1 - و ذكر " أحاديث الصفات " ثم قال : " فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ، و وصفه بها نبيه ، و ليس في شيء منها تحديد و لا تشبيه ، و لا تقدير (ليس كمثله شيء و هو السميع البصير) [الشورى : 11] . لم تره العيون فتحده كيف هو ؟ و لكن رأته القلوب في حقائق الإيمان " اهـ . و كلام الأئمة في هذا الباب أطول و أكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره . و كذلك كلام الناقلين لمذهبهم . مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في " الغنية عن الكلام و أهله " قال : " فأما مات سألت عنه من الصفات ، و ما جاء منها في الكتاب و السنة ؛ فإن مذهب السلف إثباتها ، و إجراؤها على ظواهرها ، و نفي الكيفية و التشبيه عنها ، و قد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله ، و حققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه و التكييف ، و إنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ، و دين الله تعالى بين الغالي فيه و الجافي و المقصر عنه . و الأصل في هذا : أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ، و يحتذى في ذلك حذوه و مثاله ، فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد و تكييف . فإذا قلنا : يد و سمع و بصر و ما أشبهها ، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ، و لسنا نقول : إن معنى اليد : اقوة و النعمة ، و لا معنى السمع و البصر : العلم ، و لا نقول : إنها جوارح ، و لا نشببها بالأيدي و الأسماع و الأبصار التي هي جوارح و أدوات للفعل و نقول : إن القول إنما وجب بإثبات الصفات ؛ لأن التوقيف ورد بها ، و وجب نفي التشبيه عنها ؛ لأن الله ليس كمثله شيء ، و على هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات " هذا كله كلام الخطابي . أستمع حفظ
2 - و هكذا قاله أبو بكر الحافظ في رسالة له ، أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك . و هذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوا منه من العلماء من لا يحصى عددهم ، مثل أبي بكر الإسماعيلي ، و الإمام يحي بن عمار السجزي ، و شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب " منازل السائرين " و " ذم الكلام " و هو أشهر من أن يوصف ، و شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني ، و أبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب ، و غيرهم . و قال أبو نعيم الأصبهاني صاحب " الحلية " في عقيدة له قال في أولها : " طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب و السنة ، و إجماع الأمة ، قال : فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العرش و استواء الله يقولون بها ، و يثبتونها ، من غير تكييف ، و لا تمثيل ، و لا تشبيه ، و أن الله بائن من خلقه ، و الخلق بائنون منه ، لا يحل فيهم و لا يمتزج بهم ، و هو مستو على عرشه في شمائه ، دون أرضه و خلقه ". أستمع حفظ
3 - و قال الحافظ أبو نعيم في كتابه " محجة الواثقين و مدرجة الوامقين " تأليفه : " و أجمعوا أن الله فوق سمواته ، عال على عرشه ، مستو عليه ، لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان ، خلافا لما نزل في كتابه : (أأمنتم من في السماء) [الملك : 16] . (إليه يصعد الكلم الطيب) [فاطر : 10] . (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] . له العرش المستوي عليه ، و الكرسي الذي وسع السموات و الأرض ، و هو قوله : (وسع كرسيه السموات و الأرض) [البقرة : 255] . و كرسيه جسم ، و الأرضون السبع و السموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة ، و ليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية ، بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه ، كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و أنه ـ تعالى و تقدس ـ يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا ، كما قال تعالى : (( وجاء ربك والملك صفا صفا )) [ الفجر : 22 ] . وزاد النبي صلى الله عليه وسلم : وإنه - تعالى وتقدس - يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ، و يعذب من يشاء ، كما قال تعالى : (فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء) [البقرة : 184] . أستمع حفظ
4 - و قال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني ـ شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده ـ قال : " أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة ، و موعظة من الحكمة ، و أجمع ما كان عليه أهل الحديث و الأثر بلا كيف ، و أهل المعرفة و التصوف من المتقدمين و المتأخرين . قال فيها : و أن الله استوى على عرشه بلا كيف ، و لا تشبيه ، و لا تأويل ، و الاستواء معقول ، و الكيف فيه مجهول ، و أنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه ، و الخلق منه بائنون ، بلا حلول و لا ممازجة ، و لا اختلاط و لا ملاصقة ؛ لأنه الفرد البائن من الخلق ، الواحد الغني عن الخلق . و أن الله عز وجل سميع ، بصير ، عليهم ، خبير ، يتكلم ، و يرضى ، و يسخط ، و يضحك ، و يعجب ، و يتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا ، و ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء ، فيقول : " هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ " . حتى يطلع الفجر و نزول الرب إلى السماء بلا كيف و لا تشبيه ، و لا تأويل ، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال ، و سائر الصفوة من العارفين على هذا " اهـ . أستمع حفظ
