تحت باب الربا.
تتمة فوائد حديث:( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا ً على خيبر , فجاءه بتمر جنيبٍ ... ).
أن اختلاف النوع لا يؤثر أيضًا في منع الربا اختلاف النوع ، وأظنكم تعرفون الفرق بين النوع والجنس ؟
الطالب : نعم .
الشيخ : التمر كله جنس لكنه أنواع : سكري مثلا ، وشقراء ، أم الحمام ، أنواع كثيرة ، لكن اختلاف النوع لا يؤثر .
وعلى هذا فلا يجوز أن أبيع صاعًا من السكري بصاعين من الشقر ، كذا ؟ وإن كان النوع مختلفا ، بدليل أن الجمع تمر مخلط ، مختلف الأنواع ، ومع ذلك منع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعه متفاضلا بالجنيب الذي لم يخلط معه شيء ، فدل هذا على أن اختلاف النوع لا يؤثر في منع الربا .
ومن فوائد الحديث : أنه لا يجوز إمضاء العقد المشتمل على محرم ، بل الواجب أن يعاد هذا العقد وأن يفسخ ، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الرواية الأخرى : ( ردوه ) ، وهذا يدل على بطلان العقد وإن كان الإنسان جاهلا .
فإن قال قائل : أليس الله تعالى قد قال في كتابه : (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )) ؟
فالجواب : بلى ، قال ذلك ، ونحن لا نقول : إننا نؤاخذك بخطئك أو نسيانك بل أنت معذور وليس عليك إثم ، لكن إمضاء العقد الذي أبطله الشرع بعد أن تعلم بأنه باطل لا بد أن تبطله ، لو أنك تعمدت عن علم وذكر لكنت آثما مع وجوب الرد ، أما الآن فلست بآثم لكن يجب الرد .
طيب ومن فوائد الحديث : أنه ينبغي للإنسان المفتي إذا ذكر المنع أن يذكر للناس باب الحل ، حتى إذا أُغلق الباب من جهة انفتح لهم الباب من جهة أخرى ، وجه ذلك : أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أرشده إلى هذا لما قال : هذا ممنوع ما خلاه حزين لا يدري ماذا يصنع ، بل أرشده فقال : ( بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا ) ، ( ثم اشتر بالدراهم جنيبًا ) ، وهكذا ينبغي للمفتي وللعالم ولكل من يتكلم في أمر الشرع : إذا ذكر للناس الباب الممنوع أن يذكر لهم الباب الجائز حتى يكونوا على بصيرة وحتى تمشي أحوالهم ، لأن الناس لا بد أن يتعاقدوا ويتعاملوا .
ومن هذا لو أن الإنسان ذكر للناس بدعة يتعبدون لله بها ، وقال لهم : هذه بدعة مثلا ، ينبغي أن يفتح لهم باب سنة ، فمثلا يقول : يغني عنها كذا ، إذا قال : هذه بدعة قال : يغني عنها كذا وكذا .
مثلا إذا قال : بدعة المولد -وما دمنا الآن في شهر ربيع الأول والليلة الخامسة عشرة فإننا قريبوا عهد بمن يحتلفون بالليلة الثانية عشرة من هذا الشهر بما يقولونه من صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم- إذا قلنا لهم : إن هذا بدعة وليس بسنة لا عن الرسول ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين ، نقول : بدل من هذا الذي تدَّعون أن فيه ذكراً للرسول عليه الصلاة والسلام إما أن نقول لكم : إن ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام فرض كفاية على المسلمين كل يوم خمس مرات عند حلول الصلوات ، في إيش ؟
الطالب : الأذان .
الشيخ : في الأذان ، أشهد أن محمدا رسول الله على رؤوس الأشهاد ، وإن ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في كل عبادة ، كل عبادة فالإنسان الفطين الكيس يذكر النبي عليه الصلاة والسلام ، ليس يذكره باسمه ولكن يذكره بالاتباع ، كل عبادة لا بد فيها من الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنت حين تستحضر المتابعة سيكون في قلبك ذكر للرسول عليه الصلاة والسلام .
ثم في الصلوات الخمس : السلام عليك أيها النبي فرض ، إما أن تكون فرضا مرتين في الصلاة أو مرة واحدة .
فإذا ذكرنا لهم هذه البدعة قلنا لهم : عندكم سنة كثيرة ، إيش تقولون في هذا ؟ عن هذه البدعة ؟
فالمهم أن الإنسان الذي ينبغي له ، الذي يتصدى للناس بالإفتاء أو غيره إذا ذكر لهم الشيء الممنوع فليذكر لهم الشيء الذي يحل محله .
طيب ، وهذا كما أنه مما وجه إليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه مما وجه إليه الخالق عز وجل فقال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا )) : لما نهى عن هذه اللفظة راعنا ، فتح لهم لفظا آخر فقال : (( وقولوا انظرنا )) : حتى يستغنوا بما أباح الله عما حرم الله .
ومن ذلك قول لوط عليه الصلاة والسلام لقومه : (( أتأتوان الذكران من العالمين )) ويش بعدها ؟ (( وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم )) : هؤلاء الأزواج مخلوقون لكم تدعونهم وتذهبون إلى الشيء المحرم .
فالحاصل : أن هذه من الأشياء التي وجه الله إليها في كتابه ، ووجهت إليها المرسل : أنك إذا سددت بابا على الناس فافتح لهم أبواب الحل .
ومن فوائد هذا الحديث : أن بعض العلماء استدل به على جواز العينة ، أو على جواز الحيلة كما يقولون : بع التمر بالدراهم : إذا بعته على زيد بالدراهم واشتريت به بالدراهم تمرا طيبا واشتريت به تمرا طيبا ، فيقولون : إن هذا يدل على جواز التحيل على الربا ، جواز التحيل على الربا ، كيف ؟!
لأنك بدلا من أن تقول : خذ هذا التمر الرديء صاعين وأعطنا صاعا تقول : خذ هذا التمر الرديء بعشرة ريالات ، وأعطني صاعا بعشرة ريالات ، وهذه حيلة ، حيلة : يعني تمر بتمر دخلت بينهما دراهم غير مقبوضة ، ولكن هذا الاستدلال ليس بصحيح ، لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً ) مطلق ، ما قال : اشتر ممن تبيع عليه ، ولا اشتر من غيره ، فهو مطلق ، والمطلق يقيد بما دلت عليه السنة من طريق آخر وهو : تحريم الِحيل ، فإن السنة دلت على تحريم الحيل ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : ( قاتل الله اليهود ، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه -يعني أذابوه- ثم باعوه فأكلوا ثمنه ) :
فدعا عليهم لكونهم تحيلوا ، لما حُرمت عليهم الشحوم قالوا : لا نأكل الشحوم نذوبها ثم نبيعها ثم نأخذ الدراهم .
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد في * المسند * قال : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) .
ومن المعلوم أن الذي يحرم صاعاً بصاعين من التمر تأبى حكمته أن يحل لك أن تقول : بعتك هذين الصاعين بعشرة دراهم فأعطني بها صاعا من التمر الطيب ، هذا تلاعب ، فليس في الحديث دليل على ما ذهبوا إليه لأنه مطلق ، والمطلق يجب أن يقيد بما دلت عليه النصوص من تحريم الحيل .
أظننا لا نكمل فوائد الحديث الذي مضى ، وهنا تنبيه قبل ، ذكرت أمس في حديث : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) أنه رواه أحمد ، وهذا وهم مني ، لكن ذكره شيخ الإسلام في كتاب * إبطال التحليل * وقال : " إن إسناده جيد " فليتنبه لذلك .
