الوالد أو نحو ذلك ، نحن حينما نذهب إلى عدم شرعية تقبيل اليد فإنما ذلك لمجموعةِ أدلة اجتمعت وأحاطت بالمسألة تَحمِلُنا على عدم اعتياد تقبيل اليد ، يد العالم فضلاً عن غيره ، بمجموعة أسباب ليس -وهنا الشاهد- ليس لأن هناك نهياً خاصاً عن تقبيل يد عالم أو والد ، لا ، فأنا حين أَقول : لا يشرع تقبيل اليد لا أعني أن هناك حديثاً صريحاً وصحيحاً بأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تقبيل اليد ، كيف وقد ذكرت في هذا الدرس الخاص بالنساء ومراراً في درس الرجال : " أن تقبيل اليد إنما يد العالم له أصل في الشرع ، وسطرت هذا وطبعته في بعض كتبي " ما أذكر الآن بالضبط هو على كل حال إحدى السلسلتين إما *الصحيحة * وإما * الضعيفة * فذكرت هناك بأن أصل تقبيل يد العالم الصالح هذا ثابت في الشرع أي : جائز ، لكنني أشرح المسألة فأقول في دروسي العامة والخاصة كما فعلتُ هناك أيضاً في الكتاب المشار إليه آنفاً :
أن ثبوت هذا الأصل لا يعني أنه يجوز لنا أن نجعل تقبيل يد العالم سنة متبعة مستمرة إلى درجة أنها تقضي على سنة صحيحة وثابتة من فعليه عليه السلام ومن قوله ألا وهي المصافحة ، فهذا التقبيل الذي له أصلٌ ثابت في السنة أصبح اليوم حلَّ محل المصافحة ، المصافحة تُشرع دائماً وأبدًا كما يقول بعض الصحابة عن نبينا صلى الله عليه وسلم : ( ما لَقِيَنا إلا وصافحنا ) : نفي وإثبات أي : كل ما لقينا صافحنا عليه السلام ، من الذي يقول هذا ؟ هو صحابي ، ومن الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحهم ؟ هم الصحابة أيضاً ، لكن ما أحد من هؤلاء يقول : كلما لقينا قبلنا يده ، أو صافحناه وقبَّلنا يده على أحسن الأحوال ، أبداً ، لا يُذكر في نص مطلقاً حتى ولا حديث موضوع أنهم كانوا كلَّما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم قبلوا يده ، لا يوجد شيء من هذا .
ولكن هناك حوادث متفرقة نادرة أنَّ فلاناً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده ، هذا في تاريخ الرسول عليه السلام كله ، في حياة النبوة والرسالة التي عاشها مرة مرتين ثلاثة ، مع غض النظر عن بعض الأحاديث الضعيفة في الموضوع ، فهذا الوقوع النادر يُثبت جواز تقبيل يد العالم ، لاسيما وجاء عن بعض الصحابة بعد وفاته عليه السلام أن أحدهم قبل يد غيره من أفاضل الصحابة ، لكن أعود لأكرر هذا على ماذا يدل ؟!
على الجواز ، لا يدل على الأفضلية وعلى شرعية الاستمرار في تقبيل الرجل ليد العالم كلما لقيه ، ليس قصدي بطبيعة الحال الآن التوسُّع في موضوع تقبيل اليد وما أحاط به مِن انحرافات ، لكن حسبي الآن أن أُذكر أن تقبيل اليد له أصل في السنة ، فلا نستطيع نحن أن نقول : نهى الإسلام عن التقبيل -هنا بيت القصيد- من هذه الكلمة ، لا يصح أن نقول : نهى الإسلام عن تقبيل اليد ، لأن تقبيل اليد ثابت في الجملة كما شرحتُ لكُنَّ آنفاً .
7 - توضيح الشيخ لوجود الأصل الشرعي في تقبيل يد العالم ونحوه في الشرع لا أن التقبيل منهي عنه كما يفهم البعض. أستمع حفظ
هل يجوز تقبيل يد الوالدين مع العلم أنهما يعتبران عدم تقبيلها معصية لهما ، وبالتالي معصية لله ؛ لأن طاعة الوالدين واجبة وهي طاعة لله ؟
جعلُ تقبيل يد العالم فضلاً عن الرجل الصالح غير العالم ، فضلاً عن الوالد أو الوالدة -قد يكونان صالحين أو طالحين- ، هذا لا يعني أن نجعل تقيل أيادي هؤلاء سنة مستمرة نتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى .
وإذا عرفنا هذا حينئذٍ يمكن أن ندخل للإجابة عن صلب الموضوع :
نحن نعيش اليوم في زمن أُميتت فيه السنن ، وأُحيِيَت فيه البدع ، فأصبح الإسلام غريباً كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم صراحة : ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) :
وصف الرسول عليه السلام الغرباء في عدة أوصاف ، يهمنا الآن قوله عليه الصلاة والسلام : ( الغُرباء هم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي ) .