5 - و قال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في " كتاب السنة " حدثنا أبو بكر الأثرم ، حدثنا إبراهيم بن الحارث ـ يعني : العبادي ـ ، حدثنا الليث بن يحي قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث ـ قال أبو بكر هو صاحب الفضيل ـ قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو ؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال : (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * و لم يكن له كفوا أحد) [سورة الإخلاص : 1-4] . فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه . و كل هذا النزول و الضحك ، و هذه المباهاة ، و هذا الاطلاع ، كما يشاء أن ينزل ، و كما يشاء أن يباهي ، و كما يشاء أن يضحك ، و كما يشاء أن يطلع ، فليس لنا أن نتوهم كيف و كيف ؟ فإذا قال الجهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه . فقل : بل أومن برب يفعل ما يشاء . و نقل هذا عن الفضيل جماعة ، منهم البخاري في " أفعال العباد " . و نقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه " الفاروق " فقال : حدثنا يحي بن عمار حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن يعقوب ، حدثنا حرمي بن علي البخاري و هانئ بن النضر ، عن الفضيل . و قال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه " التعرف بأحوال العباد و المتعبدين " قال : " باب ما يجيء به الشيطان للتائبين " و ذكر أنه يوقعهم في القنوط ، ثم في الغرور و طول الأمل ، ثم في التوحيد . فقال : من أعظم ما يوسوس في " التوحيد " بالتشكل ، أو في صفات الرب بالتمثيل و التشبيه ، أو بالجحد لها و التعطيل " فقال بعد ذكر حديث الوسوسة : " أستمع حفظ
6 - و اعلم ـ رحمك الله ـ أن كل ما توهمه قلبك ، أو سنح في مجاري فكرك ، أو خطر في معارضات قلبك ، من حسن أو بهاء ، أو ضياء أو إشراق أو جمال ، أو سنح مسائل أو شخص متمثل : فالله تعالى بغير ذلك ، بل هو تعالى أعظم و أجل و أكبر ، ألا تسمع لقوله : (ليس كمثله شيء) [الشورى : 11] . و قوله : (و لم يكن له كفوا أحد) [الإخلاص : 4] . أي لا شبيه و لا نظير و لا مساوي و لا مثل ، أولم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته و شامخ سلطانه ؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك ، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك ، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه و المثل ، و النظير ، و الكفء . فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب ـ تعالى و تقدس ـ في كتابه و سنة رسوله محمد صلى الله عليه و سلم ، فقال لك : إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه ؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك و يغويك ، و يدخلك في صفات الملحدين الزائغين ، الجاحدين لصفة الرب تعالى . و اعلم ـ رحمك الله تعالى ـ أن الله تعالى واحد ، لا كالآحاد ، فرد صمد ، لم يلد و لم يولد ، و لم يكن له كفوا أحد " . إلى أن قال : " خلصت له الأسماء السنية ، فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق ، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا و اسما كان منه بريا ـ تبارك و تعالى ـ فكان هاديا سيهدي ، و خالقا سيخلق ، و رازقا سيرزق ، و غافرا سيغفر ، و فاعلا سيفعل ، و لم يحدث له الاستواء إلا و قد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل ، فهو يسمى به في جملة فعله . كذلك قال الله تعالى : (و جاء ربك و الملك صفا صفا) [الفجر : 22] . بمعنى أنه سيجيء ، فلم يستحدث الاسم بالمجيء ، و تخلف الفعل لوقت المجيء ، فهو جاء سيجيء ، و يكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية و لا التشبيه ؛ لأن ذلك فعل الربوبية ، فيستحسر العقل ، و تنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود ، فلا تذهب في أحد الجانبين ، لا معطلا و لا مشبها ، و ارض لله بما رضي به لنفسه ، وقف عند خبره لنفسه مسلما ، مستسلما ، مصدقا ، بلا مباحثة التنفير و لا مناسبة التنقير " . أستمع حفظ
7 - إلى أن قال : " فهو ـ تبارك و تعالى ـ القائل : أنا الله لا الشجرة ، الجائي قبل أن يكون جائيا ـ لا أمره ـ المتجلي لأوليائه في المعاد ، فتبيض به وجوههم ، و تفلج به على الجاحدين حجتهم ، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان ـ تبارك و تعالى ـ الذي كلم موسى تكليما ، و أراه من آياته ، فسمع موسى كلام الله ، لأنه قربه نجيا ، تقدس أن يكون كلامه مخلوقا ، أو محدثا ، أو مربوبا ، الوارث بخلقه لخلقه ، السميع لأصواتهم ، الناظر بعينه إلى أجسامهم ، يداه مبسوطتان ، و هما غير نعمته ، خلق آدم و نفخ فيه من روحه ـ و هو أمره ـ تعالى و تقدس أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، الشائي له المشيئة ، العالم له العلم ، الباسط يديه بالرحمة ، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة ، و ليرغبوا إليه بالوسيلة ، القريب في قربه من حبل الوريد ، البعيد في علوه من كل مكان بعيد ، و لا يشبه بالناس " . إلى أن قال : " (إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه) [فاطر : 10] . القائل : (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) [الملك : 16-17] . تعالى و تقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء ، جل عن ذلك علوا كبيرا " اهـ . أستمع حفظ