طيب نأخذ الفوائد :
من فوائد الحديث : جواز اختيار الأجود من المأكولات وأنه لا ينافي الزهد ، من أين يؤخذ ؟ مِن أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الرجل على اختيار التمر الجيد ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل : لا ، فاختيار الأجود من الأنواع لا شك أنه جائز لهذا الحديث ، ولم يناف الزهد ، لأن الزهد حقيقته : " ترك ما لا ينفع في الآخرة " ، هذا الزهد ، والورع : " ترك ما يضر في الآخرة " ، فالزهد أشمل من الورع لأن الزاهد يترك كل شيء لا ينفعه في الآخرة .
فإن قال قائل : إذا قلنا : إن اختيار الأجود من المأكولات لا ينافي الزهد ، فهل يمكن أن نحوله إلى زهد ؟
فالجواب : نعم ، إذا قصد الإنسان التعبد بهذا المأكول الطيب لمنة الله به عليه ، وليعرف منة الله بذلك ، صار عبادة فصار نافعا في الآخرة .
طيب ومن فوائد هذا الحديث : جريان الربا في الذهب والفضة إذا خصصنا لفظ الميزان بهما ، أو في كل موزون إذا قلنا بالعموم ، وأنه لا يجوز التفاضل .
ومن فوائد الحديث : الرد على الذين قالوا بجواز الربا إذا لم يشتمل على ظلم ، حيث عللوا تحريم الربا بأنه ظلم وقالوا : إذا انتفت العلة انتفى الحكم ، وبنوا على هذا جواز الربا للاستثمار لا للاستغلال ، من أين يؤخذ ؟
مِن أن هذه المعاملة ما فيها ربا ما فيها ظلم ، أُخذ منه صاع جيد ورد عليه صاعان رديئان .
وكذلك باذل الزيادة لم يُظلم ، لأنه يرى أن أخذ الصاع الطيب بالصاعين كسب له وليس فيه ظلم عليه ، فدل هذا على أن الربا ممنوع سواء وجدت العلة التي من أجلها ثبت الحكم أم لم توجد .
وهذا الحديث لا شك أنه يدمغ هؤلاء الذين قالوا بالجواز إذا كان الربا من أجل الاستثمار وتنمبة الاقتصاد كما زعموا .
فنقول : هذا الحديث ما فيه ظلم ، بل فيه اختيار وإرادة .
طيب ومن فوائد الحديث أيضًا : أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم على عباده شيئا فتح لهم بابا للحل .
بل إننا نقول : إن أبواب الحل أكثر من أبواب المنع ، أخذًا من قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي فيما كتبه عنده : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) : فالغضب يترتب عليه المنع ، كما حرم الله على الذين هادوا بسبب ظلمهم : (( فبظلم من الذين هادوا حرَّمنا عليهم طيبات أحلت لهم )) ، والرحمة سبب السعة والحل ، وباب المباحات في المعاملات أكثر من باب المحرمات ، نعم .
2 - تتمة فوائد حديث:( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا ً على خيبر , فجاءه بتمر جنيبٍ ... ). أستمع حفظ
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر التي لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر . رواه مسلم .
طيب قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة ) :
النهي : هو " طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة معلومة وهي المضارع المقرون بلا الناهية " ، فقولنا : طلب الكف : خرج به الأمر وما ليس بنهي مما أبيح .
وقولنا : على سبيل الاستعلاء : خرج به الدعاء والالتماس ونحوهما .
وقولنا : بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية ، خرج به الأمر المفيد للكف ، أو الأمر الذي يفيد طلب الكف ، مثل : دع ، واترك ، واجتنب ، لأن هذا يفيد معنى النهي لكنه بلفظ الأمر فلا يسمى نهيا اصطلاحا .
( نهى عن بيع الصُبرة من التمر ) : الصبرة الكومة من التمر ، وسُميت صُبرة لأنها محبوسة ، مجموع بعضها إلى بعض ، مثل : أن يكون عند الإنسان كومة من التمر ، يقول : ( التي لا يعلم مكيلها ) : يعني لا يُعلم كم كيلها .
(بالكيل المسمى ) أي : المعلوم من التمر ، ووجه النهي : أنه يشترط في بيع التمر بالتمر المساواة في الكيل ، فهنا لا تعلم المساواة ، لأن هذه صبرة غير معلومة ، والعوض تمر معلوم ، ولكن المعلوم مع المجهول لا يجعل المجهول معلوماً ، فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الصُبرة بالتمر المعلوم كيله لأن التساوي فيه غير معلوم .
طيب فإن قال قائل : أرأيتم لو خرصه ، وقال : إنها تساوي مئة صاع ، ثم باعها بمئة صاع ؟
فالجواب : لا يفيد ذلك شيئاً ، ولا يفيد الحِل ، لأن الخرص ظن وتخمين ، لا تعلم به المساواة .
طيب فإن قال قائل : أليست السنة قد جاءت بجواز بيع العرايا ، وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر المعلوم بخرص الرطب ؟
فالجواب : بلى ، ولكن هناك فرق بين العَرايا وبين هذه الصُبرة ، لأن العرايا فيها رطب ، والرطب يُعتبر أكله تفكها في وقته ، والإنسان بحاجة إلى التفكه في وقت الرطب بالرطب ، فمن أجل هذه الحاجة أباح الشارع العرايا .
أما تمر بتمر صبرة مكومة بتمر فليس فيه حاجة ، فلهذا يكون الفرق بينها وبين العرايا ظاهرًا .
3 - وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر التي لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر . رواه مسلم . أستمع حفظ
فوائد حديث :( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر ... ).
أولا : تحريم بيع الصُبرة من التمر بكيل معلوم منه ، لأن الأصل في النهي التحريم .
ومن فوائده : أنه لو جرى العقد على ذلك فالعقد فاسد ، لأنه منهي عنه لعينه ، والشيء إذا نهي عنه لعينه فإنه لا يصح ، لأن تصحيحنا إياه مع نهي الشارع عنه مضادة لحكم الله عز وجل ، فإن نهي الشارع عنه يقتضي البعد وإحباط هذا الشيء ، فإذا صححناه فمقتضى ذلك الإذن بممارسته ، والعمل به .
ومن فوائد هذا الحديث : التشديد في مسألة الربا حيث إن ما يُشترط فيه التماثل لا بد أن يكون تماثله معلوماً .
ومن فوائده : أنه إذا كان الصبرة معلومة الكيل فباعها بتمر معلوم الكيل نعم فلا بأس بذلك .
وظاهر الحديث أي : ظاهر هذا المفهوم : أنه لا يشترط إعادة كيل الصبرة بعد العقد ، لأن الأصل بقاؤها على ما هي عليه ، وإن كان احتمال النقص أو الزيادة واردا لكن الأصل بقاؤها على ما كانت عليه ، نعم لو فُرض أن كيلها كان سابقًا بزمن يمكن أن تتغير فيه فإنه لا بد أن يعاد كيلها ، من أين نأخذ جواز بيع الصبرة بالتمر المعلوم كيله إذا كانت معلومة الكيل ؟ من قوله : ( التي لا يعلم مكيلها ) ، فإنه يؤخذ منه : أنه إن كان يعلم مكيلها فلا بأس ، ولا حاجة إلى إعادة الكيل ، خلافا لبعض أهل العلم الذين قالوا : لا بد من الكيل بعد العقد ، لأنه يحتمل أن تكون اختلفت ، فإت التمر إذا ضمر مثلا نقص عن الكيل الأول ولا لا ؟
الطالب : ينقص .
الشيخ : ينقص عن الكيل الأول ، فنقول : نعم إذا تقدم الكيل بزمن يمكن فيه التغير وجب إعادة كيله وإلا فلا .
ومن فوائد الحديث : جواز قبض المكيل بالكيل الحاصل قبل العقد إذا لم يمض زمن يمكن أن يتغير فيه ، يعني مثلا : لو اشتريتُ منك طعاما كيلا بدراهم ، فإنه لا يجوز أن أبيعه حتى أكيله ، هكذا جاءت السنة ، لكن إذا كان البائع قد كاله أمامك قبل العقد وعرفت أنه لم يتغير فإنه يجوز الاعتماد على الكيل الأول ، والدليل على هذا هذا الحديث ، فإن ظاهره أنه إذا كانت الصبرة معلومة الكيل فلا حاجة إلى إعادة كيلها .
كذلك الطعام الذي اشتريته مكايلة ، وقد كاله البائع بزمن لم يتغير فيه فلا بأس أن أقبضه بناء على الكيل الأول .
طيب ومن فوائد الحديث : أنه لا يجوز بيه صبرتين من التمر بعضهما ببعض ، ها لماذا ؟
الطالب : أشد جهالة .
الشيخ : لأن هذا أشد جهالة مما إذا كان أحدهما معلوما ، نعم إلا إذا علمنا كيلهما بزمن لا يتغير فيه التمر فلا بأس .
" وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه " .
الطالب : ... .
الشيخ : نعم ؟
الطالب : يشير إلى القاعدة التي ذكرناها سابقا وهي : " أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل " .
الشيخ : كالعلم التفاضل نعم ، هذا يشير إلى القاعدة التي ذكرناها سابقا : وهي أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل إي نعم .
وعن معمر بن عبدالله رضي الله عنه قال : إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الطعام بالطعام مثلا بمثل ) وكان طعامنا يومئذ الشعير . رواه مسلم .
( إني كنت أسمع ) : هذا حكاية حال ماضية بالفعل المضارع الدال على الحال ، وفائدة التعبير هكذا : الإشارة إلى أن يتصور الأمر وكأنه الآن ، تأكيدًا لضبطه إياه ، وإلا فمن الممكن أن يقول : ( إني سمعت ) ، ومن المعلوم لنا جميعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن دائمًا يتكلم بهذا وهذا يسمعه دائما ، لكن سمعه مرة وقال : ( كنت أسمع ) تحقيقا لضبطه لهذا السماع ، وأنه كأنه حاضر الآن .
يقول : ( الطعام بالطعام مثلا بمثل ) : يعني في القدر ولا في الصفة ؟
الطالب : في القدر .
الشيخ : في القدر ليس في الصفة ، لأنه في الصفة لا يجوز أن يبيع صاعا طيبا بصاعين طيبين ، ولا يمكن أن يبيع صاعا طيبا بصاع طيب من جنس واحد لأن هذا عبث ، لكن المراد مثلا بمثل في المقدار ، وقد سبق لنا الاستشهاد بمجيء المثْل بمعنى المقدار ، في قوله تعالى : (( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن )) .
قال : ( وكان طعامَنا يومئذ الشعير ) : أنا عندي هكذا ، على أن طعام خبر مقدم ، والتقدير : وكان الشعير طعامَنا يومئذ ، وفائدة تقديم الخبر : الحصر يعني كأنه يقول : ليس لنا طعام إلا الشعير ، ويجوز أن يقال : ( وكان طعامُنا يومئذ الشعير ) : يعني الإخبار عن طعامهم بأنه الشعير لا عن الشعير بأنه طعامهم ، ولكن قد صح في البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في زكاة الفطر قال : ( كنا نخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام ، وكان طعامنا الشعير والتمر والزبيب والأقط ) ، والجمع بينهما :
إما أن يقال باختلاف الأحوال ، فأحيانا لا يوجد في الغالب إلا الشعير ، وقد توجد الأصناف الأربعة .
وإما أن يقال : بأن الأصناف كلها موجودة ولكن أكثرها الشعير ، وهذا هو الأقرب : أنها كلها موجودة لكن أغلبها الشعير .
على كل حال هذا الحديث يدل على أن بيع الشعير بالشعير لا بد أن يكون متماثلا ، ولكنَّ قوله يقول : ( الطعام بالطعام ) : قد يقال : إن في ذلك إشارة إلى العلة ، إلى علة الربا ، وهي : الطَّعم ، ولكن لا شك على هذا التقدير أنه لا يراد به كل مطعوم ، إذ لو أريد به كل مطعوم لدخل حتى الماء ، لأن الماء عند الإطلاق يدخل في الطعام ، كما قال تعالى : (( فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده )) .
ولكن المراد بالطعام ما يُطعم على أنه قوت ، فإن الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يأكلون الشعير على أنه قوتهم ، يعني الذي هو مدد غذائهم ، وعلى هذا فيكون في هذا الحديث إشارة إلى القول الراجح في هذه المسألة : وهو أنَّ علة الربا في الأصناف الأربعة التي في حديث عبادة بن الصامت هو الطعم ، لكن نضيف إلى ذلك الكيل ، لأن كل الأحاديث الواردة في ذلك تقدر هذا بالكيل ، وعلى هذا فالطعام المكيل الذي يطعم ويقتاته الناس هو الذي يجري فيه الربا ، وأما الطعام الذي لا يكال أو ما ليس بقوت فإنه لا يجري فيه الربا ، مثل : الفاكهة على اختلاف أنواعها ، والخضار ، والسدر والإشنان ، والحناء ، وما أشبهها ، كل هذه ليس فيها ربا .
5 - وعن معمر بن عبدالله رضي الله عنه قال : إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الطعام بالطعام مثلا بمثل ) وكان طعامنا يومئذ الشعير . رواه مسلم . أستمع حفظ
فوائد حديث :( الطعام بالطعام مثلا بمثل ).
أولا : أن بيع الطعام بالطعام لا بد أن يكون متماثلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثلا بمثل ) .
ثانيا : بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شغف العيش ، وأن طعامهم الشعير الذي في عصرنا هذا لا يمكن أن يكون طعامًا للآدميين .
وفي هذا دليل على أن إمداد الناس بالمال والبنين لا يدل على أنهم خير القرون ، لأنه بلا شك خير القرون هم الصحابة ، ومع هذا فهذه حالهم في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم .
ومن فوائد هذا الحديث : جواز إخبار الإنسان عن نفسه وإن كان الإخبار يدل على البؤس ، لقوله : ( وكان طعامَنا الشعير ) .
والإنسان إذا أخبر بما يفيد البؤس عن نفسه فلا يخلو :
إما أن يكون المقصود مجرد الخبر ، أو يكون المقصود التسخط على القدر ، أو يكون المقصود التشكي إلى المخلوق :
فأما الأول فلا بأس به ، وقد قال لوط عليه الصلاة والسلام للملائكة : (( هذا يوم عصيب )) .
وأما الثاني الذي يقصد به التسخط ، ولوم القدر ، فإن هذا لا يجوز ، قال الله تعالى في الحديث القدسي : ( يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الله والنهار ) .
وأما الثالث وهو الذي يقصد به التشكي إلى المخلوق ، فهذا لا شك أنه أيضًا لا يجوز ، لا يجوز للإنسان أن يشكو الخالق إلى المخلوق ، لأن المخلوق لا يرحمك والله يرحمك ، ولهذا قيل :
" وإذا شَكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ " .
وهذا صحيح ، والإنسان لا يجوز له أن يشكو الخالق عز وجل إلى أحد ، فكيف إذا شكاه إلى مخلوق ضعيف ؟ هذا المخلوق لو أصيب بمثلك يستطيع أن يزيل عن نفسه ذلك ؟!
الطالب : لا .
الشيخ : لا .
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصلها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( لا تباع حتى تفصل ) . رواه مسلم .
المهم أن النبي عليه الصلاة والسلام غَنِم منها مغانم منها مغانم الذهب ، فكانت هذه القلادة مما غُنم ، فبيعت باثني عشر ديناراً ، وهذه رواية مسلم ، وقد اختلفت الروايات في مقدار الثمن الذي بيعت به اختلافاً كثيرًا ، حتى إن بعضهم ادَّعى أن الحديث ضعيف لاضطرابه ، لأن اضطراب الرواة كما تعرفون في نقل الحديث يؤدي إلى ضعفه ، إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح ، لأن الاضطراب يشترط فيه شرطان :
ألا يمكن الجمع ، وألا يمكن الترجيح ، فإن أمكن الجمع جُمع ، وزال الاضطراب وإن أمكن الترجيح أُخذ بالراجح وشذذ ما سواه .
ولكن الصحيح ما حققه ابن حجر -رحمه الله- أن الاختلاف في مثل هذا لا يضر ، لأن هذا الاختلاف لا يعود إلى أصل الحديث ، إذ إن أصل الحديث متفق عليه وهو بيع القلادة بذهب ، أما المقدار فلا يتعلق به حكم ، ونظير ذلك اختلاف الرواة في مقدار ثمن جمل جابر ، فقد اختلفوا فيه اختلافا كثيرا ومع ذلك لم يُعد هذا من الاضطراب ، لأن الاختلاف ليس في أصل الحديث ، أما الاختلاف في أصل الحديث مثل أن يكون أحدهم روى النهي والثاني رواه بلفظ الأمر أو ما أشبه ذلك مما يعود إلى أصله ، فهذا نعم يحكم فيه بالاضطراب إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح .
طيب على كل حال : نحن لا يهمنا مقدار الثمن ، الذي يهمنا صيغة العقد والمعقود عليه ، جنسه ، أما القدر فلا يهم .
يقول : ( باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز ) :
( فيها ذهب وخرز ) كما هي العادة في القلادة : أن يكون فيها خرز من ذهب ، وخرز من خزف أو نحوه .
يقول : ( ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا ) : يعني وجدت فيها من الذهب أكثر من اثني عشر دينارا وذلك بالوزن ، فكان الذهب الذي فيها يزن أكثر من اثني عشر دينارًا ، ومعلوم أن بيع الذهب بالذهب لا بد فيه من التساوي ، يقول : ( فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تباعُ حتى تفصل ) ، لما أخيره قال : ( لا تباع حتى تفصل ) أي : تفصل من أي شيء ؟ من الخرز ، ويُجعل الذهب وحده والدنانير وحدها ، ثم توزن فإذا تساوت وزناً جاز بيعها .
وقوله : ( لا تباع ) لم يقل : لا تفعل ، قال : ( لا تباع ) : فيفيد أن هذا البيع يجب إبطاله وإعادته ، لأنه بيع فاسد باطل .
هذا الحديث كما تعلمون فيه شراء جنس من الربوي بجنسه مع التفاضل ، والقاعدة الشرعية في بيع الربوي بجنسه ، الأخ ! ما هي القاعدة الشرعية ؟
الطالب : بيع التفاضل بجنسه ؟
الشيخ : بيع التفاضل بجسنه ، الظاهر ما أنت معنا ، ها ؟ إيش ؟
الطالب : كنت أنظر إلى الحديث .
الشيخ : إي ، الحديث يعني أمهل عليه ، يمكن بعد الدرس تراجعه ، أما الشرح يروح ويخليك يا أخ .
الطالب : يشترط فيه شرطان .
الشيخ : أن بيع ؟
الطالب : أن بيع الربوي يشترط فيه شرطان .
الشيخ : ها .
الطالب : التقابض والتساوي .
الشيخ : طيب .
هذا الحديث يدلنا عليه أنه قال : ( فصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا ) .
7 - وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصلها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( لا تباع حتى تفصل ) . رواه مسلم . أستمع حفظ
فوائد حديث: ( فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً ... ).
الفائدة الأولى : أنَّ ما غُنم من مال الكفار فهو ملك للغانمين ، ولذلك صح العقد عليه ، فهل ما ملكوه منا ملك لهم ؟
الصحيح : نعم ، أنه ملك لهم ؟ الصحيح نعم أنه ملك لهم ، لأنهم يأخذونه على أنه حل لهم ، ولأن الكفار في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يغنمون من المسلمين يعني قصدي : يكسبون من المسلمين ويبيعونه تبع أموالهم ، فما ملكناه من أموالهم فهو لنا ، وما ملكوه من أموالنا فهو لهم ، كما أن من قتلوه مِنا لا يضمنونه ، من قتلوه منا لا يضمن عليهم ولو أسلموا ، لأنهم يعتقدون أن هذا حلال .
ومن فوائد هذا الحديث : أن الصنعة لا تؤثر في اشتراط التساوي إذا بيع الربوي بجنسه ، وجه ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباع حتى تفصل ) .
فإن قال قائل : الزيادة هنا في المصنوع ، وكلامنا إذا كانت الزيادة في غير المصنوع ؟
فيقال : إذا منع الشرع الزيادة في المصنوع فعكسه من باب أولى .
طيب ومن فوائد هذا الحديث : ما ذهب إليه أكثر أهل العلم أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه ومعه أو ومعهما من غير جنسهما ، لا يجوز بيع الربوي بجنسه معه أو معهما من غير جنسهما ، مثال ذلك : باع بُرًا وتمرًا ببر ، هذا لا يجوز لأن مع أحدهما من غير الجنس .
ولأننا نقول هنا : إن كان الجنس هنا مساويا للجنس الذي جعل عوضا عنه فالذي معه يعتبر زيادة ، أو لا ؟ يعني باع صاع بر ، ومعه نصف صاع تمر بصاع بر ، نقول : هذا صار برا ببر ومع أحدهما زيادة وهذا لا يجوز .
وإن كان البر الذي معه التمر وبيع به البر أنقص من البُر الذي جعل عِوضا عنه فقد بيع البر بالبر مع التفاضل وهذا أيضا لا يجوز .
فإن كان البر المفرد أطيب من البر الذي معه غيره بحيث تكون قيمة الاثنين مساوية لقيمة البر فهذا أيضًا لا يجوز ، لأنه سبق لنا أن الوصف لا يبيح الزيادة .
طيب فإن كان المفرد الذي ليس معه شيء أكثر من الذي معه شيء ، لكن زيادة المفرد تقابل الشيء الذي مع العوض فهل يجوز ؟
الطالب : لا .
الشيخ : لا يجوز يعني مثال ذلك : باع صاعين من البر بصاع من البر وصاع من التمر والقيمة سواء ؟!
هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال : إنها تجوز جعلا للصاع الزائد عن الصاع ، يعني جعلا للزائد في المفرد في مقابل المشفوع في المثنى ، واضح ؟
الطالب : نعم .
الشيخ : يعني يقول : هذان الصاعان من البر بصاع من البر وصاع من التمر ، نجعل صاعا من التمر في مقابل صاع من البر ، والصاع من البر في مقابل الصاع من البر وحينئذ لا ربا .
فيقول هذا القائل : إنه إذا كان مع المفرد ، أو إذا كان في المفرد زيادة تقابل ما مع المشفوع من غير الجنس فإن ذلك جائز ، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد ، فيجعلون الزيادة في الجنس في مقابل المصاحب للمشفوع ، ويقولون : نجعل صاعا بصاع ، وصاعا من التمر بالزيادة التي مع البر .
وكذلك لو باع صاع بر وتمر بصاع بر وتمر ، يقولون أيضًا : لا بأس به ، لأنا نجعل البر مقابل التمر ، والتمر مقابل البر ، معلوم ولا لغة ؟
الطالب : ... .
الشيخ : يقولون مثلا : رجل أتى بصاع من البر وصاع من التمر ، وباعهما على شخص آخر بصاع من البر وصاع من التمر ، يقول : هذا أيضًا جائز لأنك أنت إن جعلت صاعا من البر في مقابل صاع من البر وصاعا من التمر في مقابل صاع من التمر فهذا جائز ، وإن جعلت صاعا من البر في مقابل صاع من التمر وصاعا من التمر في الطرف الآخر في مقابل صاع من البر فهذا أيضا جائز ولا محظور ، وهذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، والرواية الثانية عن أحمد وهو الصحيح ، هذا هو الصحيح لأن العلة منتفية هنا .
فإذا كان مع هذا الزائد الذي مع العوض المقابل له زيادة تقابل الزيادة في هذا فقد بعت طعاما بطعام مع التساوي ولا محظور في ذلك ، لأن الكمية الزائدة في المفرد تقابَل بالمشفوع مع الطرف الآخر ، وهذا الحديث لا يمنع القول بذلك ، لأن هذا الحديث فيه أن القلادة زادت على الثمن ، أليس كذلك ؟
الطالب : بلى .
الشيخ : فإذا كانت زادت على الثمن فهي ليست موضع النزاع ، فإن ما دل عليه الحديث هذا ممنوع على القولين جميعا ، أما لو فُرض أن القلادة أقلّ من الذهب ، أقل من الدنانير ومنعها الرسول عليه الصلاة والسلام لكان هذا فصلا للنزاع أيضا ، ودليلا على أنه لا يجوز أن يكون العوض المفرد مقابلا بشيئين من جنسين ولو كانت القيمة واحدة .
فالحاصل أن هذا الحديث لا يمنع القول بما ذهب إليه أبو حنيفة والإمام أحمد في رواية ، واختاره الشيخ تقي الدين -رحمه الله- .
ومن فوائد هذا الحديث : حرص الصحابة على معرفة الأحكام الشرعية ، لأن فضالة بعد أن اشتراها ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم .
ومنها : أن الله عز وجل حافظ دينه ومتممه ، وأن الشيء إذا وقع على خلاف ما يرضاه فلا بد أن يقيض الله سبحانه وتعالى حالا يتبين بها ما يرضي الله عز وجل ، وجه ذلك : أن هذا ذَكَر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أتم العقد ، وإلا لو سكت ما كان هناك شيء بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، وإن كان إقرار الله يدل على رضاه به .
طيب ومن فوائد هذا الحديث أيضًا : أن ما وقع على وجه فاسد وجب ردة لقوله : ( لا يباع حتى تفصل ) ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنسان عالما أو جاهلا ، فلو عقد عقدًا فاسدًا وهو جاهل فإن العقد لا يصح ، ولكن لا يُؤاخذ الإنسان بهذا العقد إذا كان جاهلا لقوله تعالى : (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )) .
ومن فوائد هذا الحديث : سد الذرائع الموصلة إلى الربا ، مما يدل على أن الربا أمره عظيم ، وأن الشارع سد كل ذريعة تؤدي إلى الربا ، وإلا فمن الجائز أن يقال : إن القيمة تعتبر واحدة لأن الذهب المصوغ دون الذهب غير المصوغ .
8 - فوائد حديث: ( فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً ... ). أستمع حفظ
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة . رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن الجارود .
هذا الحديث يقول : هو من رواية الحسن البصري عن سمرة وهو مختلف في سماعه منه ، قال الأثرم : قال أبوعبد الله : " لا يصح سماعه منه " ، " وأحاديث المنع كلها ليس منها حديث يعتمد عليه انتهى " : نعم ، هذه المسألة الحديث ظاهر يقول : ( نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ) أي : مؤخرا بدون قبض .
والحيوان عرفا هو البهيمة ولا يطلق على الإنسان حيوان ، وما ذهب إليه المناطقة من وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق فهو اصطلاح ، وإلا فإن العرف وأظن اللغة العربية أيضاً لا تسمي الإنسان حيوانا .
وقوله : ( نهى عن بيع الحيوان بالحيوان ) أي : في حال حياتهما ، وأما بعد الذبح فإنه لا يسمى حيواناً وإنما يسمى لحماً .
ففهم من هذا الحديث : تحريم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، مثل : أن يبيع الإنسان بعيرًا ببعير بدون قبض .
وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون البعيران من جنس أو من جنسين ، مثل : أن يبيع بعيرًا ببقرة أو بعيرًا ببعير ، ولكن هذه المسألة فيها خلاف ، فمن العلماء من قال : الحيوان بالحيوان أي : من جنسه كبيع البر بالبر ، أما إذا كان من غير الجنس فإنه لا بأس ببيعه به نسيئة ، مثل : أن يبيع بقرة ببعير أو بقرة بثلاث شياه أو أربعة ، أو ما أشبه ذلك.
قالوا : لأنه إذا كان لا يجري الربا في بيع الجنس بغير جنسه في الطعام ، ففي الحيوان من باب أولى ، لأن الحيوان لا يكال ولا يوزن ، فليس فيه علة ربا النسيئة .
وإذا قلنا : بأن الحديث ليس بصحيح وأنه منقطع ، فإنه يجوز أن يباع الحيوان بالحيوان نسيئة كما يجوز بيع الحيوان بالحيوان مقبوضًا ، مقبوضًا غير مؤخر ، وسيأتي إن شاء الله في حديث عبد الله بن عمرو : ( أنَ الرسول عليه الصلاة والسلام أمره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل ، فكان يأخذ البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة ) : فإن هذا الحديث فيه التفاضل مع النسيئة .
طيب ثم قال : " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " .
الطالب : الفوائد .
الشيخ : فوائد الحديث نعم .
9 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة . رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن الجارود . أستمع حفظ
فوائد حديث :( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ... ).
النهي عن بيع الحيوان بالحيوان بدون قبض .
وجواز بيع الحيوان بالحيوان مع القبض .
وظاهره أنه لا فرق بين أن يكونا متساويين كبعير ببعير ، أو أحدهما أكثر من الآخر كبعير ببعيرين .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) . رواه أبو داود من رواية نافع عنه , وفي إسناده مقال , ولأحمد نحوه من رواية عطاء , ورجاله ثقات , وصححه ابن القطان .
الطالب : ( وأخذتم أذناب البقر ) .
الشيخ : نعم ، ( وأخذتم أذناب البقر ) .
طيب يقول : ( إذا تبايعتم بالعينة ) : تبايعتم يعني أوقعتم عقود البيوع ، وسمي هذا العقد مبايعة لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه إلى الآخر ليسلمه العوض ، فالمشتري يمد باعه إلى البائع ليسلمه الثمن ، والبائع يمد باعه إلى المشتري ليسلمه المثمن طيب .
