تفسير سورة التكوير-04
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة التكوير: قال الله تعالى:" إذا الشمس كورت "
(( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) ((إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ . وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ . وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ )) قوله تعالى (( إذا الشمس كورت )) هذا يكون يوم القيامة، والتكوير: جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها، ويلقيها في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله، قال الله تبارك وتعالى: (( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم )) أي تحصبون في جهنم (( أنتم لها واردون )) . ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الآية (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون )) . (( إذا الشمس كورت )) .
تفسير قوله تعالى: " وإذا النجوم انكدرت "
(( وإذا النجوم انكدرت )) : انكدرت يعني تساقطت كما تفسره الآية الثانية. (( وإذ الكواكب انتثرت ))، فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها.
تفسير قوله تعالى: " وإذا الجبال سيرت "
(( وإذا الجبال سُيرت )) هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر كما قال الله تعالى: (( وسيّرت الجبال فكانت سراباً )) .
تفسير قوله تعالى: " وإذا العشار عطلت "
(( وإ ذا العشار عُطلت )) العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا، لكن في الآخرة تعطل ولا يلتفت إليها، لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء كما قال الله تبارك وتعالى: (( يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه )) .
تفسير قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت "
(( وإذا الوحوش حشرت )) الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، لقول الله تعالى: (( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون )). تحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت تراباً، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه .
تفسير قوله تعالى: " وإذا البحار سجرت "
(( وإذا البحار سُجّرت )) البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريباً أو أكثر. هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجّر، أي توقد ناراً، تشتعل ناراً عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبقى فيها ماء، لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون ناراً.
تفسير قوله تعالى: " وإذا النفوس زوجت "
(( وإذا النفوس زوجت )) النفوس جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه، لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى: (( وكنتم أزواجاً ثلاثة )). أي أصنافاً ثلاثة وقال تعالى: (( وآخر من شكله أزواج )). أي أصناف، وقال تعالى: (( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم )). أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض (( وترى كل أمة جاثية )) لوحدها (( كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون )) . إذاً (( وإذا النفوس زوجت )) يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها.
تفسير قوله تعالى: " وإذا الموؤودة سئلت. بأي ذنبٍ قتلت "
(( وإذا الموءودة سُئلت . بأي ذنب قُتلت )) الموءودة هي الأنثى تدفن حية، الأنثى تدفن حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى، فإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، ممتلئ هًّما وغمًّا (( يتوارى من القوم )) يعني يختفي منهم (( من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب )). يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ـ ببنت ـ اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها؟ فكان بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا. فمنهم من يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته، فإذا أصابت لحيته، فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضته عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها، يعني ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم . يقول عز وجل: (( وإذا الموءودة سُئلت )) تسأل يوم القيامة (( بأي ذنب قتلت )) إيش جنت، هل أذنبت؟ فإذا قال الإنسان: كيف تُسأل وهي المظلومة... هي المدفونة، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز، ولم يجر عليها قلم التكليف، فكيف تسأل؟ قيل: إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها، لأنها تُسأل أمامه فيقال: بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم: لأي شيء ضربك هذا؟ بأي ذنب ضربك هذا الرجل؟ وهو يعرف أنه معتداً عليه ليس له ذنب. لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالموءودة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية.
تفسير قوله تعالى: " وإذا الصحف نشرت "
(( وإذا الصحف نشرت )) الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها الأعمال. واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يسجل كل شيء تعمله فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: (( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه )) يعني عمله في عنقه (( ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً )) مفتوحاً (( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )) ، كلامنا الآن ونحن نتكلم مكتوب، كلام بعضكم مع بعض يكتب، كل كلام يكتب (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )). ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ، وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، لأن كل شيء سيكتب عليه، ومن كثُر كلمُه كثُر سقطه، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف تنشر لك يوم القيامة. (( وإذا الصحف نشرت )).
تفسير قوله تعالى: " وإذا السماء كشطت "
وإذا السماء كشطت )) السماء فوقنا سقف محفوظ قوي شديد. قال تعالى: (( والسماء بنيناها بأيد )). أي بقوة. وقال تعالى: (( وبنينا فوقكم سبعاً شداداً )) . أي قوية. في يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى: (( والسموات مطويات بيمينه )) . (( كطي السجل للكتب )). يعني كما يطوي السجل الكتب، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحي، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول: (( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )). يكون بدل السماء التي فوقنا الآن يكون الذي فوقنا هو العرش، لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك الأرض باليد الأخرى ويقول: ( أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ ) .
تفسير قوله تعالى: " وإذا الجحيم سعرت "
(( وإذا الجحيم سعرت )) الجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها- نسأل الله أن ينجينا وإياكم منها-. تُسعر أي توقد. وما وقودها الذي توقد به؟ وقودها الذي توقد به قال الله عنه: (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة )). بدل ما توقد بالحطب والورق يكون الوقود الناس يعني الكفار. والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم .
تفسير قوله تعالى: " وإذا الجنة أزلفت "
(( وإذا الجنة أزلفت )) الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (( أزلفت )) يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين . وانظر الفرق بين هذا وهذا. دار الكفار، ما الذي يجري بها؟ أجيبوا، تسعّر، توقد، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب (( وإذا الجنة أزلفت )) كل هذا يكون يوم القيامة، إذا قرأنا هذه الآيات: (( إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت. وإذا النفوس زوجت. وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت. وإذا الشماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت )) هذه اثنتا عشرة جملة إلى الآن لم يأت بالجواب. لأن كلها في ضمن الشرط (( إذا الشمس كورت )) فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟
تفسير قوله تعالى: " علمت نفسٌ ما أحضرت "
قال الله تعالى: (( علمت نفس ما أحضرت ))، أي ما قدمته من خير وشر (( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء )) . يعني يكون محضراً أيضاً (( تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه )). فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى. من يتذكر الآن ما عمله مما سبق منذ جرى عليه قلم التكليف ؟ إنا نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي، ولكن هل تظنون أن هذا يذهب سدى كما نسيناه؟ لا والله، بل والله هو باق، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى: (( علمت نفس ما أحضرت )) فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الآيات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين، لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا، لأن خبر الله لا يكذب، صدق، لكن ما نراه أو نسمعه كثيراً ما يقع فيه الوهم. قد ترى الشيء البعيد شبحاً تعينه بتصورك وهو خلاف الواقع، وقد تسمع الصوت فتظنه شيئاً معيناً في ذهنك وهو خلاف الواقع، فالوهم يرد على الحواس لكن خبر الله عز وجل إذا علم مدلوله لا يمكن أبداً أن يرد عليه شيء من الوهم لأنه خبر صدق، فهذه الأمور التي ذكرها الله في هذه الآيات أمور حقيقية يجب أن تؤمن بها كأنك تراها رأي عين، ثم بعد الإيمان بها يجب أن تعمل بمقتضى ما تدل عليه من الاتعاظ والانزجار والقيام بالواجب وترك المنهيات حتى تكون من أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته - جعلني الله وإياكم منهم بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير -.
تفسير قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس "
حيث قال الله عز وجل: (( فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ )) (( فلا أقسم بالخنس )) قوله تعالى: (( فلا أقسم )) قد يظن بعض الناس أنها نافية، أن (( لا )) نافية وليس كذلك، بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها في مثل هذا التركيب للتأكيد. فالمعنى (( أقسم بالخنس )) والخنس جمع خانسة، وهي النجوم التي تخنس، أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق، وذلك والله أعلم لارتفاعها وبُعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين. وهذه (( الجوار )) أصلها الجواري بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف و(( الكنس )) هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها. فأقسم الله بهذه النجوم .
تفسير قوله تعالى: " والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس "
ثم أقسم بالليل والنهار فقال: (( والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس )) معنى قوله: (( عسعس )) يعني أقبل، وقيل: معناه أدبر، وذلك أن الكلمة (( عسعس )) في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا. لكن الذي يظهر أن معناها أقبل ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم. وهو قوله: (( والصبح إذا تنفس )) فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله، وبالنهار حال إقباله. وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار، قال الله عز وجل: (( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون )) (( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )) فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه .
تفسير قوله تعالى: " إنه لقول رسولٍ كريمٍ "
وهو قوله: (( إنه لقول رسول كريم )) (( إنه )) أي القرآن (( لقول رسول كريم )) هو جبريل عليه الصلاة والسلام، فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم. ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى: (( ذو مرة فاستوى )) . (( ذو مرة )) قال العلماء: المرة: الخلق الحسن والهيئة الجميلة، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بهذا الوصف: (( كريم )) .
تفسير قوله تعالى: " ذي قوةٍ عند ذي العرش مكينٍ "
(( ذي قوة عند ذي العرش مكين )) (( ذي قوة )) وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ست مئة جناح قد سدّ الأفق كله من عظمته عليه الصلاة والسلام، وقوله: (( عند ذي العرش )) أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا، والعرش فوق كل شيء، وفوق العرش رب العالمين عز وجل. قال الله تعالى: (( رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده )) . فذو العرش هو الله. وقوله: (( مكين )) أي ذو مكانة، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشرف، ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنزلها الله على عباده، وهو الوحي فإن النعم يا إخواني لو نظرنا إليها لوجدنا أنها قسمان: نِعَم يستوي فيها البهائم والإنسان، وهي متعة البدن: الأكل والشرب، والنكاح والسكن، هذه النعم يستوي فيها الإنسان والحيوان، أليس كذلك؟ فالإنسان يتمتع بما يأكل، وبما يشرب، وبما ينكح، وبما يسكن، والبهائم كذلك. ونِعمٌ أخرى يختص بها الإنسان، وهي الشرائع، الشرائع التي أنزلها الله على الرسل لتستقيم حياة الخلق، لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الخلق أو تطيب حياة الخلق إلا بالشرائع (( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) . فالمؤمن العامل بالصالحات هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. والله لو فتشت الملوك وأبناء الملوك، والوزراء وأبناء الوزراء، والأمراء وأبناء الأمراء، والأغنياء وأبناء الأغنياء، لو فتشتهم وفتشت من آمن وعمل صالحاً لوجدت الثاني ، أطيب عيشة، وأنعم بالاً، وأشرح صدراً، لأن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السموات والأرض تكفل. قال: (( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة )) تجد المؤمن العامل للصالحات مسرور القلب، منشرح الصدر، راضياً بقضاء الله وقدره، إن أصابه خير شكر الله على ذلك، وإن أصابه ضده صبر على ذلك واعتذر إلى الله مما صنع، وعلم أنه إنما أصابه بذنوبه فرجع إلى الله عز وجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضَّراء صبر ، فكان خيراً له، وإن أصابته سَّراء شكر فكان خيراً له )، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام، إذن أكبر نعمة أنزلها الله على الخلق هي نعمة الدين الذي به قوام حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وأنا أسألكم الآن ما هي الحياة؟ هل هي الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة؟ الحياة الآخرة، والدليل قوله تعالى في سورة الفجر: (( يقول يا ليتني )) أتموا الآية (( قدمت لحياتي )). فالدنيا ليست بشيء. الحياة حقيقة حياة الآخرة، والذي يعمل للآخرة يحيا حياة طيبة في الدنيا، كما تلوت عليكم الآية، فصار الآن المؤمن العامل للصالحات هو الذي كسب الحياتين: حياة الدنيا، وحياة الآخرة. والكافر هو الذي خسر الدنيا والآخرة (( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين )) . يقول الله عز وجل: (( ذي قوة عند ذي العرش مكين )) .
تفسير قوله تعالى: " مطاعٍ ثم أمينٍ "
(( مطاع ثمَّ أمين )) : (( مطاع ثم )): أي هناك، (( أمين )): على ما كُلف به. من يطيعه ؟جبريل هو المطاع فمن الذي يطيعه؟ قال العلماء: تطيعه الملائكة لأنه ينزل بالأمر من الله فيأمر الملائكة فتطيع، فله إمرة وله طاعة على الملائكة. ثم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين ينزل جبريل عليهم بالوحي لهم إمرة وطاعة على المكلفين (( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )) . (( مطاع ثمَّ أمين )) وهنا أقسم الله عز وجل على أن هذا القرآن قول هذا الرسول الكريم الملكي ، في آية أخرى بيّن الله سبحانه وتعالى وأقسم أن هذا القرآن قول رسول كريم في قوله تعالى: (( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر )). فهل الرسول هناك هو الرسول هنا ؟ الجواب: لا، الرسول هنا في سورة التكوير رسول ملكي أي من الملائكة وهو جبريل، والرسول هناك رسول بشري وهو محمد عليه الصلاة والسلام، والدليل على هذا واضح. هنا قال: (( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين )) وهذا الوصف لمن؟ لجبريل، لأنه هو الذي عند الله، أما محمد عليه الصلاة والسلام فهو في الأرض. هناك قال: (( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر )) ردًّا لقول الكفار الذين قالوا إن محمداً شاعر (( ولا بقول كاهن )) فأيهما أعظم قسماً (( فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة )) أو (( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم ))، أيها أعظم؟ الثاني، الثاني أعظم، ليس فيه شيء أعمّ منه (( بما تبصرون وما لا تبصرون )) كل الأشياء إما نبصرها أو لا نبصرها. إذن أقسم الله بكل شيء. وهنا أقسم بالآيات العلوية (( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس )) والليل والنهار هذه آيات علوية أفقية ، سبحان الله تناسب الرسول الذي أُقسم على أنه قوله وهو جبريل، لأن جبريل عند الله . فإذا قال قائل: كيف الله يصف القرآن بأنه قول الرسول البشري، والرسول الملكي؟ فنقول: نعم الرسول الملكي بلّغه إلى الرسول البشري، والرسول البشري بلغه إلى الأمة، فصار قول هذا بالنيابة، قول جبريل بالنيابة وقول محمد بالنيابة، من القائل الأصلي، الأول؟ الأول هو الله عز وجل، هو الله ،فالقرآن قول الله حقيقة، وقول جبريل باعتبار أنه بلغه لمحمد، وقول محمد باعتبار أنه بلغه إلى الأمة. واضح يا إخوان؟ طيب .
تفسير قوله تعالى: " وما صاحبكم بمجنونٍ "
قال الله تعالى (( وما صاحبكم بمجنون )) أي: المراد بصاحبكم محمد رسول الله عز وجل، وتأمل أنه قال: (( وما صاحبكم )) ولم يقل: وما محمد، كأنه قال: ما صاحبكم الذي تعرفونه وأنتم وإياه دائماً، بصراحة بقي فيهم أربعين سنة في مكة قبل النبوة يعرفونه، ويعرفون صدقه وأمانته، حتى كانوا يطلقون عليه اسم الأمين، اسم الأمين
(( وما صاحبكم بمجنون )) يعني ليس مجنوناً، بل هو أعقل العقلاء عليه الصلاة والسلام، أكمل الناس عقلاً بلا شك وأسدّهم رأياً. طيب . (( وما صاحبكم بمجنون )).
(( وما صاحبكم بمجنون )) يعني ليس مجنوناً، بل هو أعقل العقلاء عليه الصلاة والسلام، أكمل الناس عقلاً بلا شك وأسدّهم رأياً. طيب . (( وما صاحبكم بمجنون )).
تفسير قوله تعالى: " ولقد رآه بالأفق المبين "
(( ولقد رآه )) أي رأى جبريل (( بالأفق المبين )) أي البين الظاهر العالي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين: مرة في غار حراء، ومرة في السماء السابعة لما عُرج به عليه الصلاة والسلام، (( ولقد رآه بالأفق المبين )) أي الرؤيتين هذه؟ (( رآه بالأفق المبين )) هل هي الرؤية التي في غار حراء، أم الرؤية التي فوق السماء؟ في غار حراء، لأنه يقول (( رآه بالأفق )) إذن محمد في الأرض .
تفسير قوله تعالى: " وما هو على الغيب بضنينٍ "
(( وما هو على الغيب بضنين )) يعني ما محمد صلى الله عليه وسلّم (( على الغيب )) يعني على الوحي الذي جاءه من عند الله بمتهم(( ظنين )) بالظاء المشالة أي بمتهم ، وفيها قراءة (( بضنين )) بالضاد أي ببخيل، فهو عليه الصلاة والسلام ليس بمتهم في الوحي ولا باخل به، بل هو أشد الناس بذلاً لما أوحي إليه، يعلم الناس في كل مناسبة، وهو أبعد الناس عن التهمة لكمال صدقه عليه الصلاة والسلام.
تفسير قوله تعالى: " وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ "
(( وما هو بقول شيطان رجيم )) أي ليس بقول أحد من الشياطين، وهم الكهنة الذين توحي إليهم الشياطين الوحي ويكذبون معه ويخبرون الناس فيظنونهم صادقين.