8 - و قال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي ، في كتابه المسمى " فهم القرآن " قال في كلامه على الناسخ و المنسوخ ، و أن النسخ لا يجوز في الأخبار قال : " لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته ، و لا أسمائه يجوز أن ينسخ منها شيء " . إلى أن قال : " و كذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى ، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب ، و أنه لا يبصر ما قد كان ، و لا يسمع الأصوات ، و لا قدرة له ، و لا يتكلم ، و لا كلام كان منه ، و أنه تحت الأرض ، لا على العرش ، جل و علا عن ذلك . فإذا عرفت ذلك و استيقنته علمت ما يجوز عليه النسخ و ما لا يجوز ، فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون : (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت) الآيات [يونس : 90] . و قال : (حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين) [محمد : 31] " . و قال : " قد تأول قوم أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار ؛ لأنه آمن عند الغرق ، و قال : " إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه ، و قال : (فأوردهم النار) [هود : 98] . و قال : (و حاق بآل فرعون سوء العذاب) [غافر : 45] . و لم يقل : بفرعون . قال : و هكذا الكذب على الله ؛ لأن الله تعالى يقول : (فأخذه الله نكال الآخرة و الأولى) [النازعات : 25] . كذلك قوله : (فليعلمن الله الذين صدقوا) [العنكبوت : 3]. فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علما بشيء ؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه ـ نجده ضرورة ـ قال : (ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير) [الملك : 14] . قال : و إنما قوله : (حتى نعلم المجاهدين) [محمد : 31] . إنما يريد حتى نراه ، فيكون معلوما موجودا ؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون ، و يعلمه موجودا كان قد كان ، فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا و إن لم يكن ، و هذا محال " . و ذكر كلاما في هذا في الإرادة . أستمع حفظ
9 - إلى أن قال : " و كذلك قوله : (إنا معكم مستمعون) [الشعراء : 15] . ليس معناه أن يحدث له سمعا ، و لا تكلف بسمع ما كان من قولهم ، و قد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعا في ذاته ، فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول ؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت ، أستمع حفظ
10 - و كذلك قوله : (و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون) [التوبة : 105] . لا يحدث بصرا محدثا في ذاته ، و إنما يحدث الشيء فيراه مكونا ، كما لم يزل يعلمه قبل كونه " . إلى أن قال : " و كذلك قوله تعالى : (و هو القاهر فوق عباده و هو الحكيم الخبير) [الأنعام : 18] . و قوله : (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] . و قوله : (أأمنتم من في السماء) [الملك : 16] . وقوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه) [فاطر : 10] . و قال : (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) [السجدة : 5] . و قال : (تعرج الملائكة و الروح إليه) [المعارج : 4] . و قال لعيسى : (إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا) الآية [آل عمران : 55] . و قال : (بل رفعه الله إليه) [النساء : 158] . و قال : (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) [الأعراف : 206] . و ذكر الآلهة : أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو ، فقال (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) [الإسراء : 42] . أي طلبه ، و قال : (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى : 1] . قال أبو عبد الله : فلن ينسخ ذلك لهذا أبدا . كذلك قوله : (و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله) [الزخرف : 84] . و قوله : (و نحن أقرب إليه من حبل الوريد) [ق : 16] . وقوله : (و هو الله في السموات و في الأرض يعلم سركم و جهركم) [الأنعام : 3] . و قوله : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) [المجادلة : 7] . الآية ، فليس هذا بناسخ لهذا ، و لا هذا ضد لذلك . و اعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته ، فيكون في أسفل الأشياء ، أو ينتقل فيها لانتقالها ، و يتبعض فيها على أقدراها ، و يزول عنها عند فنائها ، ـ جل و عز ـ عن ذلك ، و قد نزع بذلك بعض أهل الضلال ؛ فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائنا ، كما هو على العرش ؛ لا فرقان بين ذلك ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه ؛ لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه ، و احتجوا بهذه الآيات أن الله ـ تعالى ـ في كل شيء بنفسه كائنا ، ثم نفوا معنى ما أثبتوه ، فقالوا : لا كالشيء في الشيء . قال أبو عبد الله لنا : قوله : (حتى نعلم) [محمد : 31] . (فسيرى الله) [التوبة : 105] . (إنا معكم مستمعون) [الشعراء : 15] . فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا ، و يسمعه مسموعا ، و يبصره مبصرا ، لا على استحداث علم و لا سمع و لا بصر . و أما قوله : (إذا أردنا) [الإسراء : 16] . إذا جاء وقت كون المراد فيه . و أن قوله : (على العرش استوى) [طه : 5] . (و هو القاهر فوق عباده) الآية [الأنعام : 18] . (أأمنتم من في السماء) [الملك : 16] . (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) [الإسراء : 42] . أستمع حفظ
11 - فهذا و غيره مثل قوله : (تعرج الملائكة و الروح إليه) [المعارج : 4] . (إليه يصعد الكلم الطيب) [فاطر : 10] . هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش ، فوق الأشياء كلها ، منزه عن الدخول في خلقه ، لا يخفى عليه منهم خافية ، لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده ؛ لأنه قال : (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) [الملك : 16] . يعني : فوق العرش ، و العرش على السماء ؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء ، و قد قال مثل ذلك في قوله : (فسيحوا في الأرض) [التوبة : 2] . يعني على الأرض ، لا يريد الدخول في جوفها ، و كذلك قوله : (يتيهون في الأرض) [المائدة : 26] . يعني : على الأرض ، لا يريد الدخول في جوفها ، و كذلك قوله : (و لأصلبنكم في جذوع النخل) [طه :71] . يعني : فوقها عليها . و قال : (أأمنم من في السماء) [الملك : 16] . ثم فصل فقال : (أن يخسف بكم الأرض) [الملك : 16] . و لم يصل ، فلم يكن لذلك معنى ـ إذا فصل قوله : (من في السماء) [الملك : 16] . ثم استأنف التخويف بالخسف ـ إلا أنه على عرشه فوق السماء . و قال تعالى : (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) [السجدة : 5] . و قال : (تعرج الملائكة و الروح إليه) [المعارج : 4] . فبين عروج الأمر و عروج الملائكة ، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال : (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) [المعارج : 4] . فقال : صعودها إليه ، و فصله من قوله : (إليه) . كقول القائل : اصعد إلى فلان في ليلة أو يوم ، و ذلك أنه في العلو و إن صعودك إليه في يوم ، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل ، و إن صعودك إيه في يوم ، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل ، و إن كانوا لم يروه و لم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض ، و عرجوا بالأمر إلى العلو ، قال تعالى (بل رفعه الله إليه) [النساء : 158] . و لم يقل : عنده . و قال فرعون : (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) [غافر : 36-37] . ثم استأنف الكلام فقال : (و إني لأظنه كاذبا) [غافر: 37] . فيما قال لي أن إلهه فوق السموات . فبين الله أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال ، و عمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ، و لو أن موسى قال : إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته ، أو في بدنه ، أو حشه ـ فتعالى الله عن ذلك ـ و لم يجهد نفسه ببنيان الصرح . قال أبو عبد الله : " و أما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها ـ و لم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه ـ فقال : (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات و ما في الأرض) [المجادلة : 7] . فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ، ثم ختم الآية بالعلم ، بقوله : (إن الله بكل شيء عليم) [المجادلة : 7] . فبدأ بالعلم ، و ختم بالعلم ، فبين أنه أراد أن يعلمهم حيث كانوا ، لا يخفون عليه ، و لا يخفى عليه مناجاتهم ، و لو اجتمع القوم في أسفل ، و ناظر إليهم في العلو فقال : إني لم أزل أراكم ، و أعلم مناجاتكم لكان صادقا ـ و لله المثل الأعلى أن يشبه الخلق ـ فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة و قالوا : هذا منكم دعوى . خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة ؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر ؛ هو معهم لا فيهم ، و من كان مع شيء خلا جسمه ، و هذا خروج من قولهم . و كذلك قوله تعالى : (و نحن أقرب إليه من حبل الوريد) [ق : 16] ؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء ، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد . و كذلك قوله : (و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله) [الزخرف : 84] . لم يقل في السماء ثم قطع ـ كما قال : (أأمنتم من في السماء) [الملك : 16] . ثم قطع فقال : (أن يخسف بكم الأرض) . فقال : (و هو الذي في السماء إله) . يعني إله أهل السماء و إله أهل الأرض ، و ذلك موجود في اللغة تقول : فلان أمير في خراسان ، و أمير في بلخ ، و أمير في سمرقند ، و إنما هو في موضع واحد ، و يخفى عليه ما وراءه ، فكيف العالي فوق الأشياء ، لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره ، فهو إله فيهما إذ كان مدبرا لهما ، و هو على عرشه و فوق كل شيء ، تعالى عن الأشباه و الأمثال " اهـ . أستمع حفظ