وقوله : ( بالعينة ) : العينة فعلة على وزن فعلة من العين وهو الورق أو الذهب أو النقد عموما ، والمراد به بالعينة : أن يبيع شيئا بثمن مؤجل ، ثم يشتريه بأقل منه نقدًا ، هذه العينة ، " أن يبيع شيئا بثمن مؤجل ثم يشتريه ممن باعه عليه بأقل منه نقدًا " ، سواء كان هذا الشيء ربويا أم غير ربوي ، مثال ذلك : باع عليه سيارة بعشرين ألفًا إلى مدة سنة ، ثم عاد فاشتراها منه نقدًا بخمسة عشر ألفًا فإن هذا بيع عينة ، وسُمي بذلك لأن المشتري لم يُرد السلعة وإنما أراد العين أي : النقد ، النقد لينتفع به ، ودليل ذلك : أنه اشتراها بثمن زائد مؤجل ، ثم باعها على من اشتراها منه بنقد ، فكأنه لم يقصد هذه السلعة وإنما قصد الثمن الدراهم ، فلهذا سمي بيع عينة .
طيب هذا بيع محرم ، لأنه رُتبت عليه عقوبة ، وإنما كان بيعا محرمًا لأنه وسيلة إلى الربا بحيلة ، والحِيل لا تبيح المحرمات ، ولا تسقط الواجبات .
الوصف الثاني : ( وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ) : وهاتان الجملتان متلازمتان ، لأن قوله : ( أخذتم أذناب البقر ) يعني للحرث عليها ، فإن الحارث على البقرة يكون وراءها يسوقها ، فيأخذ بذنبها ويسوقها .
( رضيتم بالزرع ) : يعني زرع الأرض التي حرثتم بها على هذه البقرة .
( وتركتم الجهاد ) : يعني لم تجاهدوا في سبيل الله لا بأموالكم ولا بأنفسكم ولا بألسنتكم ولا بأقلامكم ، ركنتم إلى الخلود ، ولم تتحركوا لنصرة دين الله عز وجل ، والغالب أن هذا ملازم لهذا ، يعني أن الذي ينهمك في طلب الدنيا ويتحيل على الحصول عليها حتى بما حرم الله ، الغالب أنه يترك الجهاد ، لأن قلبه انشغل بالدنيا عنه .
قال إذا حصل هذه الأربع : ( سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، ( سلط الله عليكم ذلاً ) : يعني : ضربكم بذل ، والذل ضد العز ، صرتم أذلة أمام الناس .
( حتى ترجعوا إلى دينكم ) : يعني إلى إقامة الدين على الذي يرضاه الله عز وجل ، لأن الإنسان لا يخرج بهذه الأوصاف عن الإسلام لكنه يخرج عن كمال الإسلام كما هو معروف .
هذا الحديث فيه الوعيد الشديد على من اتصف بهذه الصفات الأربع : التحيل في بيعهم على المحرم على الربا ، والثاني : الرضا بالحرث وأذناب البقر عن الجهاد في سبيل الله .
نعم يقول : فيه ثلاث ولا أربع ؟
الطالب : أربعة .
الشيخ : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ) أربعة ، لكن فيها شيء ملازم للشيء ، إذا حصلت هذه الأوصاف سلط الله على الأمة هذا الذل الذي لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم .
11 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) . رواه أبو داود من رواية نافع عنه , وفي إسناده مقال , ولأحمد نحوه من رواية عطاء , ورجاله ثقات , وصححه ابن القطان . أستمع حفظ
فوائد حديث :( إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر .... ).
الفائدة الأولى : تحريم بيع العينة وهي كما وصفت لكم ، أن يبيع شيئا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا ، مثل أن يبيع سيارة بعشرين ألف ، ثم يشتريها من مشتريها بخمسة عشر ألفا نقدًا هذه عينة ، فإن اشتراها من غير مشتريها يعني بأن باعها الذي اشتراها منه ثم اشتراها الأول من المشتري الثاني ، فإن هذا ليس من العينة ، لأنه ليس فيه حيلة إلا أن يكون هناك موافقة بأن يقول البائع الأول للمشتري : بعها على فلان فأشتريها منه ، فإن الحيلة لا تنفع . طيب فإن باعها بعد أن تغيرت صفتها ثم اشتراها البائع بأقل مما باعها به بعد تغير الصفة ، فهل هذا جائز ؟ ها ؟
ينظر بالنقص إن كان في مقابل ما نقص من قيمتها التي باعها به فإن هذا لا بأس به ، مع أن الورع تركه لئلا ينفتح الباب ، مثاله : باع عليه سيارة بعشرين ألفا إلى سنة ، ثم حصل عليها حادث فنقصت قيمتها خمسة آلاف ، فاشتراها بخمسة عشر ألفاً فهل يجوز هذا أم لا ؟
الطالب : يجوز .
الشيخ : يجوز لكن مع ذلك الأورع تركه والأحوط لئلا يكون ذلك ذريعة إلى بيع العينة .
طيب فإن اشتراها بأقل من نقص السعر لا لفوات صفة ، فالظاهر أن ذلك لا يجوز ، يعني كانت تساوي عشرين ألفا لكن نزل السعر ، فاشتراها بقدر ما نزل فقط ، لا بالفرق بين النقد والمؤجل ، فالظاهر أن ذلك لا يجوز ، وإن اختلف السعر ، لأنه حيلة ظاهرة .
فإن اشتراها بمثل ما باعها به ؟
الطالب : جائز .
الشيخ : نعم فهذا لا بأس به لأنه من الجائز أن يبيعها عليه بعشرين ألفا إلى سنة وهي تساوي خمسة عشر ألفا ثم ترتفع الأسعار فتكون تساوي عشرين ألفا نقدا فاشتراها بعشرين ألفا يعني بمثل ما باعها به فإن هذا لا بأس به ، فصارت مسائل العينة الآن لها عدة صور : صور جائزة وصور ممنوعة : الممنوعة : أن يبيعها بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منه ، أن يبيعها بثمن مؤجل ثم يشتريها منه لنقص السعر هذه الثنتين لا تجوز .
أن يبيعها بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منه ويكون النقص بمقدار ما نقص من صفتها لحدوث عيب فيها أو هُزال في حيوان فهذه جائزة ولكن الأولى تركها . الرابعة : أن يشتريها بمثل ما باعها به ، فهذا جائز ، لأنه ليس فيه محظور. الخامسة : أن يشتريها بأكثر مما باعها به فهذا أيضًا جائز من باب أولى لأنه ليس في ذلك محظور .
نعم ، هذا الحديث الذي شرعنا فيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم بأذناب البقر ) : العينة قلنا : هي أن يبيع الشيء بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل مه نقدًا آه ؟
الطالب : الفوائد .
الشيخ : الفوائد إي إذًا نأخذ الفوائد :
من فوائد الحديث : التحذير من التشاغل ببيع العينة لقوله : ( إذا تبايعتم بالعينة ) .
وهل هذا التحذير على سبيل التحريم أو على سبيل الإرشاد ؟
نقول : هو على سبيل التحريم ، من أين أخذنا ذلك ؟
أخذنا ذلك من أنه حيلة واضحة قريبة على الربا ، لأنني إذا بعتُ عليك هذه السيارة بعشرين ألفا إلى سنة ، ثم رجعت فأخذتها منك بخمسة عشر ألفا نقدًا كأنما أعطيتُك خمسة عشر ألفاً نقدًا بعشرين ألفا إلى سنة ، وهذا حيلة ، ولهذا قال ابن عباس فيها : " إنها دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة " : حريرة يعني خرقة وكأنما سئل عن ثوب من الحرير بكذا مؤجل واشتري بكذا نقدًا .
طيب من فوائد الحديث : أنه لو اشتراها البائع الأول من غير المشتري فلا حرج ، كذا ؟!
الطالب : ... .
الشيخ : لا ، لو اشتراها البائع الأول من غير المشتري فلا حرج ، مثل أن يبيعها زيد على عمرو ثم يبيعها عمرو على بكر ، فيشتريها زيد من بكر ، فهذا لا بأس به ، لأن الحيلة فيه بعيدة ، وتعرضنا في الفوائد فيما لو اختلفت السلعة أو اختلفت القيمة ، فهل هذا مؤثر أو لا ؟ وذكرنا خمس صور نعم . طيب من فوائد الحديث : التحذير من التشاغل بالزرع عن الجهاد ، لقوله : ( وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ) .
طيب ومن فوائد الحديث : أن الجهاد واجب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من التشاغل بغيره عنه بأن الله يصيب الأمة بذل لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم .
ومن فوائد الحديث : أنه ينبغي للمسلمين ألّا ينهمكوا في طلب الدنيا لأنها تشغلهم عن الآخرة ، وفتحُ باب الانهماك في الدنيا لا شكَّ أنه يُنسي الإنسان ذكر الله عز وجل ، ونحن الآن في عصر انهمكت الناس فيه في طلب الدنيا ، فكثر التحيل عليها بالربا ، وكثر التحيل عليها بالميسر ، وكثُر التحيل عليها بالأسهم ، ولهذا ما أكثر الذين يسألون اليوم عن المساهمات والمضاربات التي لا تحل ، لأنهم انشغلوا ، شافوا مكاسب كثيرة بعمل يسير ، وزمن قريب ، فانهمكوا في الدنيا وصار هذا أكبر همهم ، اشتر كذا اشتر الليرة الفلانية اشتر الدينار الفلاني ، حتى صار الناس كأنهم ماديون ، ولا شك أن هذا فيه خطر عظيم على المسلمين ، لأن القلب وعاء إذا امتلأ بشيء لم يبق للشيء الآخر محل ، فإذا امتلأ القلب بحب الدنيا انشغل عن حب الله ورسوله وصار الإنسان ليس له هم إلا الكسب ، ولكننا نحمد الله أيضًا -نحمد الله على كل حال- ونحمد الله أنه يوجد كثير من الناس لا يقدمون على مثل هذه المضاربات وهذه الصفقات إلا بعد السؤال ، وهذا شيء لا شك أنه من نعمة الله ، إنما فتح هذه الأبواب للناس ، فتح باب الميسر بالمسابقات المحرمة لا شك أنه ضرر .
هذا الحديث كثير من العلماء ضعفه ، كثير من أهل العلم ضعفه كما يفيده كلام الشارح -رحمه الله- ، ولا شك أنَّ معناه إذا كان الجهاد فرضًا معناه صحيح ، فإن الناس إذا تركوا ما أوجب الله عليهم من الجهاد وتشاغلوا بالدنيا عنه ، فإن هذا من أسباب الذل والهزيمة .
وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم في غزوة أُحد لما أرادوا الدنيا ، ونزلوا من الجبهة التي رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، حصل من الهزيمة ما حصل ، فكيف بغيرهم ؟!
فالمعنى للحديث صحيح لكن أسانيده ضعيفة طيب .
سبق لنا في الشرح أن قلنا : إن الجهاد يشمل كل ما يدافع به عن دين الله من الجهاد بالسلاح ، والجهاد بالعلم ، وأن الناس إذا كانت الأمة الإسلامية تحتاج إلى العلم الشرعي الصحيح كان التشاغل به كالتشاغل في الجهاد المسلح في السلاح ، بل قد يكون أفضل منه ، لأن الحاجة إليه عامة للمسلمين وغير المسلمين ، حتى المسلمون يحتاجون إلى إقامة دينهم المبينة على الكتاب والسنة ، فهم في حاجة إلى أن يقوموا على شريعة الله التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم في حاجة أيضا إلى أن يعرفوا حدود الله بالنسبة لمعاملة الكفار في السلم والحرب .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من شفع لأخيه شفاعة , فأهدى له هدية فقبلها , فقد أتى بابا عظيماً من أبواب الربا ) . رواه أحمد , وأبو داود , وفي إسناده مقال .
الشفع مأخوذة من لفظها وهي : جعل الواحد اثنين ، قال الله تعالى : (( والشفع والوتر )) فالشفع ضد الوتر ، يعني جعل الشيء اثنين ، وهي : " أن يتوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة " ، هذه الشفاعة أن يتوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
مثال الأول : لو شفعت لشخص بأن يوضع في مرتبة عالية فهذا جلب منفعة .
ومثال الثاني : أن تشفع لشخص يريد أحد أن يظلمه فتدفع عنه المظلمة ، هذه دفع ضرر .
إذًا فالشفاعة هي : " التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة " ، وهي أي : الشفاعة على حسب المشفوع فيه ، إن كانت في خير فهي خير ، وإن كانت في شر فهي شر ، فمن شفع لأخيه ليتوصل إلى باطل فهي شر ، ولهذا حُرمت الرِّشوة ، ومن شفع لأخيه للتوصل إلى حق فهي خير ، قال الله تعالى : (( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها * ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفل منها )) : فالشفاعة قد تكون سيئة وقد تكون حسنة .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( من شفع لأخيه شفاعة ) : المراد بها الشفاعة في الخير ، الشفاعة في الخير قد تكون واجبة كما لو شفع الإنسان لشخص في دفع ظلم عنه ، فإن الشفاعة هنا واجبة ، لأن الواجب على المسلم أن يدفع الظلم عن أخيه بقدر ما يستطيع حتى وإن لم تطلب منه الشفاعة إلا إذا عَلِم رضا المظلوم ، فإنه لا يلزمه أن يشفع .
لكن إذا علم أنه لا يرضى -كما هو الغالب- وهو يستطيع أن يشفع فالواجب عليه أن يشفع .
أما إذا كانت الشفاعة في أمر ليس فيه ظلم ، لكن فيه حصول مطلوب فالشفاعة هنا ليست بواجبة ، لكنها خير ، يؤجر الإنسان عليها كما لو طلب شخص منك أن تشفع له في حصول أمر يرغب فيه وهو لا يضره شرعًا : فهنا نقول : الشفاعة سنة وفيها خير لكن ليست بواجبة ، بخلاف الشفاعة في دفع الظلم فإنها واجبة ما لم تعلم رضا المظلوم .
أما الشفاعة السيئة فهي حرام ، وهي من باب التعاون على الإثم والعدوان ، ولا يجوز لأحد أن يشفع لأحد فيها ، لأنه يكون معينا له على باطل ، مثال ذلك : رأيتَ أنَّ شخصًا قد هيئ لشغل منصب ، منصب من المناصب ، فجاءك رجل وقال : يا أخي أريد أن تشفع لي في حصول هذا المنصب ، فهنا لا يجوز لك أن تشفع له ، لماذا ؟
لأنك بهذا تعتدي على حق السابق ، والسابق أحق ، اللهم إلا إذا علمت أن السابق ليس بأهل ، وأنه ربما يُولى هذه المرتبة وهو ليس لها بأهل ، فحينئذ لا بأس أن تشفع لهذا الرجل إن كان أهلا ، لأنك في هذه الحال مصلح تريد أن تحول بين هذا الرجل الذي ليس بأهل ، وبين المرتبة التي يريد أن يشغلها . الحاصل : أن الشفاعة في الحقيقة تكون بحسب المشفوع فيه ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية ) : يعني أعطاه شيئا في مقابل شفاعته ، ( فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ) : المراد ( أتى بابا عظيما من أبواب الربا ) : الربا اللغوي وهو الزيادة ، دون الربا الشرعي وهو الزيادة في أشياء مخصوصة ، لأن الربا الشرعي الذي هو الزيادة في أشياء مخصوصة لا ينطبق على هذا ، لكن الربا اللغوي ينطبق عليه ، كيف الربا اللغوي ؟ لأن هذا حصل الأجر والسمعة الحسنة بالشفاعة لأخيه ، فإذا قبل الهدية فذلك زيادة على ما حصله بالشفاعة ، ثم إن الهدية في الغالب لا يعلم الناس بها ، فيظنون أن هذا الشافع محسن إحسانا محضًا ، فيكسب سمعة حسنة ليس لها بأهل ، ويكسب المال الذي أهدي له وهذا زيادة ، زيادة وربا ، هذا هو ما ينزل عليه الحديث إن صح الحديث .
