تتمة فوائد الآية : (( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلامٍ للعبيد )) .
فإذا قال قائل: هذه صفة سلبية كما يقولون، وهل توجد الصفات السلبية في صفات الله ؟
فالجواب: لا، لكن المراد بالصفات السلبية ثبوت كمال ضدها، فهو لا يظلم لا لعجزه عن الظلم ولكن لكمال عدله .
تفسير الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) .
يقول: (( ألا نؤمن لرسول )) يعني لرسول من عند الله: (( حتى يأتينا بقربان تأكله النار )) وذلك بأن نقرب قربانا من طعام أو بهائم أو لحم أو ثياب ثم تنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان، يعني أنهم حصروا الآيات التي يطلبونها من الرسول بأن يأتي بنار تأكل هذا القربان، وكانوا فيما سبق إذا غنموا غنائم من الكفار جمعوها ثم نزلت نار من السماء فأكلتها حتى أحلت الغنائم لهذه الأمة، هؤلاء يقولون لا نؤمن لرسول إلا إذا أتانا بهذه الآية فقط، وهي أننا إذا قربنا قربانا أكلته النار، هكذا قالوا، قال الله تعالى لرسوله: (( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم )) يعني قد جاءتكم رسل بأكثر مما تدعون الآن: (( بالبينات )) أي بالآيات البينات التي تبين صدق رسالتهم، والثاني: (( بالذي قلتم )) أي بالقربان الذي تأكله النار: (( فلم قتلتموهم )) يعني ومع ذلك كذبتموهم وقتلتموهم .
فإن قال قائل: لماذا عدل الله عزوجل عن المطالبة بصدق ما ادعوه ؟
قلنا هذا من باب التنزل مع الخصم يعني على فرض أن الأمر كما قلتم فقد اعتديتم حتى فيما جيء به من مطلوبكم اعتديتم على الرسل، وأرجوا أن ننتبه لهذا، أولا من ادعى دعوة فإننا نعامل بمراتب، المرتبة الأولى: صحة ما قال، المرتبة الثانية: مخالفته لما قال، فهنا لم يطالبهم الله عزوجل بصحة ما قالوا من باب موافقة الخصم، أقول من باب موافقة الخصم أحسن من التنزل لأن الذي معنا قرآن، أنا قلت بالأول تنزل بناء على العبارة المعروفة عند العلماء، ونحن نقول هنا موافقة الخصم، فهنا قد وافق الخصم قال: نعم هب أن الأمر كما قلتم وأنه عهد إليكم ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكل النار، فقد جاءكم رسول بقربان تأكله النار ومع ذلك قتلتموه، إذا فطلبكم هذه الآية المعينة ليس عن صدق لأنها قد جاءتكم ومع ذلك كذبتم الرسل وقتلتموهم، فهنا عدل عن المطالبة بصحة الدعوى من باب موافقة الخصم، أي أنكم لا تريدون أن تصدقوا الرسل وإنما تريدون تكذيبهم
2 - تفسير الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) . أستمع حفظ
في قوله تعالى :(( حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار )) من الذي يأتي بالقربان.؟
السائل : أليس هذا ظاهر الآية ؟
الشيخ : أي لكن العلماء فسروها بذلك، أنهم هم يتقربون بالقربان فتأكله النار
إذا كان القربان من البهائم فهل تأكله النار كالغنائم.؟
الشيخ : الظاهر إذا كان مشروعا تأكله النار، من البهائم وغيرها إذا كان مشروعا بالبهائم، أما إذا كان بغير البهائم فالأمر ما فيه إشكال،
السائل : مثل الغنائم ؟
الشيخ : الغنائم هم قالوا عامة
كيف قسمت الغنائم في بدر .؟
الشيخ : لا هو المعروف في بدر أنه ما قسموها إلا بقسمة النبي عليه الصلاة والسلام، قسمها هو، ولم تكن موزعة كالتوزيع في الأخير، وقد اختلف العلماء في هذا هل إن الرسول عليه الصلاة والسلام أذن له في بدر خاصة بأن يقسم الغنائم على غير ما ذكر الله في سورة الأنفال، أو أنها لم تنزل سورة الأنفال إلا بعد بدر.