فالآن نحمد الله أنه يوجد نشئٌ جديد أُخذ من جديد بتربيته على الإسلام الصحيح على الكتاب والسنة سواء كانوا من الشباب أو الشابَّات من الفتيان أو الفتيات ، ولكن المشكلة أن الجو غريب ، الذي يعيش فيه هؤلاء الشباب كلهم هو غريب ، انقلبت عندهم المفاهيم رأساً علىى عقب ، ولذلك خاصة إذا كان الذي يريد الإصلاح صغيراً والذي يُرادُ استصلاحه كبيراً ، وبصورة أخص إذا كان هذا الصغير ولداً والمراد إصلاحه والدًا أو والدةً فالمشكلة حينذاك عويصة جداً ، لأنه لا يُعقل عند هؤلاء أن يأتيَ الطفل الصغير فيعلم الوالد الكبير ، وكثيرًا ما نسمع كلمات مضحكة في هذا السبيل ، ولذلك من ابتلي -هذا نهاية المطاف حول هذا الجواب- : من ابتلي بوالدين لم يُربيا على الكتاب والسنة ، بل لم يطرق سمعَهما دعوة الكتاب والسنة ، بل يعتبرون هذه الدعوة بدعة من باب : " رمتني بدائها وانسلت " ، البدعة من عندهم صدرت ، إذا كان الوالدان من هذا القبيل فينبغي على الولد الصالح الناشئ على الكتاب والسنة أن يترفق في إرشادهما أولاً إن استطاع إلى ذلك سبيلاً ، فإن عَجز وهو عاجز في المئة تسعة وتسعين عن إرشادهما وعن هدايتهما فعليه أن يصاحبهما في الدنيا معروفاً .
سيقول القائل : طيب فما العمل ، نحن الآن أمام هذه المشكلة يريدون منا أن نصبحهم وأن نمسيهم بتقبيل اليد ؟!
أنا أعرف هذا فأقول كما قال عليه السلام : ( إن هذا الدين يُسرٌ فما مِن أحد يريد أن يشادده إلا غلبه ) أو كما قال عليه السلام ، وأٌقول : ( ساددوا وقاربوا ) .
- اشربي قاعدة يا بنت ، لا تشربي في القيام ما بتعرفي حبيبتي أن الرسول نهى عن الشرب قائماً ولا نسيانة، أنت مبينة هيك ، إصحك ثاني مرة ، تفضلي استريحي- .
فالشخص الذي ابتلي بمثل هذا الوالد فعليه أن يترفق به ولو وصل الأمر إلى يقبل يده ، لأني أقول : الذي يُقبل يد مثل هذا الوالد والمقبل يعني أنه يفعل ذلك مضطراً هذا أولاً ، ثم وهذا الذي دندنت حوله أولاً : لا يخالف نصاً صريحاً في ذلك ، كل ما في الأمر أن الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها أصحابُ الرسول عليه الصلاة والسلام مع نبينهم ، فضلاً عن أصحاب الرسول مع علمائهم ، فضلاً عن أبنائهم مع آبائهم ، لم يكن فيهم هذه العادة إطلاقاً إلا على سبيل الندرة كما ذكرنا أولاً .
فليس من يقبل يد الوالد أو الوالدة والوضع كما شرحت آنفاً بمخالف لنص في الشرع ، ولكن هو مخالف للوضع الاجتماعي العام الذي كان في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد السلف الصالح ، عهد القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية ، ونحن واجبنا أن نعود بأمتنا إلى ما كان عليه سلفنا ، كما قال الإمام مالك إمام دار الهجرة : " مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة ، اقرؤوا قول الله تبارك وتعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )) فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً ، ولا يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها " ، نحن نحاول أن نعود بنا وبغيرنا إلى عهد سلفنا الطاهر الأطهر بقدر ما نستطيع ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها .
خلاصة القول : مَن ابتُلِي بوالد أو والدة لم يستطع أن يحملهما على السنة وعلى أن يرضيا مِن الولد بالطاعة التي فرضها الله عز وجل ، لم يستطع أن يحملهم على ذلك ، فلا بأس عندي في رأي وفي اجتهادي من باب : "الضرورات تبيح المحظورات " أن يقبل هذا الولد المبتلى يد والده ، من باب " الضرورات تبيح المحظورات " ، لا من باب التقرب إلى الله كما هم يفعلون ، ولا من باب استحسان ما كان غير حسنًا في الزمن الأول ، وإنما من باب : " دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى " هذه قاعدة أصولية ، إذا أردنا أن نتعصب لرأينا وهو حق مع والدنا أو والدتنا فقد ينتج من وراء ذلك شر أكبر ، لذلك نتقي وندفع الشر الأكبر بالشر الأصغر ، وفي هذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين .