تتمة شرح حديث معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر قال إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات وإني لا أراه إلا حضور أجلي وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري فقال يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن ثم قال اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا
اقرأ آية الكلالة، قال الله تعالى : (( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ))، في الكلالة : هذا متعلِّق تنازعها عاملان : الأول ، والثاني : يفتيكم، كأنه قال : يستفتونك بالكلالة قل الله يفتيكم في الكلالة، صورتها : إن امرؤ هلك ليس له ولد : يعني لا بنين ولا بنات، وله أخت شقيقة أو لأب، فلها نصف ما ترك، وكون الأخت نصف ما ترك يقتضي ألا يكون لها أب ولا جد، أليس كذلك، إذن : انتفى الولد من بنين وبنات وانتفى الأب، والجد، لأنه لو كان هناك أب أو جد لم يكن للأخت النصف.
فعرفنا الآن أن الكلالة : من ليس له ولد أو والد، واضحة يعني الصورة تبين لك المعنى، لكن حكمة الله عز وجل أن تأتي المسألة على هذه الصيغة لا نعلمها، يعن: من الممكن أن يقول الله تبارك وتعالى الكلالة : من ليس له والد ولا ولد، لكن الله تعالى جعلها في الصورة الواقعة، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، أخ يرث أخته، ومتى يرثها؟ إن لم يكن لها والد، لأنه إذا كان لها والد لشاركه في الإرث، ما نقول حجبه، وله أخت وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، لو كان لها ولد لم يرثها أخوها، لأن ولدها إن كان ذكرا حجب أخاها، وإن كانت أنثى شارك أخاها، والله تعالى يقول : (( وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ))، فدل ذلك على أن المسألة واضحة، وإن الإنسان ليعجب أن تخفى مثل هذه المسألة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى استغرب النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب على صدره وقال : ألا تكفيك، وهو يدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم والعقل والإيمان والذكاء فاإنه عرضة لأن يُحال بينه وبين الفهم.
يقول : وإني إن أعش أقض فيها بقضية إلخ.
إن أعش أين ذهبت الياء؟ حذفت لأن أعش جزمت بالشرط، فآخرهاساكن، والياء ساكنة فحذفت الياء، على حد قول ابن مالك في الكافية :
" إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق *** وإن يكن ليناً فحذفه استحق ".
أما أقض فحذفت الياء أيضاً لجواب الشرط، أقض فيها بقضية يقض فيها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ بالقرآن، والظاهر والله أعلم أنه رضي الله عنه مات وهو لم يقض بهذه القضية، لكن الأمر والحمد لله واضح، حيث قال الله تعالى في الآية التي تلوناها الآن، قال في آخرها : (( يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ))، فالمسألة ولله الحمد واضحة.
ثم قال : " اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم، وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إلي ما أشكل من أمرهم ".
انتبهوا، يقول : إنه يُشهد الله على أمراء الأمصار في معاملتهم للناس، لأن أمراء الأمصار يُسأل عنهم بالدرجة الأولى الخليفة ، الذي إمرته عامة على جميع الرعية، فهو رضي الله عنه لا يحيط بهم علماً، لأنهم متفرقون وفي أماكن بعيدة، لكنه أشهد من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور عليهم وهو الله عز وجل، وبين أنه إنما بعث الأمراء لا ليسيطروا على الناس، ولا لأن يتسلطوا على الناس، ولا ليأخذوا أموالهم، ولا ليضربوا أبشارهم، وإنما بعثهم لهذه الأمور الأربعة : ليعدلوا عليهم : يعني ليضعوا العدل فيهم في الحكم بينهم وفي الحكم عليهم، ولهذا قال : ليعدلوا عليهم ولم يقل ليعدلوا بهم أو بينهم أو فيهم، حتى يشمل العدل في الحكم بينهم والعدل في التحاكم بينهم، هذه واحدة، ثانيا : وليعلموا الناس دينهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم : يعني يعلمهم الشريعة، الدين والسنة، والدين والسنة متلازمان، لأن السنة جاءت بالدين، والدين أخذ من السنة .
والثالث : قال ويقسم فيهم فيئهم، الفيء هو ما يوضع في بيت المال وخمس خمس الغنيمة، والمال المجهول صاحبه وما أشبه ذلك، يقسم الفيء بينهم.
ولا يستأثر به : لأن من الأمراء من يستأثر بالأموال، ومعنى يستأثر بها أي : يختص بها وحاشيته، ويدع الناس، وهذا لا شك أنه ظلم،
لكن موقف الرعية من هذا الظلم أن يصبروا،
وأن لا يشكوا بعضهم إلى بعض تصرف الأمراء هذا، بل الواجب كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنكم ستجدوا بعدي أثَرة فاصبروا )
ما قال : اشكوا للناس، أو أثيروا الناس على أمرائهم قال : ( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )، ولا أظن أحداً أنصح للخلق من رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق، لا أظن أحداً أنصح للخلق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكم يقل إذا رأيتم الأثرة فانشروا تلك الأثرة، واشكوا الحكام على الرعية حتى تمتلئ قلوبهم غيظا وحقدا على ولاتهم بل قال اصبروا، ولم يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ما تكون عاقبته خيرا، نحن نصبر وإن استأثروا علينا بالأموال، وإن ركبوا أفخم المراكب، وبنوا أفخم القصور وكنا نتمنا كسرة الخبزة، نصبر، لأننا لو نابذناهم أو امتلأت قلوبنا حقدا عليهم لترتب على ذلك من الشرور أكثر مما استأثروا به، لكن أمرنا الناصح الأمين الحكيم أمرنا أن نصبر.
ثم قال : ( ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم )، خطوط عريضة للحكم، لا يرفعوا إلي كل قضية، لو رفعت كل قضية للحاكم العام، الذي هو الخليفة، لضاعت الحقوق، إذا قدرنا مثلا أن هناك عشرة آلاف قرية، وكل قرية فيها أمير، وكل أمير يرفع كل صغير وكبير للخليفة متى يحيط بهذا المرفوع؟ إلى يوم القيامة، فتتعطل الأمور، لكن قال : يرفعوا إلي ما يُشكل فقط من أمرهم، وما كان واضحا فلا حاجة إليه، والأمراء أمناء في الأصل وربما يكون لكل قرية نظام يناسب أهلها، يعني كون المظام يجرى على كل أحد، وإن كان لا يناسب ولا يطابق المصلحة في هذا البلد هذا فيه قصور أو تقصير، قد يكون مثلاً هذه القرية قد يناسب أن تفتح أبواب التجارة في النهار دون الليل، فماذا نحكم عليهم؟ نقول : ألا تفتحوا في الليل؟ قالوا : القرية الفلانية تفتح بالليل، نقول لا، تختلف،
القرية الفلانية أكثر أمنا من هذه القرية، هذه القرية لو فتحت بالليل أصبح هناك فوضى ، فكل أمير يتبع ما فيه المصلحة لكل قرية هو فيها، لكن إذا أشكل عليه أمر يرفعه إلى الخلافة العامة، ولا شك أن هذا هو الذي يليق بمصلحة الأمة، لأنه إذا كانت المسألة مركزية تعطلت المصالح، إذا قلنا : لا تحل المشكلة إلا في الوزارة مثلا ليس أي مشكلة المشكلة لا بأس، لا تحل أي مسألة إلا في الوزارة، أو قلنا : أي مسألة ترد يمكن حلها تحل في القرية التي فيها الأمير ؟ أيهما أيسر؟ الثاني أيسر، أيسر على الناس من جهة، وأسهل في حمل العبء على الخلافة أو الحكومة من جهة أخرى، لكن إذا كانت مركزية كل مسألة ترفع للجهات العليا صعب على الناس، وتعطلت مصالحهم، ولهذا نحن نعلم علم اليقين أن حال المسلمين على هذا المنوال الذي ذكره عمر ستكون أكمل من حال المركزية، المركزية عذاب! ثم إن المركزية أيضا أحيانا لا يُعد لها عدادها، قد تجد مثلا الموظفين عشرة، سواء كانوا يديرون بلدا واحداً أو كل البلاد يدورون، هذا غير صحيح، يجب إذا اتسعت دائرة العمل أن يزاد في الموظفين، وألا تجعل الأمور راكدة، لا يزاد فيها ولا ينقص هذا غير صحيح، فالمهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسم للخلفاء من بعده نهجاً سياسياً لو مشى عليه الناس في هذا العصر لوجدوا الراحة، الراحة لهم والرواحة لشعوبهم، لا يُرفع إلى الجهات العليا إلا ما كان مشكلاً، حتى يحل الناس مسائلهم في بلادهم، ولا يحتاجون إلى تعب.
ثم يقول : ( إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين )، ومعنى الخبيث هنا الرديء المكروه، وليس المحرم، فليس كل خبيث محرَّماً، انتبه لهذه القاعدة لكن كل محرم خبيث، صح؟ لكن ليس خبيث بعنى النجس، لا تفهموا هذا خبيث بمعنى أنه لا يصلح وأنه ردي
ولا تستقيم الحياة به، ولهذا لما قال الله : (( ويحرم عليهم الخبائث )) المعنى : أن كل ما حرمه فهو خبيث، وليس المعنى أنه يحرم كل خبيث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وصف البصل بأنه خبيث، وقال : ليس لي تحريم ما أحل الله، وهذه نقطة ينبغي للإنسان أن يفهمها بجمع النصوص بعضها مع بعض حتى يتبين الحكم الشرعي.
قال رحمه الله ورضي عنه : ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ). سبحان الله إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيه قال فأخرجوه إلى البقيع، أين البقيع؟ المقبرة، بقيع الغرقد، وهو بعيد من المسجد، يعني الذي يذهب إلى البقيع أهل المسجد لا يجدون رائحته وإنما أمر أن يُخرج إلى البقيع لا إلى خارج المسجد فقط من أجل الإبعاد لهذا الرجل الذي أكل ما يؤذي الملائكة ويؤذي المصلين، ثم جاء إلى المسجد الذي مأموى الملائكة، مأموى المصلين، تأتي إليهم بما يؤذيهم؟ اخرج من عندهم، أبْعِد.
يقول : ( فمن أكلهما فليمتهما طبخا ).
يمتهما: يعني يذكيهما؟ لا، يعني يطبخهما من أجل أن تذهب الرائحة، وموت كل شيء بحسبه، فليمتهما طبخا أي فليطبخهما حتى تذهب ريحهما، ولكنهم يقولون : إنها إذا طبِخَت ذهبت فائدتهما، فيقال : إن قدِّر أنها تذهب الفائدة فإن الطعم واللذاذة تبقى، وما أحسن رأس البصل إذا كان مطبوخاً تجده حلواً لذيذاً، هذا شيء مشاهد، فإذن : إذا قدر -إذا قدر أن النفع الذي يراد منهما حال كونهما لذيذين- فإنه لا يذهب الطعم، واللذاذة، حيث أننا لا نسلِّم أن الفائدة تزول في الطبخ.
1 - تتمة شرح حديث معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر قال إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات وإني لا أراه إلا حضور أجلي وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري فقال يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن ثم قال اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا أستمع حفظ
فوائد
ومن فوائد هذا الأثر : ذِكر أن ذِكرَ من خلف بالثناء أنه لا يعد من النعي المنهي عنه، وجهه : أن عمر ذكر النبي صلى الله عله وسلم وذكر أبا بكر وهما قد ماتا، وأقره الصحابة على ذلك، لكنما النعي الذي يأتي بعد الموت، يُنعى بعد أن يُصلى عليه ، وبعد أن يُدفن عقيب الموت فتُذكر فيه القصائد وما أشبه ذلك هذا هو يدخل في النعي المنهي عنه، ولهذا يقال : النعي قبل الصلاة عليه ليكثر المصلون جائز أو حرام؟ جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج الناس إلى المصلى فصلوا عليه، النعي بعد مدة يزول فيها أثر الحزن من الموت أيضا جائز لا بأس به كما في هذا الأثر.
ومن فوائد هذا الأثر : أن فيه أصلاً لتعبير الرؤيا، من أين يؤخذ؟ أنه أوَّل النقرات الثلاث أنه حضور أجله، وصار ما كان ، ولكن هل إذا رأينا مثل هذه الرؤيا نفسرها مثل هذا التفسير؟ لا، وذلك لأن الرؤيا تختلف بحسب حال الرائي، وبحسب الزمان، وبحسب المكان، إنسان مثلاً يفكر دائماً في مسألة من المسائل فرأى في الرؤيا، هذه المسألة نقول : هذا حديث نفس ليس برؤيا، إنسان رأى أنه يقعل كذا وكذا، فنعبُرُها بشيء، وإذا رآها آخر نعبرها بشيء آخر، يقال إن رجلاً جاء إلى ابن سيرين فقال : رأيت أني أؤذّن، -والأذان طيب- قال : ستكون سارقاً! ليش؟ أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون. وجاءه آخر قال : رأيتني أءذن قال : تنادي الناس بالخير، لماذا؟ لأن الأول أهل لذلك، والثاني أهل لذلك، فالقرائن يا إخوان لا بد أن تكون أصلا في تعبير الرؤيا، ولهذا ننهى أن يقرأ تفسير الأحلام الذي يُنسب إلى ابن سيرين ثم ينزل هذا التفسير على كل واحد.
طيب من فوائد هذا الأثر : أن عمر رضي الله عنه توقف عن الاستخلاف، وأنه يجوز لولي الأمر أن يتوقف عن العهد لأي أحد من الناس ويجعل الأمر شورى، كما فعل عمر.
ومن فوائد هذا الأثر : تواضع عمر، حيث قال : إن قوماً يأمرونني وجه التواضع : أنه الخليفة، والخليفة لا يوجّه إليه الأمر، لأنه أعلى من الآمر، والقاعدة : أن الأمر إنما يوجَّه دون الآمر،لكن من تواضع عمر رضي الله عنه أنه قال : إن قوماً يأمرونني يقولون : استخلف يا عمر.
ومن فوائد هذا الأثر : أنه يجب أن يكون رجال الشورى من أهل الخير والصلاح، لقوله : الذين توفي عنهم رسول الله وهو عنهم راض، ما يأتي بالشورى كل من هب ودب، كما يوجد في البرلمانات في بعض الدول، هذا غلط، خطأ، الأمة يجب أن تدار بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أولى الناس بإدارتها على هذا الوجه؟ هم أهل العلم، والإيمان، والنصح، والرأي، لا نأتي بكل من هب ودب، صالح طالح عالم جاهل سفيه حكيم، لا يمكن هذا، وهذا من الغش للأمة، الواجب أن يكون أهل الشورى ممن اتصفوا بثلاثة أمور : العلم والإيمان ، ويتبعها الأمانة، والثالث: البصيرة في أحوال الأمة والخبرة، لأنه ربما يكون الإنسان عالم في الشرع لكن ليس عنده خبرة في أحوال الناس وما يصلحهم هذا لا يصلح للشورى، لفقد أيش؟ الخبرة، طيب ربما يكون عالما وعنده خبرة لكن ليس عنده دين، هذا لا يصلح، لأن من ليس عنده دين ليس عنده أمانة، عنده أمانة وعنده خبرة لكنه ليس بعالم، لا يصلح أيضاً لأنه قد يرى ما يخالف الشرع وهو لا يعلم، لكن هذا الأخير أهون مما سبق، يعني فقد العلم أهون من فقد الإيمان الذي منه الأمانة أو الخبرة لماذا؟ لأن من عنده أمانة وعنده خبرة إذا أشكل عليه حكم شرعي فإنه سوف يسأل لأمانته، ولا يعتد برأيه.
طيب ومن فوائد هذا الأثر : أنه كلما قل رجال الشورى كان أحسن وأولى، ليش؟ لأن عمر حصرهم في ستة، فيهم من توفي الرسول وهو عنهم راض، لكن حصرهم في الستة لأنه كلما صغر نطاق الدائرة كان أقرب للصواب، لو حشرنا مئة واحد في الشورى مثلاً، ثم تنازعوا، من يجمع هذه الآراء؟ هم مئة واختلفوا على مئتي رأي، يمكن أو لا يمكن؟ يمكن، يقول أحدهما : هذا صالح، أو هذا صالح، هذا صالح إن كان كذا وهذا صالح إن كان كذا، فيجتمع عنده رأيان وهم مئة فتكون الآراء مئتين، من يجمع المئتين؟ لكن إذا كانوا قلة أمكن حصر الآراء وأمكن النقاش فيها بحرية، إذا كانوا مئة نفر مثلاً كيف نناقش هؤلاء، لو ناقشنا رأي واحد منهم نحتاج ساعتين، وإذا جاء الثاني برأي مخالف، ساعتين أيضاً، وهلم جرا ومئة نفر كم يحتاجون من ساعة؟ مئتي ساعة، لكن إذا كانوا قليلين مع العلم والدين والخبرة صار ذلك قرب لحصول المقصود وهذا شيء مجرَّب يا إخوان.
لو اجتمع الآن عشرين طالباً، تحبون أن نقرأ في الألفية أو بالكافية اختلفتم، من يجمع الآراء، لكن لو كان خمسة ، وقلنا : ابحثوا هذا الأمر، يمكن يعطوننا إياه ناضجا في ساعة، وهذا أمر واضح مجرَّب.
طيب، إذا قال قائل : هؤلاء ستة لماذا لم يجعلهم سبعة؟ لأنه إذا كانوا ثلاثة وثلاثة يكون السابع مرجِّحاً، نقول : يُرجع إلى التاريخ لكن في ظني ليس عندي يقين أن أمير المؤمنين عمر قال : إن اختلفتم في شيء فردوا الأمر إلى عبد الله بن عمر، هذه راجعوها إن شاء الله وأخبرونا بذلك، لأن هذه مهمة، إذا كانوا ستة واخلفوا ثلاثة وثلاثة من يرجح لكن إذا كان معهم السابع قد يكون السابع مرجحا.
تتمة الفوائد
نأخذ الفوائد وربما يفوتنا بعض الشيء لكن اتقوا الله ما استطعتم.
ذكرنا آخر شيء أنه كلما قل رجال الشورى كان أولى وأحسن، وجه ذلك : أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة رجال.
ومن فوائد هذا الأثر : الثناء على هؤلاء الستة، حيث شهد لهم عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، ومن فوائد هذا الأثر : فراسة عمر رضي الله عنه، في هؤلاء القوم الذين يطعنون في لأمر الخلافة.
ومن فوائد هذا الأثر : جواز الضرب على الإسلام، ولكن هذا قد يُعارَض بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة أنهم إذا أبوا الإسلام وبذلوا الجزية فإنهم لا يُضربون، والجواب عن ذلك أن يقال : إن الذي فعله عمر كان قبل نزول آية الجزية، لأن نزول آية الجزية كان متأخراً.
ومن فوائد هذا الأثر : أن الذين يحاولون أن يفرقوا المسلمين هم أعداء الله، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من جاء إلينا وأمرنا واحد يريد أن يفرق جماعتنا أمرنا أن نقتله، لما يحصل من فعله من الفتنة العظيمة.
وجه الدلالة من هذا الأثر في قوله : فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال.
ومن فوائد هذا الأثر : إطلاق الكفر على من خرج على الإمام، وإطلاق الضلالة عليهم، فإن كانوا على الوصف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج فكفرهم مخرج عن الملة، إذا لم بكن لهم تأويل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن إيمانهم لا يتجاوز حناجرهم، وإن كانوا دون ذلك فهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )، فيكون من باب الكفر الذي لا يُخرج من الملة.
ومن فوائد هذا الأثر : أن الرجل ذا الفضل والعلم قد يُشكل عليه بعض ما في القرآن الكريم مع وضوحه وجهه : أن عمر أشكل عليه مسألة الكلالة، مع أنها واضحة، ولهذا دفع النبي صلى الله عليه وسلم في صدره.
ومن فوائد هذا الأثر : اهتمام الصحابة رضي الله عنهم لكتاب الله، ومراجعتهم.
ومن فوائد هذا الأثر أيضاً : أن الإنسان إذا أشكل عليه شيء فإنه يراجع من هو أكبر منه علماً وفهماً، وجه ذلك أن عمر راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلالة.
ومن فوائد هذا الأثر : أن عمر رضي الله عنه يراجع النبي صلى الله عليه وسلم في أشياء لكن لم يراجعه في شيء كما راجعه في الكلالة، مع أنها مسألة ليست من مسائل الدين الكبيرة غاية ما فيها معرفة كيف يُقسم المال بين الورثة.
ومن فوائد هذا الأثر : جواز الإغلاظ في الجواب على من راجع، ولكن قد يُشكل ذلك، قد يُقال : جواز الإغلاظ في الجواب على من راجع إذا كان الأمر واضحاً، أما إذا كان غير واضح فإنه لا يُغلظ له بالقول، بل يهَوَّن، لكن إذا كان واضحاً فلك أن تُغلظ عليه.
ومن فوائد هذا الأثر : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عِظم حلمه وسعة صدره قد يرى من المصلحة أن يفعل ما به التنبيه - أي تنبيه المخاطب- ولو أدى ذلك إلى طعنه وضربه أو كا أشبه ذلك، لقوله : ( حتى طعن بأصبعه في صدره ).
ومن فوائد هذا الأثر : أنه يجوز للمفتي أن يحيل المستفتي على كتاب الله على القرآن ولكن هذا مشروط بما إذا كانت دلالته واضحة، أما إذا كانت غير واضحة لكون السائل عامياً لا يستطيع أن يعرف الحكم من القرآن، أو أن دلالته خفية فالإحالة هنا فيها نظر، لأنك إذا أحلته ربما يؤول النص على غير المراد منه، وجهه : قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر : ( ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ).
ومن فوائد هذا الأثر : بل هذا الحديث لقوله : ( ألا تكفيك ) أنه يُستدل بالحكم على الصورة - أي على صورة المسألة -، فإننا إذا نظرنا إلى آية الصيف التي في آخر السورة وجدنا أن قسمتها تقتضي أن الكلالة من يرثه حواشيه، يعني لا أصوله ولا فروعه، نأخذ هذا من أي شيء من القسمة قسمة المسألة تدل على أن الكلالة من لا والد له ولا ولد، وهذه لها نظائر - أي أنه يستدل على حكم الشيء ببيان الصورة -.
ومن فوائد هذا الأثر : أن عمر رضي الله عنه عزم على أن يقضي في الكلالة بقضية يفهمها كل أحد، وكأنه رضي الله عنه يريد أن يكرس جهوده ببيان معرفتها بجمع أطراف الأدلة حتى تتبين له فيقربها للناس.
ومن فوائد هذا الأثر : أن الواجب على أهل العلم أن يقربوا مسائل الدين وأحكام الشريعة إلى العامة فضلاً عن الخاصة، لقوله : ( من يقرأ القرآن ومن لا يقرأه ).