السائل : ما هو اختياركم ؟
الشيخ : والله ما عندي خيار الآن
هل القربان من الغنائم في قوله تعالى :(( حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار )) .؟
الشيخ : الذين يريدون هؤلاء ؟ لا، من أي شيء، يعني واحد شخص يتقرب إلى الله يجعل الطعام ثم تنزل النار وتأكله.
السائل : لماذا أوردنا القربان من الغنم ؟
الشيخ : مناسبة الغنم فيما إذا كانت غنائم، كانت الغنائم في الأول إذا غنموها من الكفار لا تحل لهم، يجمعونها في مكان فتنزل عليها نار فتحرقها .
كيف قلنا أن المراد بالحديث :( لو أن الله عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ) هو مناقشة الحساب.؟
الشيخ : يعني مثلا لو عذبهم وهم يعملون عملا صالحا لعذبهم وهو غير ظالم لهم بالمناقشة، فمثلا إذا كانوا يصومون، يصلون ويتصدقون ويصومون ويحجون، لو نوقشوا الحساب لكانت نعم الله ما تقابل أو لا يقابلها الصلاة فاجتاحت الصلاة والصدقة والصيام وكل شيء، وإذا اجتاحتها ويش بقي عند الإنسان؟ ليس عنده عمل .
7 - كيف قلنا أن المراد بالحديث :( لو أن الله عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ) هو مناقشة الحساب.؟ أستمع حفظ
أسئلة.
الشيخ : وجه الدلالة أنه أثبت أيدينا، لولا أن له يدا ما صح أن يعبر بها عن نفسه، لكن لا يمكن أن يضيفها إلى اليد وهو لا يد له أبدا
مناقشة حول الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) .
9 - مناقشة حول الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) . أستمع حفظ
تتمة تفسير الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) .
ما محل قوله: ((الذين قالوا إن الله عهد إلينا )) من الإعراب ؟
الطالب: بدل .
الشيخ : ما تصلح بدلا،
الطالب: صفة.
الشيخ : صفة للذين الأولى، البدل يا إخواني هو الذي يقوم مقام المبدل هو المقصود بالحكم، عرفتم فمثلا إذا قلت: أكلت الرغيف ثلثه، ثلث بدل إذا المأكول هو الثلث، خذ نبلا مدى هذا بدل الغلط أو النسيان، خذ نبلا مدى، المدى يعني سكاكين، ما المقصود ؟ خذ السكاكين، فالبدل معناه أن يحل محل المبدل ليس معناه أن يكون زائدا عليه .
الشيخ : قوله: (( عهد إلينا )) ما معناه ؟
الطالب: أوصانا،
الشيخ : كذا ؟ طيب .
الشيخ : قوله: (( حتى يأتينا بقربان تأكله النار )) ويش معناها خالد ؟
الطالب: لا يؤمنون حتى يأتيهم الرسول بقربان من ثياب أو أكل أو أي شيء تأكله، الله عز وجل يرسل عليها نارا تأكلها،
الشيخ : طيب، هل قولهم هذا صحيح ؟
الطالب: غير صحيح، كذبوا على الله وعلى الرسول،
الشيخ : طيب، وهل أبطل الله ما ادعوه ؟
الطالب: لم يأت بإبطال ما ادعوه، بل أتى بشيء بأنه قد جاءهم رسل بما قالوا ولكنهم قتلوهم.
