شرح الفتوى الحموية الكبرى-11
الشيخ صالح آل الشيخ
الفتوى الحموية الكبرى
الحجم ( 5.48 ميغابايت )
التنزيل ( 1246 )
الإستماع ( 149 )


1 - فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة ـ و إن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة ـ فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا و الممات ، باطنا و ظاهرا . و أما الذين وافقوه ببواطنهم و عجزوا عن إقامة الظواهر ، و الذين وافقوه بظواهرهم و عجزوا عن تحقيق البواطن ، و الذين وافقه ظاهرا و باطنا بحسب الإمكان : فلا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به ، و يسمونهم بأسماء مكذوبة ـ و إن اعتقدوا صدقها ـ كقول الرافضي : من لم يبغض أبا بكر رضي الله عنه و عمر ، فقد أبغض عليا ؛ لأنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة منهما ، ثم يجعل من أحب أبا بكر و عمر ناصبيا ، بناء على هذه الملازمة الباطلة ، التي اعتقدها صحيحة ، أو عاند فيها و هو الغالب . و كقول القدري : من اعتقد أن الله أراد الكائنات ، و خلق أفعال العباد : فقد سلب من العباد الاختيار و القدرة ، و جعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها و لا قدرة . و كقول الجهمي : من قال إن الله فوق العرش . فقد زعم أنه محصور ، وأنه جسم مركب محدود ، وأنه مشابه لخلقه . وكقول الجهمية المعتزلة : من قال إن الله علماً وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب ، و أنه مشبه ؛ لأن هذه الصفات أعراض ، و العرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز ، و كل متحيز جسم مركب ، أو جوهر فرد ، و من قال ذلك فهو مشبه ؛ لأن الأجسام متماثلة . و من حكى عن الناس " المقالات " و سماهم بهذه الأسماء المكذوبة ـ بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها ـ فهو و ربه ، و الله من ورائه بالمرصاد ، و لا يحيق المكر السيء إلا بأهله . أستمع حفظ

2 - و جماع الأمر : أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات و أحاديثها ستة أقسام ، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة : قسمان يقولان : تجري على ظواهرها . و قسمان يقولان : هي على خلاف ظاهرها . و قسمان يسكتون . أما الأولون فقسمان : أحدهما : من يجريها على ظاهرها و يجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ، و مذهبهم باطل ، أنكره السلف ، و إليهم يتوجه الرد بالحق . الثاني : من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله ، كما يجري ظاهر اسم العليم و القدير ، و الرب و الإله ، و الموجود و الذات ، و نحو ذلك ، على ظاهرها اللائق بجلال الله ، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث ، و إما عرض قائم به . فالعلم ، و القدرة ، و الكلام ، و المشيئة ، و الرحمة ، و الرضا ، و الغضب ، و نحو ذلك : في حق العبد أعراض ، و الوجه و اليد و العين في حقه أجسام ، فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما و قدرة ، و كلاما و مشيئة ـ و إن لم يكن ذلك عرضا ، يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين ـ جاز أن يكون وجه الله و يداه صفات ليست أجساما ، يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين . و هذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي و غيره عن السلف ، و عليه يدل كلام جمهورهم ، و كلام الباقين لا يخالفه ، و هو أمر واضح ، فإن الصفات كالذات ، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات ، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات . فمن قال : لا أعقل علما و يدا إلا من جنس العلم و اليد المعهودين . قيل له : فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ، و من المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته و تلائم حقيقته ؛ فمن لم يفهم من صفات الرب ـ الذي ليس كمثله شيء ـ إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله و دينه . و ما أحسن ما قال بعضهم : إذا قال لك الجهمي : كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه و نحو ذلك ؟ فقل له : كيف هو في ذاته ؟ فإذا قال لك : لا يعلم ما هو إلا هو ، و كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر . فقل له : فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف ، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته ؟! و إنما تعلم الذات و الصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك . بل هذه " المخلوقات في الجنة " قد ثبت عن ابن عباس أنه قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، و قد أخبر الله تعالى : إنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، و أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن في الجنة : " ما لا عين رأت و لا أذن سمعت ، و لا خطر على قلب بشر " . فإذا كان نعيم الجنة و هو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه و تعالى . أستمع حفظ

