باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك .
تتمة شرح قوله (( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ))
فإن قال قائل : ما العلاقة بين هذا وهذا ؟
قلنا: ليس هناك علاقة، إنما العلاقة هو أن يبين أنه سوف ينبئهما مبادرا بذلك.
شرح قوله (( ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ))
ثم علل ما علمه الله فقال : (( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي )) إلى آخره.
هذه الجملة تعليل لقوله : (( مما علمني ربي ))، وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا أخلص في توحيده وعمل عملا صالحا كان ذلك من أسباب العلم، وهو ظاهر كما في قوله تعالى : (( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )).
قال : (( إني تركت ملة قوم )) الملة ما ينتحله الإنسان ويتدين به كملة الإسلام مثلا، (( لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون )) لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله : (( وهم بالآخرة هم كافرون )) هم الأولى مبتدأ، وهم الثانية توكيد للأولى يعني أنهم كافرون بالآخرة على وجه مؤكد.
(( واتبعت ملة آبائي )) شف ترك ملة هؤلاء واتبع ملة هؤلاء، وفيه إشارة إلى ما يتكرر علينا كثيرا من أن التخلية قبل التحلية، وهذا في الأمور المعنوية وكذلك في الأمور الحسية، لو أردت أن تفرش فراشا على الأرض هل أنت تنظف الأرض أولا أو تفرش الفراش عليها وهي وسخة ؟ الأول، تزيل الأذى ثم تأتي بالمطلوب.
ولهذا قال : (( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله واتبعت )) وهذا معنى لا إله إلا الله، لأن لا إله نفي، وإلا الله إثبات.
(( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب )) إبراهيم جد أبيه، وإسحاق جده، ويعقوب أبوه، وكلهم آباء، وفي هذه الآية الجملة دليل على أن الجد أب، وعلى هذا فيحجب من الإخوة من يحجبهم الأب، فلا يرث معه أخ شقيق ولا أخ لأب كما لا يرث معه أخ لأم بالإجماع.
(( ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء )) مثل هذا التركيب: ما كان لنا يعني يمتنع علينا، يعني لا يحق لنا ويمتنع علينا أن نشرك بالله من شيء، ومن شيء هذه نكرة دخلت عليها من الزائدة فتفيد العموم، لأن من الزائدة إذا دخلت على نكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي أو الاستفهام الإنكاري كانت نصا في العموم حطوا بالكم.
معروف أن النكرة إذا كانت في سياق النهي أو النفي أو الشرط أو الاستفهام الإنكاري فهي للعموم، لكن إذا دخلت عليها من الزائدة كانت نصا في ذلك.
وعلى هذا فنقول : من حرف جر زائد زائد، صح ؟ زائد زائد، صحيح يا عبد الله ؟ زائد لفظا وزائد في المعنى، وإنما قلنا ذلك لأن كلمة زائد اسم فاعل من زاد وهي متعدية ولازمة، الفعل هذا متعدي ولازم، يقال : زاد الماء هذا لازم، ويقال: زاده خيرا، هذا متعدي.
يقول : (( ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله )) ذلك المشار إليه أن الله عصمهم من الشرك وخصهم بالتوحيد.
(( من فضل الله علينا وعلى الناس )) أما كونه من فضل الله عليهم فظاهر لأن الله هداهم للإسلام، وأما كونه من فضل الله على الناس فلأن الله جعل الهداية هداية الدلالة على أيدي هؤلاء الرسل الكرام إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقد بينوا للناس طريق الهدى فصار ما هم عليهم فضلا من الله عليهم وفضلا من الله على الناس.
(( ولكن أكثر الناس لا يشكرون )) أي لا يقومون بشكر الله عز وجل، أكثر الناس كم نسبتهم ؟ تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف، لأن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك ، فيقول: أخرج من ذريتك بعثا إلى النار، فيقول : رب وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، من بني آدم، كلهم في النار، وواحد في الألف في الجنة.
قال ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى :
" يا سلعة الرحمن ليس ينالها " يعني الجنة.
" يا سعلة الرحمن ليس ينالها *** في الألف واحد لا اثنان "
اللهم اجعلنا من هذا الواحد.
يقول : (( ولكن أكثر الناس لا يشكرون )).
3 - شرح قوله (( ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون )) أستمع حفظ
ما هو تعريف الشكر ؟
الشكر حدّه العلماء بأنه القيام بطاعة المنعم، وقالوا إن بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه، فهمتم ؟ القيام بطاعة المنعم، هذا الشكر، فمن عصى الله فليس بشاكر ، لكن إن كفر فقد انتفى عنه الشكر انتفاء مطلقا، وإلا فقد انتفى عنه كمال الشكر.
يقول: بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه، فبالنسبة لتعلق الشكر في القلب واللسان والجوارح يكون أعم من الحمد، لأن الحمد باللسان، وبالنسبة لكون الشكر في مقابلة نعمة، وكون الحمد في مقابلة نعمة وكمال المحمود يعني أن سببه الفضل والإفضال يكون الحمد أعم.
إذن الحمد أعم من الشكر باعتبار سببه، والشكر أعم من الحمد باعتبار متعلقه.
قل يا خالد يتعلق الشكر بإيش ؟
الطالب : ...
الشيخ : ... الحمد يتعلق باللسان فقط لكن سببه كمال المحمود وإنعام المحمود، قال الله عز وجل : (( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ))، (( الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل )) هذا حمد على إيش ؟ على الكمال.
(( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها )) هذا على الإفضال، على النعم.
وفي هذا يقول الشاعر:
" أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا"
"أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا"
أقولها الثالثة ويردها علي أحدكم.
"أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا"
عرفتها من قبل ؟ هذه أول مرة، طيب، اقرأ البيت.
الطالب : ...
الشيخ : ... والضمير المحجبا مفعول ...
شرح قوله (( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون )) وقال الفضيل لبعض الأتباع يا عبد الله (( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ))
"ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ".
نحن نخاطب يعتقد أن من يعظمه مثل من إيش ؟ من نعظمه، فيقول : (( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار )) كل يعرف أن الله الواحد القهار خير.
وهنا قال : أم الله ولم يقل الرب، وهناك قال أأرباب ولم يقل أآلهة، مع أن إبراهيم قال لقومه : (( أئفكا آلهة دون الله تريدون ))، لأن المقام هنا يقتضي ذلك، إذ إن هذين الفتيين رأيا رؤيا من مقتضى الملك والخلق فخاطبها بالربوبية ثم عدل عن الربوبية في جانب الله عز وجل إلى إيش ؟ إلى الألوهية، فقال: (( أم الله الواحد )) الذي لا شريك له، (( القهّار )) من هنا تأتي الربوبية لأن القهر لا يكون إلا مع تمام الربوبية الخلق والأمر.
(( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار )) وهذا نظير قوله تعالى: (( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل )) أيهما ؟ الرجل السَّلم لا شك لا أحد ينازعه، (( هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )) رجل يملك عبدا لا ينازعه فيه أحد سلما له، وآخر يملك عبدا معه شركاء متشاكسون كل يوم ضرب ومهاوشة على هذا العبد، أيّهما أحسن ؟ الأول لا شك ...
وقال الفضيل لبعض الأتباع يا عبد الله: (( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار )) هذه جملة معترضة، الفضيل بن عياض قال لبعض أصحابه: يا عبد الله أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟
لا أدري هل يريد الفضيل أن يقرر التوحيد في قلب هؤلاء البعض، أو أنه رأى هؤلاء الأتباع مرة مع هؤلاء ومرة مع هؤلاء ومرة مع هؤلاء فأراد أن يضرب لهم مثلا بالآية، نعود إليها في الشرح إن شاء الله.
5 - شرح قوله (( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون )) وقال الفضيل لبعض الأتباع يا عبد الله (( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار )) أستمع حفظ
شرح قوله (( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ))
(( ما تعبدون من دونه )) العبادة التذلل كالصلاة والركوع والسجود والذبح تقربا وتعظيما وما أشبه ذلك، (( إلا أسماء سميتموها )) أسماء سميتموها، سميتم هذا ربا فعبدتموه، لكن هل هو حقيقة على مسماه ؟ لا، لا يستحق الربوبية، ولا يصلح أن يكون ربا.
(( أنتم وآباؤكم )) فأنتم مقلِّدون لهم، (( ما أنزل الله بها من سلطان )) سلطان أي حجة، والسلطان في كل موضع بحسبه، فنحن مثلا إذا قلنا : أطع السلطان فيما أمرك، ما المراد بالسلطان؟ الولي الذي له الأمر، وإذا قلنا: ليس لك سلطان في وجوب كذا وكذا، يعني ليس لك دليل أي حجة.
(( ما أنزل الله بها من سلطان )) طيب، فإن قال قائل : هذا الوصف ما أنزل الله بها من سلطان هل هو قيد أو بيان للواقع ؟ بيان للواقع، لأن جميع الآلهة ما أنزل بها من سلطان، وإذا جاء الوصف بيانا للواقع كان متضمنا للتوبيخ، يعني كأنه يقول: كيف تعبدون آلهة ليس فيها دليل.
(( إن الحكم إلا لله )) ربما يقول قائل : كيف دخلت إن الشرطية على الاسم ؟
الطالب : ...
الشيخ : هذان قولان صح ، أظن أننا قلنا إذا أتت إلا بعد إن فهي نافية، إن هذا إلا اختلاق، فإذا أتت إلا بعد إن فهي نافية.
قال : (( إن الحكم )) يعني ما الحكم إلا لله، أيّ الحكمين الكوني أو القدري ؟ هما، الكوني والقدري، فالذي يحكم بين الناس بالشرع والتنظيم والتوجيه هو الله عز وجل، والذي يحكم بينهم بالقدر وينفّذ ما شاء هو الله.
وقد ذكر العلماء أن الحكم أي حكم الله ثلاثة أنواع: كوني وشرعي وجزائي، وبعضهم قال : إنه قسمان: كوني وشرعي، وقال إن الجزائي داخل في الكوني لأنه ثواب أو عقاب.
يقول : (( ذلك الدين القيم )) ذلك المشار إليه أن لا نعبد إلا الله، الدّين أي العمل، والدين يطلق على العمل كما هنا، وكما في قوله تعالى: (( إن الدين عند الله الإسلام ))، وكما في قوله : (( ورضيت لكم الإسلام دينا ))، ويطلق على الجزاء كما في قوله تعالى : (( وما أدراك ما يوم الدين ))، وكما في قوله تعالى : (( مالك يوم الدين )) أي الجزاء.
(( ولكن أكثر الناس لا يعلمون )).
إذن انتبهوا إلى هذه الحكمة في صنيع يوسف، انتهز الفرصة في هذه الحال، ووجه ذلك أن هذين الفتيين جاءا لحاجة، فقدم بين يدي قضاء حاجتهما إيش ؟ دعوتها للحق، لكن كيف دعاهما ؟ أولا أخبر أنه هو وآباؤه على هذه الحال، ليتبين أن دعوته صادقة، حتى لا يكون من الذين يقولون ما لا يفعلون، ثم تحدث أن هذا من نعمة الله وفضل الله على الناس، ثم دعاهما إلى الحق، ولكن دعاهما إلى الحق مبتدئ بالتخلية ثم التحلية (( أأرباب متفرقون خير أم الله )) يعني انبذوا هذه الأرباب وأقبلوا إلى الله عزّ وجل.
وقوله : (( القيّم )) ضد المعوج، قال الله تعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )) وإنما كان هذا دينا قيّما لأنه وضع للحق في نصابه، فالمستحق للعبادة مَن ؟ الله سبحانه وتعالى .
(( ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) أي لا يعلمون أن هذا هو الدين القيّم ولهذا ضلوا (( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله )).
6 - شرح قوله (( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) أستمع حفظ
شرح قوله (( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ))
وهل مثل ذلك قوله تعالى : (( وقال رجل مؤمن من آله فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله )) ؟ لا، لأن الله يعلم هذا الرجل، المؤمن يعلمه الله عز وجل، وهو يقول : أتقتلون رجلا، يعلم من هو الرجل، يعلم أن الرجل هذا موسى، لكنه أتى به بصيغة النكرة لئلا يظن هؤلاء أن بينه وبين موسى صلة وأنه إنما دافع عنه من أجل المعرفة، وهذا أيضا من فقه هذا الرجل، لو قال : أتقتلون موسى لقالوا: هذا صاحب له، بينهما صلة ومعرفة، لكن قال رجلا كأنه لا يعرفه، أن يقول ربي الله إلى آخره.
(( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه )) - سبحان الله - أما أحدكما فيسقي ربه خمرا، ربه أي سيده، والرب يطلق على السيد، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أن تلد الأمة ربها ) كما في إحدى روايات البخاري، ( تلد الأمة ربها )، والأكثر ( ربتها ).
ويطلق على المالك كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اللقطة : ( حتى يأتيها ربها ).
طيب، يسقي ربه خمرا، من أين أخذ هذا ؟ من قوله : (( إني أراني أعصر خمرا )) يعصر لمن ؟ لا يعصره إلا لمن يشربه، وهذا فتى، فسيعصره لربه يشربه، لكن الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، وش له علاقة ؟ هو يقول : (( أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه )) وهنا قال : يصلب فتأكل الطير من رأسه، وش المناسبة ؟ لعله يكون هناك مناسبة بين الخبز وبين المخ مخ الرأس، والجامع بينهما الليونة، هذا ما يظهر لي الآن، ولعل الشارح يبينه، إن شاء الله نرجع له.