الشيخ : المهم هل إنهم صدقوا ؟
الطالب: هم كاذبون،
الشيخ : أي لكن هل صدقوا أنه لو أتاهم رسول بقربان تأكله النار آمنوا ؟
الطالب: لا، لم يصدقوا،
الشيخ : ما الدليل ؟
الطالب: الدليل قوله تعالى: (( فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ))،
الشيخ : لا،
الطالب: قوله: (( ولقد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ))،
الشيخ : من أين تأخذ من أي الكلمات هذه ؟
الطالب: ...
الطالب: من قوله تعالى: (( وبالذي قلتم ))
الشيخ : نعم، من قوله: (( وبالذي قلتم ))، يعني أنهم جاءوا بالبينات وبالذي قلتم .
الشيخ : قوله: (( إن كنتم صادقين )) ما شرحنا ؟ طيب
10 - تتمة تفسير الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) . أستمع حفظ
فوائد الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) .
(( وبالذي قلتم )) وهو أن يأتي بقربان تأكله النار، (( فلم قتلتموهم )) قوله: (( فلم )) الفاء عاطفة، ولما: اللام حرف جر، وما استفهامية، ومن قواعد الإملاء أن ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر فإنها تحذف ألفها مثل: عم، بم، لم ، وغير ؟ مم، كيم، المهم على كل حال ما إذا دخل عليها حرف جر تحذف ألفها.
(( فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين )) في أنكم تقبلون الرسل إذا جاءوا بهذه الآية، وقوله: (( إن كنتم صادقين )) الجملة شرطية كما رأيتم، وهل تحتاج إلى جواب ؟ ذهب بعض العلماء إلى أنها لا تحتاج إلى جواب، لأن المعنى مفهوم بدونه، والجواب إنما يؤتى به ليتمم المعنى، وقال بعضهم: بل جوابها محذوف دل عليه ما قبله، وعلى هذا الرأي يكون التقدير: إن كنتم صادقين فلم قتلتموهم، وإلى القول الأول ذهب ابن القيم رحمه الله في أن مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب .
11 - فوائد الآية : (( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ... )) . أستمع حفظ
تفسير الآية : (( فإن كذبوك فقد كذب رسلٌ من قبلك جآؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )) .
يقول الله عزوجل: (( فإن كذبوك )) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والفاعل قريش وأهل الكتاب كل من كذب الرسول، (( فقد كذب )) هذه فقد: الفاء واقعة في جواب الشرط لأنه مقرون بقد، وقوله: (( كذب رسل )) وفي آية أخرى: (( فقد كذبت رسل )) فلماذا جاء التذكير والتأنيث ؟ نقول لأن الرسل جمع التكسير، وجمع التكسير يجوز فيه ثبوت التاء وحذفها، قال ابن مالك رحمه الله:
والتاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء مع إحدى اللبن،
اللبن إحداها لبنة، فاللبنة تذكر وتؤنث، وجميع الجموع تذكر وتؤنث ما عدى جمع المذكر السالم على رأي ابن مالك، ويضاف إليها على رأي ابن هشام جمع المؤنث السالم، ويقابله من قال بأن جميع الجموع يجوز تذكيرها وتأنيثها حتى السالم من مذكر أو مؤنث، ومنه قول الزمخشري يرد به على أعدائه يقول: لا أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث،
المؤنث لا يقابل الرجال، الشاهد قوله: كل جمع مؤنث، والذي يظهر والله أعلم أن الرأي الصحيح رأي ابن هشام، أن السالم من الجمع المذكر يجب تذكيره ومن الجمع المؤنث يجب تأنيثه أما جمع التكسير فيجوز فيها التذكير والتأنيث، هنا: (( فقد كذب )) وفي آية أخرى: (( فقد كذبت )) .
وقوله: (( رسل من قبلك )) الرسول كما مر علينا كثيرا هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، هؤلاء الرسل جاءوا بالبينات، جملة: (( جاءوا بالبينات )) يجوز أن تكون صفة لرسل ويجوز أن تكون حالا، أما جواز أن تكون صفة فظاهر، لأن رسل منكر فالذي يأتي من بعده يكون صفة، وأما جواز كونها حالا مع أن الذي قبلها منكر فلأن هذه النكرة وصفت، وإذا وصفت النكرة جاز وقوع الحال منها، لأنها إذا وصفت تخصصت .
(( جاءوا بالبينات )) البينات هي الآيات، البينات الشرعية والكونية، فالآيات الشرعية هي الكتب التي جاءوا بها والآيات الكونية هي ما يسمى بالمعجزات الحسية .
(( والزبر )) جمع زبور، والمراد به ما اشتمل على المواعظ والزواجر، هذا الزبر، ولهذا كان الزبور الذي أوتيه داود أكثره مواعظ وزواجر .
(( والكتاب المنير )) الكتاب بمعنى المكتوب، والمنير بمعنى المنير للظلمات، وهذا العطف وهو: (( والزبر والكتاب المنير )) هذا من باب عطف الصفة على الصفة الأخرى، لأن الزبر تتضمن الكتاب المنير، وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في القرآن ومنه قوله تعالى: (( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى )) فقوله: (( والذي قدر )) هذا من باب عطف الصفات: (( والذي أخرج )) أيضا من باب عطف الصفات، فالتغاير هنا تغاير صفة وليس تغاير أداة
12 - تفسير الآية : (( فإن كذبوك فقد كذب رسلٌ من قبلك جآؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )) . أستمع حفظ
فوائد الآية : (( فإن كذبوك فقد كذب رسلٌ من قبلك جآؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )) .
ويتفرع عليها: أن يتسلى الإنسان بكل ما أصاب غيره، فمثلا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يؤذى فليتسلى، بأيش ؟ بأذية غيره، لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصيب بمثل ما أصيب به لاشك أنه ينسى الحزن، كما قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا تقول:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي،
الشاهد هنا قولها: أسلي النفس عنه بالتأسي، فالإنسان إذا نظر يمينا وشمالا وإذا هذا مصاب بعقله، وهذا مصاب ببدنه، وهذا مصاب بأهله، وهذا مصاب بماله يتسلى، كذلك الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال الله له: قد كذب رسل من قبلك، لاشك أنه تهون عليه المصيبة وأنه يتسلى بذلك، لأنه بشر يلحقه من أحكام البشرية ما يلحق غيره .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤذون بالتكذيب، ولا أظن أن شيئا أشق على النفس من التكذيب فيمن جاء بالصدق، أليس كذلك ؟ الإنسان يكاد يتقطع إذا أخبر بشيء صدق ثم قال له كذبت، فكيف وهم من عند الله عزوجل مؤيدون بآياته يكذبون، لاشك أنها شديدة عليهم، ولكنهم يصبرون عليهم الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: (( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا )) يعني: وعلى ما أوذوا أو معطوفة على: (( كذبت )) أي وحصل لهم الأذية أيضا فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا.
من فوائد هذه الآية الكريمة: وانظروا هل يستفاد منها : أن الرسول عليه الصلاة والسلام آخر الرسل؟ هل يمكن أن يستفاد ؟
الطالب: يمكن،
الشيخ : يمكن ولكنه ضعيف، لأنك لو قلت مثلا: زارني رجل قبلك أو من قبلك، هل معناه أنه لا يزورني أحد بعده ؟ لا، فالظاهر أنها لا تفيد .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الرسل لابد أن يؤيدوا بالبينات، لقوله: (( جاءوا بالبينات )).