3 - و هذه " الروح " التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها ، و إمساك النصوص عن بيان كيفيتها ، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى ؟! مع أنا نقطع بأن الروح في البدن ، و أنها تخرج منه و تعرج إلى السماء ، و أنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة ، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة و من وافقهم ، حيث نفوا عنها الصعود و النزول ، و الاتصال بالبدن و الانفصال عنه ، و تخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن و صفاته ، فعدم مما ثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها ، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص ، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ ، و أنى لهم بذلك ؟!. و لا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم و البخار مثلا ، أو صفة من صفات البدن و الحياة ، و أنها مختلفة الأجساد ، و مساوية لسائر الأجساد في الحد و الحقيقة ، كما يقول طوائف من أهل الكلام ، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن ، و أنها ليست مماثلة له ، و هي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا ، فإذا كان مذهبنا في حقيقة " الروح " و صفاتها بين المعطلة و الممثلة ، فكيف الظن بصفات رب العالمين ؟!. و أما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ، أعني الذين يقولون : ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط ، و إن الله لا صفة له ثبوتية ، بل صفاته إما سلبية و إما إضافية و إما مركبة منهما ، أو يثبتون بعض الصفات ـ و هي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر ـ أو يثبتون الأحوال دون الصفات ، و يقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث ، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين ، فهؤلاء قسمان : 1 - قسم يتأولونها و يعينون المراد مثل قولهم : استوى بمعنى استولى ، أو بمعنى علو المكانة و القدر ، أو بمعنى ظهور نوره للعرش ، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه ، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين . 2 - و قسم يقولون : الله أعلم بما أراد بها ، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه . و أما القسمان الواقفان : 1 - فقوم يقولون : يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله ، و يجوز أن لا يكون المراد صفة الله و نحو ذلك . و هذه طريقة كثير من الفقهاء و غيرهم . 2 - وقوم يمسكون عن هذا كله و لا يزيدون على تلاوة القرآن ، و قراءة الحديث ، معرضين بقلوبهم و ألسنتهم عن هذه التقديرات ، فهذه " الأقسام الستة " لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها . و الصواب في كثير من آيات الصفات و أحاديثها ، القطع بالطريقة الثابتة : كالآيات و الأحاديث الدالة على أن الله سبحانه و تعالى فوق عرشه ، و يعلم طريقة الصواب في هذا و أمثاله بدلالة الكتاب و السنة و الإجماع على ذلك ، دلالة لا تحتمل النقيض ، و في بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض ، و تردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم و الإيمان ، و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور . أستمع حفظ

4 - و من اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام يصلي من الليل قلا : " اللهم رب جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل ، فاطر السموات و الأرض ، عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . و في رواية لأبي داود : أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك . فإذا أفتقر العبد إلى الله و دعاه ، و أدمن النظر في كلام الله و كلام رسوله و كلام الصحابة و التابعين و أئمة المسلمين ، انفتح له طريق الهدى ، ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة و المتكلمين في هذا الباب ؛ و عرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة ، و رأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها ، أو شبهة مركبة من قياس فاسد ، أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية ، أو دعوى إجماع لا حقيقة له ، أو التمسك في المذهب و الدليل بالألفاظ المشتركة . ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم ـ أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان ـ ازداد إيمانا و علما بما جاء به الكتاب و السنة فإن " الضد يظهر حسنه الضد " و كل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما ، و بقدره أعرف إذا هدي إليه . فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه ، و على من قد أنهاه نهايته ، فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية ، و من أنهاه فقد عرف الغاية ، فما بقي يخاف من شيء آخر ، فإذا ظهر له الحق و هو عطشان إليه قبله ، و أما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمة هؤلاء . و قد قال بعض الناس : أكثر ما يفسد الدنيا : نصف متكلم ، و نصف متفقه ، و نصف متطبب ، و نصف نحوي ، هذا يفسد الأديان ، و هذا يفسد البلدان ، و هذا يفسد الأبدان ، و هذا يفسد اللسان . و من علم أن المتكلمين من المتفلسفة و غيرهم في الغالب في قول مختلف يؤفك عنه من أفك : يعلم الذكي منهم و العاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة ، و أن حجته ليست ببينة ، و إنما هي كما قيل فيها : حجج تهافت كالزجاج تخــالها حقا و كل كاسر مكســـــور و يعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد و النعال ، و يطاف بهم في القبائل و العشائر ، و يقال : هذا جزاء من أعرض عن الكتاب و السنة ، و أقبل على الكلام . و من وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر ـ و الحيرة مستولية عليهم و الشيطان مستحوذ عليهم ـ رحمتهم و ترفقت بهم ، أوتوا ذكاء ، و ما أوتوا ذكاء و أعطوا فهوما و ما أعطوا علوما ، و أعطوا سمعا و أبصارا و أفئدة : (فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله و حاق بهم ما كانوا به يستهزئون) [الأحقاف : 26] . و من كان عليما بهذه الأمور : تبين له بذلك حذق السلف و علمهم و خبرتهم ، حيث حذروا عن الكلام و نهوا عنه ، و ذموا أهله و عابوهم ، و علم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب و السنة لم يزدد من الله إلا بعدا . فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين آمين . و الحمد لله رب العالمين ، و صلاته و سلامه على محمد خاتم النبيين و آله و صحبه أجمعين . أستمع حفظ