أما إذا لم يصح كما قال المؤلف : " في إسناده مقال " ، فقد كفينا إياه ، لكن إذا صح فهذا هو المراد ثم يقال أيضا : إن كانت الشفاعة واجبة حرم عليه أخذ الهدية لأنه قد قام بواجب ولا يجوز للإنسان أن يأخذ عوضا ماليا عن قيامه بواجب لأنه ملزم به من قبل الشرع فكيف يأخذ شيئا على أمر هو ملزم به وهذا وجه آخر لكون هذه الهدية ربا ، أي : زيادة على ما كان يستحقه الشافع .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من شفع لأخيه ) هل المراد : أخوة النسب أو أخوة الدين ؟
الطالب : الثاني .
الشيخ : الثاني وهو أيضا مبني على الغالب فإن الإنسان قد يشفع لغير المسلم ، لأن ذا الذمة له حق وحماية ، فإذا رأيت أحدا يريد أن يظلمه وشفعت له لدفع الظلم عنه كنت مأجورًا بذلك ، لأنك تفعل هذا وفاء بالعهد والذمة الذي بينك ، أو الذي بين المسلمين و بين هذا الرجل الذمي ، فيكون تقييدها بالأخوة لأخيه من باب التغليب وليس من باب القيد .
13 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من شفع لأخيه شفاعة , فأهدى له هدية فقبلها , فقد أتى بابا عظيماً من أبواب الربا ) . رواه أحمد , وأبو داود , وفي إسناده مقال . أستمع حفظ
فوائد حديث:( من شفع لأخيه شفاعة , فأهدى له هدية فقبلها ... ).
ولكن ليس ذلك على إطلاقه بل على حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية والأصول المرعية ، فإذا شفع في أمر باطل كانت شفاعته باطلة وحرامًا ، إذا كان حرامًا ، ولكن المراد الشفاعة في الخير.
ومن فوائد الحديث : أنه لا يجوز لمن شفع في أمر يجب عليه الشفاعة فيه أن يأخذ هدية ، لأن وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالربا يراد به التنفير منها ، وكذلك من شفع لأخيه في غير الواجب فإنه لا يأخذ على ذلك هدية لما أسلفناه من أن الإنسان يكسب ويحصل ما لا يستحقه .
طيب فإن قال قائل : ما تقولون فيما لو طُلب إليه الشفاعة ، وقال له المطلوب : أنا لا أشفع لك إلا بكذا وكذا ، من الأصل فهل يجوز ؟
الطالب : نعم يجوز .
الشيخ : تأملوا لا تتعجلوا في الإجابة ، ها !
الطالب : فيه تفصيل .
الشيخ : التفصيل عند بعض الناس كالقولين عند ابن جني .
الطالب : من باب أولى .
الشيخ : أقول : إنه إذا كان من الأصل لم تكن هذه شفاعة لم يحصل بها منة من الشافع بل هي معاوضة وإجارة ، قال : ما أشفع لك إلا بكذا كذا ما لم تكن الشفاعة واجبة ، إن كانت واجبة فإنه لا يجوز له أن يقول : لا أشفع إلا بكذا وكذا ، لماذا ؟ لأنه واجب ملزم به من قبل الشرع ، مثل أن يشفع له في دفع الظلم عنه ، أو حصول واجب له .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي . رواه أبو داود و الترمذي وصححه .
الطالب : الفوائد !
الشيخ : إيش .
الطالب : الفوائد انتهت ؟
الشيخ : أي نعم ، طيب يقول عبد الله بن عمرو : ( لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ) : لعنه أي : قال : لعنة الله عليه ، وهو خبر بمعنى الدعاء ، أي : دعا عليه باللعنة .
واللعنة هي : " الطرد والإبعاد عن رحمة الله " ، قال الله تعالى لإبليس : (( وإن عليك اللعنة )) ، وفي آية أخرى : (( وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين )) : أي : حقت عليه اللعنة وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله والعياذ بالله أبد الآبدين ، لأن قوله : (( إلى يوم الدين )) : لا يقتضي أنه بعد يوم الدين ترتفع اللعنة عنه ، لكن من لُعن إلى يوم الدين فهو ملعون أبد الآبدين نسأل الله العافية . طيب لعن : أي : دعا عليه باللعنة أي : بالطرد والإبعاد عن رحمة الله.
( الراشي والمرتشي ) الراشي : باذل الرشوة ، والمرتشي : آخذ الرشوة .
والرِّشوة : بفتح الراء وكسرها وضمها مثلثة ، مثلثة الراء ، كذا ؟
الطالب : نعم .
الشيخ : طيب يعني تقول : رِشوة فيكون صحيحًا ، رَشوة صحيح ، رُشوة صحيح ، مثلث الراء .
يقال : مثلث الراء ويقال : بالمثلثة ، وبينهما فرق :
إذا قيل : مثلث الراء باعتبار الحركات ، وإذا قيل بالمثلثة باعتبار النقط ، فالثاء نقول فيها : مثلثة ، ورشوة مثلا نقول : بتثليث الراء نعم .
ما هي الرشوة ؟ الرشوة في الأصل : العطاء ، العطاء الذي يراد به التوصل إلى مقصود ، هذه الرشوة : " العطاء الذي يراد به التوصل إلى مقصود " ، مأخوذة من الرشاء الذي هو : حبل الدلو الذي ينزل في البئر للسقيا ، لأن الرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده إلى الماء ، ولكن المراد بالرِّشوة هنا التي لُعن فاعلها : " هي البذل للتوصل إلى باطل أو إسقاط حق " ، هذه الرشوة التي تبذل للتوصل إلى باطل أو إسقاط حق .
وأكثر ما تكون في المحاكمات ، يبذل الخصم للقاضي للحاكم شيئًا ليحكم له بما يريد من باطل ، فهذه الرشوة .
وكذلك يبذل الإنسان -في غير القضاء أيضا- يبذل الإنسان شيئا إلى رئيس دائرة ما ، أو مديرها ، لينصبه في وظيفة ، وهو ليس لها بأهل .
فالقاعدة إذًا : " أن الرشوة المحرمة هي : بذل المال للتوصل إلى باطل أو إسقاط حق " ، هذه المحرمة .
وأما ما يبذل للتوصل إلى حق فهي حرام بالنسبة للآخذ ، حلال بالنسبة للباذل ، كرجلٍ تسلط عليه ظالم ، فأعطاه رشوة لأجل منع الظلم عنه فهذا لا بأس به ، إنسان آخر له حق ولا يستطيع التوصل إلى حقه إلا ببذل ، بذل المال ، فبذل المال ليصل إلى حقه ، فهذا ليس حراماً عليه بل له الحق في ذلك والإثم على الآخذ .
ولكن لا ينبغي أن نلجأ إلى ذلك إلا عند الضرورة القصوى ، لأننا لو بذلنا هذا بِسهولة لفسد من يتولى أمور الناس ، وصار لا يمكن أن يَعمل إلا برشوة ، كما يوجد في بعض البلاد ، لا يمكن أن تقضى حاجتك التي يجب قضاؤها على الموظف إلا برشوة .