ومن فوائدها: أن الرسل السابقين كلهم جاؤوا بالكتاب، ما من رسول إلا ومعه كتاب، ويؤيد هذا قوله تعالى: (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )) وذلك لأنه لابد لكل رسول من شريعة، والشريعة بماذا تكون ؟ تكون بما يكتب، سواء نزلت وحيا ثم كتبت أو نزلت مكتوبة كالتوراة، فإن الله كتبها بيده وأنزلها عزوجل .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الكتب السابقة ككتابنا كلها تنير الطريق لمن أراد المسير، ولكن أعظمها إنارة هو هذا القرآن الكريم، ولهذا كان مهيمنا على ما سبقه من الكتب، كل الكتب التي سبقه منسوخة به
13 - فوائد الآية : (( فإن كذبوك فقد كذب رسلٌ من قبلك جآؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )) . أستمع حفظ
تفسير الآية : (( كل نفسٍ ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ... )) .
وقوله: (( ذائقة الموت )) أي ذائقة طعمه، أي لابد أن تموت، ولكن الله عبر بالذوق لأنه أبلغ في الحصول، لأن الذوق يحصل به حق اليقين.
وقد قسم العلماء اليقين إلى ثلاثة درجات: علم، وعين، وحق، فالعلم بالخبر، والعين بالمشاهدة، والحق بالذوق، فإذا قال لك قائل: هذه تفاحة وقد أخفاها في كيس والقائل صدوق، فبماذا تسمي هذا ؟ تسميه بعلم اليقين، فإذا كشفها فهو عين اليقين، فإذا أكلها المخبر فهو حق اليقين، ولهذا عبر عزوجل بالذائقة لأن الموت حق لابد لكل حي من موت إلا الحي القيوم عزوجل .
وقوله: (( كل نفس )) هل المراد من بني آدم ومن الجن ممن على الأرض بحيث نقول: إن الملائكة لا يموتون ؟ الجواب لا، كل أحد يموتون: (( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله )) ذكر العلماء أنه يستثنى من هذا ممن لا يموت وممن خلقوا للبقاء، يستثنى الولدان الذين في الجنة، والحور اللاتي في الجنة فإنهم خلقوا للبقاء فلا يموتون، أما الملائكة وجميع الخلق فإنهم يموتون .
وقوله: (( وإنما توفون أجوركم يوم القيمة )) هذه حصر، يعني لا توفون أجوركم إلا يوم القيمة، والمراد بالتوفية هنا توفية الكمال، وإلا فإن الإنسان قد يوفى أجره في الدنيا ويدخر له أيضا زيادة على ذلك، والكافر أيضا ربما يوفى أجره في الدنيا أي ما عمل من خير فإنه يطعم به في الدنيا لكن في الآخرة ليس له خلاق، وقوله: (( وإنما توفون أجوركم يوم القيمة )) بعد قوله: (( كل نفس ذائقة الموت )) قد يشعر بأن المراد بيوم القيمة هنا ما هو أعم من القيامة الكبرى، فيشمل القيامة الصغرى التي تكون لكل موجود من ذوات النفوس .
قال: (( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)) زحزح: أي دفع ببطء، وذلك لأن النار ـ أعاذني الله وإياكم منها ـ محفوفة بالشهوات، والشهوات تميل إليها النفوس فلا يكاد الإنسان ينصرف عن هذه الشهوات إلا بزحزحة لأنه مقبل عليها بقوة، ولهذا قال: (( زحزح عن النار )) أي: دفع عنها بمشقة وشدة (( وأدخل الجنة فقد فاز )) لأنه نجا من المرهوب وحصل على المطلوب، (( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) ما هذه نافية ولم تعمل عمل ليس لأن النفي انتقض، وإذا انتقض النفي بطل عمله، كما قال ابن مالك: مع بقا النفي،
فإن كان إن انتقض فهي مهملة .