ومن فوائد هذا الأثر : الإنكار على من أنكر على العلماء جعلهم الأركان والشروط والواجبات والمكروهات والمبطلات وما أشبه ذلك، حيث انتقد بعض الناس الحادثين طريقة الفقهاء، وقالوا : هذا بدعة، هل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يجمع مسائل العلم؟ فيقال إن جمع العلماء لمسائل العلم لا يريدون به التعبد وأن كون الفقه على هذه الصورة من العبادة، وإنما أرادوا بذلك التقريب وحصر المسائل، وهذا يدل عليه أثر عمر رضي الله عنه، أنه سيقضي بها بقضاء يعرفه من يقرأ القرآن ومن لا يقرأه، ويجب أن نفرق بين الوسائل والغايات، فإن الوسائل لا تنحصر بشيء معين، كل ما كان وسيلة إلى مطلوب فهو مطلوب ما لم ينصّ على تحريمه، فإن نُص على تحريمه فإنه لا يجوز ، فمثلا لو قال قائل : أنا أريد أن أعزف على آلات الله ومن أجل أن أؤلف الكفار على الإسلام، ماذا نقول له؟ لا يجوز، لأن الوسيلة إذا نص الأمر على تحريمها فإنه لا يجوز أن تكون وسيلة ولا تكون وسيلة لا بركة فيها، لكن إذا كانت من المباحات فما أدى إلى المقصود فإنه محمود.
ومن فوائد هذا الأثر : أن القرآن الكريم نزل منجَّماً، لقوله : ( ألا تكفيك آية الصيف )، فهذا يدل على أن هناك آيات نزلت في غير الصيف، وهو كذلك، وقد نص الله على ذلك في المدافعة عن القرآن فقال : (( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة كذلك )) يعني (( نزلناه مفرقاً )) (( لنثبِّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً )).
ومن فوائد هذا الأثر : أن الأمراء -أمراء الأمصار- وكلاء عن الأمير الأول : لقوله : ( إني أشهدك على أمراء الأمصار )، ومن الأمير الأول؟ عمر رضي الله عنه، لكن لا يمكن لبشر أن يحيط بأحوال الناس في كل مكان، بل لا بد من الأمراء.
ومن فوائد هذا الأثر : اختيار اسم الأمير فيمن له الولاية على الأسماء التي استجدّت منذ زمن بعيد في البلاد التي استعمرت من قديم، وأن الأولى أن يكون الاسم للولي إيش؟ الأمير، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن ينصبوا أميراً بهذا اللفظ، ولا شك أن الكلمة هذه -أمير- لها وقع في النفس أكثر من أي كلمة أخرى، أكثر من كلمة ولي، أو محافظ أو ما أشبه ذلك، فلذلك ينبغي أن نختار في الولايات الأسماء التي جاءت عن السلف الصالح رضي الله عنهم.
ومن فوائد هذا الأثر : بيان حسن مقصد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لقوله : وإني ( إنما بعثتهم ليعدلوا عليهم ، ويعلموا الناس دينهم، وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويقسم فيهم فيأهم ويرفعوا ) إلخ، هذا هو الغرض الذي أراده عمر رضي الله عنه من هؤلاء الأمراء.
ومن فوائد هذا الأثر : أن الأمير إذا خالف هذه المقاصد النبيلة الحسنة فإنه قد خان، خان من ولاه إذا كان الذي ولاه إنما ولاه لهذا الغرض، فأي أمير من أمراء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخالف هذه المقاصد الأربعة فإنه يُعتبر خائن -خائن لعمر رضي الله عنه-، ولهذا أرشد الله عليهم أولاً ليعدل عليهم، والثاني ليعلم الناس دينهم، الثالثث : وسنة نبيهم، سنة نبيهم نجعلها تبع الدين، ويقسموا بينهم، ويرفعوا إليّ ما أشكل من أمرهم.
ومن فوائد هذا الأثر : الإشارة إلى أن المركزية خلاف الخلافة الإسلامية، المركزية معناه أن نجعل أمور الناس تنحصر في واحد في بلد واحد وما أشبه ذلك لأن المركزية فيها إتعاب وإشقاق على من يقومون بها، ولا سيما إذا لم يُوفَّر من يقوم بها من الموظفين، والثاني إيش؟ تأخير لمعاملات الناس، وإشقاق عليهم.