تفسير قوله تعالى: " إن هو إلا ذكرٌ للعالمين "
وقوله تعالى (( إن هو إلا ذكر للعالمين )) (( إن )) هنا بمعنى " ما " وهذه قاعدة: أنه إذا جاءت " إلا " بعد (إن) فهي بمعنى " ما " أي أنها تكون نافية لأن " إن " تأتي نافية، وتأتي شرطية، وتأتي مخففة من الثقيلة، والذي يبين هذه المعاني هو السياق فإذا جاءت " إن وبعدها إلا " فهي نافية، أي ما هو أي القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم ونزل به جبريل على قلبه (( إلا ذكر للعالمين ))، ذكر يشمل التذكير والتذكّر، فهو تذكير للعالمين، وتذكر لهم، أي أنهم يتذكرون به ويتعظون به والمراد بالعالمين من بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى: (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )). وقال تعالى: (( تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً )). فالمراد بالعالمين هنا من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
تفسير قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم "
قال (( لمن شاء منكم أن يستقيم )) (( لمن شاء )) هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهي " إلا " أي: " إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم " وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى: (( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )). فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن، ولكن إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره؟ نقول: نعم مشيئة الإنسان باختياره. فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة، فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، لأنه لو لم يكن ذلك لم تقم الحجة على الخلق الذين أرسلت إليه الرسل بإرسال الرسل، فهمتم الموضوع ؟ هل ما نفعله نحن باختيارنا وإرادتنا؟ الجواب: نعم هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك ما كان لإرسال الرسل حجة علينا إذ أننا نستطيع أن نقول نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي شيء أراده فهو باختياره لا يرى أن أحداً أجبره عليه، ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك، كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره، فالمشيئة للإنسان هو حر فيها، ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله )) ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه. كما قال تعالى: (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا )) . فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا، ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا . فإن قال قائل: إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله . فالجواب: أنه لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفعلنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا أو شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟ وقع بإرادتنا ومشيئتنا، لهذا لا يتّجه أن يكون للعاصي حجة على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: (( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا )) . فلولا أنه لا حجة لهم ما أذاقهم الله، ما ذاقوا بأس الله، لسَلِموا من بأس الله، ولكنه لا حجة لهم فلهذا ذاقوا بأس الله، وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكر له أن بلداً آمناً مطمئناً، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلداً آخر بلدٌ خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيهما يذهب؟ بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول، يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته، وهكذا الآن طريق الخير وطريق الشر، قال الله لنا: هذه طريق جهنم وهذه طريق الجنة، وبيّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب. فأيهما نسلك؟ بالقياس الواضح الجلي أننا سنسلك طريق إيش؟ طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الذي قبل نسلك طريق البلد الآمن الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان. لو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العتب والتوبيخ واللوم، ويُنادى علينا بالسفه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المخوف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإن كل أحد يلومنا ويوبخنا، إذاً ففي قوله: (( لمن شاء أن يستقيم )) تقرير لأن الإنسان، أو تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بإيش؟ بمشيئته واختياره، ولكن بعد أن يفعل الشيء ويشاء الشيء نعلم أن الله قد شاءه من قبل ولو شاء الله ما فعله، وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء يتّجه بعد العزيمة على هذا الشيء وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه، أو يجد نفسه مصروفاً عنه، لأن الله لم يشأه، كثيراً ما نريد أن نذهب مثلاً إلى مسجد ما لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاً أو يقال لنا: إن المحاضرة ألغيت فنرجع، وأحياناً نرجع بدون سبب لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا. ولهذا قيل لأعرابي بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. " بنقض العزائم " يعني الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً وإذا به ينتقض!! من نقض عزيمته، لا يشعر، ما يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن العزيمة الأولى بل بمحض إرادة الله " صرف الهمم " يهم الإنسان بالشيء ويتجه إليه تماماً وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه سواء كان الصارف مانعاً حسيًّا أو كان الصارف مجرد اختيار اختار الإنسان أن ينصرف، كل هذا من الله عز وجل. فالحاصل أن الله يقول: (( لمن شاء منكم أن يستقيم )) وما معنى الاستقامة؟ الاستقامة هي الاعتدال،الاعتدال ولا عدل أقوم من عدل الله عز وجل في شريعته، في الشرائع السابقة كانت الشرائع تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، كانت شريعته تناسب الأمة التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليها من أول بعثته إلى نهاية الدنيا. ولهذا كان من العبارات المعروفة " أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال ". لكل زمان ومكان وحال، لو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق. انظر مثلاً الإنسان يصلي أولاً قائماً، فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنب، إذن الشريعة تتطور بحسب حال الشخص، لأن الدين صالح لكل زمان ومكان . يجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لعجز أو عدم. عدل إلى التيمم، فإن لم يوجد ولا تراب، أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بوضوء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم، كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، ليس فيها جور، ليس فيها ظلم، ليس فيها حرج، ليس فيها مشقة، ولهذا قال: (( أن يستقيم )) : ضد الاستقامة انحرافان: انحراف إلى جانب الإفراط والغلو، وانحراف إلى جانب التفريط والتقصير، ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أشكال: طرفان ووسط، طرف غالٍ مبالغ متنطع متعنت، وطرف آخر مفرّط مقصّر مهمل. والثالث: وسط بين الإفراط والتفريط، مستقيم على دين الله هذا هو الذي يُحمَد. أما الأول والثاني، الأول الغالي، والثاني الجافي فكلاهما هالك . هالك بحسب ما عنده من الغلو، أو من التقصير، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع حتى إنه قال: ( هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون )، لأن التنطع فيه إشقاق على النفس وفيه خروج عن دين الله عز وجل، كما أنه ذمّ المفرطين المهملين وقال في وصف المنافقين: (( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى )) . فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولهذا قال هنا: (( لمن شاء منكم أن يستقيم )) لا يميل يميناً ولا شمالاً، يكون سيره سير استقامة على دين الله عز وجل والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي العبادة تكون أيضاً في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفي الشدة والغلظة والعبوس، وطرف التراخي والتهاون وبذل النفس وانحطاط الرتبة، كن حازماً من وجه، ولين من وجه، ولهذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في القاضي: " ينبغي أن يكون ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف " . فلا يكون لينه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، يكون بين ذلك، ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف حتى تستقيم الأمور، فبعض الناس مثلاً يعامل الناس دائماً بالعبوس والشدة وإشعار نفسه بأنه فوق الناس وأن الناس تحته، وهذا خطأ، ومن الناس من يحط قدر نفسه ويتواضع إلى حد التهاون وعدم المبالاة بحيث يبقى بين الناس ولا حرمة له، وهذا أيضاً خطأ، فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وبين هذا كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام يشتدّ في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين. فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة .(( لمن شاء منكم أن يستقيم )).
تفسير قوله تعالى: " وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين "
(( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) يعني لا يمكن أن تشاءوا شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، الآن مشيئتي الآن أن أحدثكم أن أتحدث إليكم مشيئة مني أنا لكنها ما كانت إلا بعد مشيئة الله عز جل، لو شاء الله لم أشأ، ولو شاء الله أن لا يكون الشيء ما كان ولو شئته. حتى لو شئت والله تعالى لم يشأ فإنه لن يكون، بل يقيض الله تعالى أسباباً تحول بيني وبين هذا حتى لا يقع، وهذه مسألة يجب على الإنسان أن ينتبه لها، أن يعلم أن فعله بمشيئته مشيئة تامة بلا إكراه، لكن هذه المشيئة مقترنة بمشيئة الله. يعلم أنه ما شاء الشيء إلا بعد أن شاء الله، وأن الله لو شاء ألا يكون لم يشأه الإنسان، أو شاءه الإنسان ولكن يحول الله بينه وبينه بأسباب وموانع، (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) وهنا قال : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ولم يقل : ربكم ، إشارة إلى عموم ربوبية الله، وأن ربوبية الله تعالى عامة ولكن يجب أن تعلم أن العالمين هنا ليست كالعالمين في قوله (( إن هو إلا ذكر للعالمين )) (( ذكر للعالمين )) الأولى أنها هي المراد بها، إيش؟ لا،من أُرسل إليهم الرسول، أما هنا (( رب العالمين )) فالمراد بالعالمين كل من سوى الله، فكل من سوى الله فهو عالم، لأنه ما ثمّ إلا رب ومربوب، فإذا قيل رب العالمين تعيّن أن يكون المراد بالعالمين كل من سوى الله، كما قال الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: " وكل من سوى الله فهو عالم، وأنا واحد من ذلك العالم " . فالحاصل أن هذه السورة سورة عظيمة، فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها، كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله وانتفع به، نسأل الله تعالى أن يعظنا وإياكم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآياته الكونية .
اضيفت في - 2007-02-04