وقوله: (( الحياة الدنيا )) وصفها بالدنيا لوجهين، الوجه الأول: لدنوها زمنا، والوجه الثاني: لدنوها قدرا، أما دنوها زمنا فظاهر لأنها قبل الآخرة، وأما دنوها قدرا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) موضع السوط، السوط يمكن أن نقول إنه متر، خير من الدنيا وما فيها، من الدنيا ليست دنياك التي أنت فيها وليست دنياك الخاصة بك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها، إذا الحياة هذه بالنسبة للآخرة دنيئة ودانية من الدنو وهو الانحطاط، وقوله: (( إلا متاع الغرور )) أي متعة تغر صاحبها وتخدعه، وكم من أناس زينت لهم الدنيا فانخدعوا بها، وكان مآلهم إلى السحيق ـ والعياذ بالله ـ لأنهم اغتروا بها .
فوائد الآية : (( كل نفسٍ ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ... )) .
ومن الفوائد: حث الإنسان على المبادرة في العمل الصالح لأنه إذا كان ميتا ولا محالة وهو لا يدر متى يموت، فإن العقل كالشرع يقتضي أن يبادر ولاسيما في قضاء الواجبات والتخلي عن المظالم، لا تؤخر فإن التأخير له آفات، كثيرا ما يقول الإنسان أنا سأفعل هذا غدا ولكن يتهاون ثم يأتي غد وما بعده ويضيع عليه الوقت .
ومن فوائد الآية الكريمة: أن كمال الأجر إنما يكون يوم القيمة، لقوله: (( وإنما توفون أجوركم )) والتوفية تقتضي أن هناك شيئا سابقا يزاد، وهو كذلك، فإن الإنسان قد يثاب في الدنيا على عمله ولاسيما الإحسان إلى الخلق وقضاء حوائجهم، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) وقال: ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) .
ومن فوائد هذه الآية: إثبات يوم القيمة، لقوله: (( يوم القيمة )) وسمي يوم القيمة لماذا ؟ لأنه يقوم فيه الناس لرب العالمين هذا واحد ؟ ويقوم الأشهاد، يقام فيه القسط، وأدلة هذا معروف قال الله تعالى: (( يوم يقوم الناس لرب العالمين )) وقال تعالى: (( إنا للنصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )) وقال سبحانه وتعالى: (( ونضع موازين القسط ليوم القيمة )) .
ومن فوائد هذه الآية: أنه لا يكمل الفوز إلا بأمرين: أن يزحزح الإنسان عن النار وأن يدخل الجنة، ومعلوم أن من زحزح عن النار فلا بد أن يدخل الجنة، لأنه ليس في الآخرة إلا داران فقط إما النار وإما الجنة، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ما يحصل به هذا الثواب العظيم الزحزحة عن النار وإدخال الجنة فقال: ( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ) فذكر حق الله وحق العباد، فمن وجد من نفسه هذين الوصفين الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنه يأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه فليبشر بهذا .
ومن فوائد هذه الآية: أنها تدل على أن الله لا يرى في الجنة، صح ؟ ما فيها لا نفي ولا إثبات، ولكن الزمخشري في تفسيره قال: أي فوز أعظم من أن يزحزح الإنسان عن النار ويدخل الجنة، أي فوز أعظم، يريد بذلك نفي الرؤية، فنقول له: إذا دخل الإنسان الجنة فإنه سيرى ربه، ويكون رؤيته لله عزوجل أعظم النعيم، فليس في الآية ما يدل على نفي الرؤية إطلاقا، وإذا لم يكن فيها دليل على نفي الرؤية فإن هناك نصوصا من القرآن والسنة تدل على ثبوت الرؤية، والمؤمن هو الذي لا يتتبع المتشابه من القرآن يتتبع المحكم ويحمل عليه المتشابه .
ومن فوائد هذه الآية: التزهيد في الدنيا، لقوله: (( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) .
ومن فوائدها: أنه يجب على الإنسان الحذر من مغبة الدنيا وغرورها، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى أن تفتح الدنيا عليكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم ) وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا هو الخوف، وانظر الآن لما فتحت الدنيا على الناس ماذا حصل ؟ حصل الهلاك، حتى الذين لم تفتح عليهم إذا سمعوا من فتحت عليهم هلكوا.