- انتبهوا الآن مسألتان عندنا نرجع إليهما لا ننساهما -.
يقول : (( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )) انتهى، وإنما قال قضي الأمر لئلا يعودا إليه فيناقشاه، كيف ولماذا؟ وكيف وأنا في السجن أسقي ربي خمرا، وكيف أسلم أنا وأخي يصلب وتأكل الطير من رأسه ؟ فلما كانت المسألة محل إيرادات ومناقشة قال : (( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )).
وما أحسن ما يستعمله بعض الناس في الإفتاء تجد الرجل يستفتيه فيقول: فعلت كذا وكذا وكذا، فيقول : لا شيء عليك، ثم يعود : فعلت كذا وكذا، أو يعود مرة ثالثة أو رابعة، مثل هذا إيش نقول ؟ نقول : انتهى، من أول مرة، لأن بعض الناس يكون عنده وساوس ما يفهم الشيء أو يفهمه ويريد أن يكرر فهنا لا بأس أن تقول انتهى الأمر، لا تكثر عليّ، كما قال يوسف : (( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )).
وفي قوله : (( قضي الأمر )) تواضع من نفسه، لأن الذي قضى هذا الأمر هو، هو الذي قضى هذا الأمر ونبأهم لكن جعله مجهول الفاعل تواضعا منه.
7 - شرح قوله (( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )) أستمع حفظ
شرح قوله (( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ))
(( اذكرني عند ربك )) يعني قل له إن في السجن رجلا سجينا مظلوما، لعله يحاول إخراجه، (( فأنساه الشيطان ذكر ربه )) ونسب الإنساء إلى الشيطان لأن الشفاعة في دفع الظلم خير، والشيطان يُنسي الإنسان كل خير، لا يحبّ أن يذكر الإنسان ما فيه خير، بل إذا ذكر ما فيه الخير حاول الشيطان أن يصده عنه.
(( فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين )) ذكر ربه: هنا ذكر مصدر مضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول به ؟ إلى المفعول به، أي نسي أن يذكر ربه.
(( فلبث في السجن بضع سنين )) لبث من ؟ يوسف، لأن هذا الوصي نسي، فلبث في السجن بضع سنين، والبضع ما بين الثلاث إلى التسع.
ولكن الله عزّ وجل هيأ أمرا كان فيه نجاة يوسف وتخليصه من هذا السجن.
8 - شرح قوله (( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين )) أستمع حفظ
شرح قوله (( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ))
9 - شرح قوله (( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون )) أستمع حفظ
شرح قوله (( قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ))
(( وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين )) أرادوا بهذا الفكاك، وإلا فكل إنسان يعبر الرؤيا لا شك لا يقول إن هذه أضغاث أحلام، لأنها مشهد مروع.
شرح قوله (( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ))
(( وقال الذي نجا منهما )) أي من الفتيين، (( وادّكر )) أي تذكر، (( بعد أمة )) أي بعد مدة.
11 - شرح قوله (( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون )) أستمع حفظ
فائدة : معاني "الأمة " في القرآن .
أولا: هذا المعنى الذي ذكرنا وهو الزمن والمدة.
والثاني: الدين، كما في قوله تعالى : (( وأن هذه أمتكم أمة واحدة )).
والثالث: الجماعة، مثل (( كان الناس أمة واحدة )) أي جماعة واحدة على دين واحد.
والرابع: الإمام، (( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله )).
هذه المعاني المشتركة في لفظ واحد في هذه الكلمة أو في غيرها إذا جاءت هل نحملها على جميع معانيها أم على معنى واحد ؟
فإن قلنا بالأول صار هناك إشكال وهو استعمال المشترك في معانيه أو معنييه، وإن قلنا بالثاني صار فيه إشكال أيضا وهو ما الذي نرجح من هذه المعاني المشتركة؟
والجواب عن ذلك أن نقول: نحن نرجح أحد المعاني إن كان فيه ترجيح، وإن لم يكن فيه ترجيح وكان اللفظ يحتمل المعاني كلها على السواء فإننا نقول: هو شامل للمعاني كلها، ولا يضر أن نستعمل المشترك في معنييه أو معانيه، ما يضر، إذا كان اللفظ يحتمل هذا المعنى وليس فيه منقاضة للمعنى الثاني فلنحمله عليه عرفتم.
فمثلا: (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )) قروء جمع قرء وهو يطلق على الحيض وعلى الطهر، فهل نقول بأن هذا اللفظ يصلح للمعنيين أو نقول لواحد ؟ نقول للمعنيين لا يمكن لأن الطهر نقيض الحيض، إذن لا يحمل هذا اللفظ إلا على أحد المعنيين وننظر للمرجح من اللغة والقرآن والسنة، والصحيح أن المراد بالقروء الحيض لا الأطهار.
وفي قوله تعالى : (( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس )) عسعس أقبل أو أدبر، يقول العلماء: إنه صالح للمعنيين، وإذا كان صالحا للمعنيين فإنه يحمل عليهما لأنه لا منافاة، فالله تعالى يقسم بالليل عند إدباره وبالليل عند إقباله، فيكون المعنى مشتركا.
إن القاعدة في اللفظ الذي له معان متعددة وهو المشترك أن نحمله على معانيه أو معنييه إذا لم يكن هناك تناقض، فإن كان هناك تناقض طلبنا الترجيح، فإن لم نجد وجب التوقف.
13 - هذه المعاني المشتركة في لفظ واحد في هذه الكلمة أو في غيرها إذا جاءت هل نحملها على جميع معانيها أم على معنى واحد ؟ أستمع حفظ
تتمة شرح الآية : (( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة... ))
الطالب : ...
الشيخ : مثالها على إمام ؟ يالله يا أخي الذي وراك؟
الطالب : ...
الشيخ : هذه الإمامة ومثالها على دين ؟ بن داود ؟
الطالب : ...
الشيخ : ومثالها على طائفة ؟ سلامة ؟
الطالب : ...
الشيخ : أي نعم (( وقالت أمة منهم لم تعظون قوما )) أمة يعني إيش ؟
الطالب : طائفة.
الشيخ : يعني طائفة، أحسنت، إيش بقي ؟ زمن (( وادكر بعد أمة )).
(( أنا أنبئكم بتأويله )) أي بتفسيره، (( فأرسلون )) يحتمل معنيين: الأول أمهلوني، والثاني : أرسلون من الإرسال يعني ابعثوني، فبعثوه فأتى إلى يوسف، وقال : (( أيها الصديق أفتنا )) إلى آخره.
تأمل الكلام الآن وصفه بأنه صديق، وكان بالأول يقول مع صاحبه إنا نراك من المحسنين، فيدل هذا على أن الإحسان قد يصل به الإنسان إلى درجة الصديقيّة.
وهنا إشكال نحوي وهو قوله : (( يوسف )) حيث جاء مضموما، مع أنه ليس بفاعل ولا يصلح أن يكون مبتدأ فما هو حل الإشكال؟
الطالب : منادى.
الشيخ : منادى ؟ أين حرف النداء ؟
طيب، هذه الجملة يقول علماء البلاغة إن فيها إيجازا بالحذف، الإيجاز عندهم نوعان: نوع بالحذف ونوع بالقصر.
فالحذف هنا إيش ؟ التقدير : فأرسلوه، فأتى يوسف فقال : (( يوسف أيها الصديق ))، والإيجاز بالحذف لا يجوز إلا إذا كان معلوما.
قال ابن مالك في ألفيته :
" وحذف ما يعلم جائز كما *** تقول زيد بعد من عندكما "
أي عندنا زيد.
(( أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات )) وهي رؤيا الملك.
(( لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون )) يعني لعلي أرجع إلى الناس فأخبرهم فيعلمون.
شرح قوله (( قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ))
" عضنا الدهر بنابه *** ليت ما حل بنا به ".
وهذا فيه جناس تام أو ناقص ؟ تام، بنابه واحد الأنياب، ليت ما حل بنا به، نا ضمير والباء حرف جر، لكن اللفظ لا يختلف.
(( إلا قليلا مما تحصنون )) إلا مما تحرصون عليه وتجعلونه في حصن حصين، وهذا يدل على أن الناس في هذه السبع الشداد يطلبون الأكل، وأنهم إن لم يحصن عنهم أكلوه لشدة ما نالهم من الجدب.
فإذا قال قائل : ما هي المناسبة بين هذا التفسير وبين الرؤيا ؟
قلنا المناسبة ظاهرة، سبع بقرات سمان، هذه هي السبع التي كانوا يزرعون فيها، وإنما مثلت بالبقر لأن البقر يحرث عليها ويداس عليها، ويأكلهن سبع عجاف، ما هي السبع العجاف ؟ يناسبها سبع شداد مجدبة، يأكلون كل ما مضى، فمن أجل هذه المناسبة أوّلها عليه الصلاة والسلام بهذا التأويل.
(( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون )) كيف توصل إلى هذا الاستنتاج أنه بعد السبع الشداد يأتي عام يغاث فيه الناس، يغاث أي تزال شدتهم، ويعصرون.