تفسير سورة الإنشقاق-07
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة الانشقاق: الكلام على البسملة وهل هي آية من الفاتحة
يقول الله عز وجل (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ (( وقد تقدم الكلام على البسملة ، وبينا أن البسملة آية من كتاب الله مستقلة ليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها وإنما يؤتى بها في الابتداء ابتداء السور إلا سورة براءة، وليست آية من الفاتحة وإن كان الموجود في المصاحف أنها آية ولكن القول الراجح وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وعليه عامة أصحابه أنها ليست آية من الفاتحة وهو الذي دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الله: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم قال:هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) ، فعلى هذا تكون الآية الأولى (( الحمد لله رب العالمين )) والثانية (( الرحمن الرحيم )) والثالثة (( مالك يوم الدين )) والرابعة (( إياك نعبد وإياك نستعين )) والخامسة (( اهدنا الصراط المستقيم )) والسادسة (( صراط الذين أنعمت عليهم )) والسابعة (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) ، وهذا كما أنه الموافق لما دلت عليه السنة فهو الموافق أيضاً للسورة لفظاً ومعناً، أما لفظاً فالآيات الثلاث الأولى كلها في حق الله عز وجل، والآيات الثلاث الأخيرة كلها لحق الإنسان (( اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) كلها للإنسان، والآية الرابعة الوسطى فإن الله قسمها نصفين بين الله وبين العبد، هذا هو القول الراجح في الفاتحة أنها سبع آيات أولها الحمد لله رب العالمين .
تفسير قوله تعالى:" إذا السماء انشقت "
أما السورة التي نبتدئ بها الآن فهي قوله تعالى (( إذا السماء انشقت )) انشقت: انفتحت وانفرجت كقوله تعالى: (( وإذا السماء فُرجت )). وكقوله تعالى: (( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. فبأي ألاء ربكما تكذبان. فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان )). إذاً فانشقاقها يوم القيامة. (( إذا السماء انشقت )).
تفسير قوله تعالى:"وأذنت لربها وحقت "
(( وأذنت لربها وحقت )) أذنت: بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت بينما هي كانت كما وصفها الله تعالى (( سبعاً شداداً )). قوية كما قال تعالى: (( والسماء بنيناها بأيد )). أي بقوة فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تتفرج بإذن الله سبحانه وتعالى (( وأذنت لربها وحقت )) أي حق لها أن تأذن، أي تسمع وتطيع، لأن الذي أمرها من؟ أمرها الله ربها خالقها عز وجل، فتسمع وتطيع، كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى: (( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين )). فتأمل أيها الآدمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل، هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق. في ابتداء الخلق قال: (( ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين )) في انتهاء الخلق (( إذا السماء انشقت )) . (( وأذنت لربها وحقت )) حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع. ثم أعاد قال: (( وأذنت لربها وحقت )) تأكيداً، تأكيداً لإيش؟ لاستماعها لربها وطاعتها لربها. (( وإذا الأرض مدت )) هذه الأرض التي نحن عليها الآن هي غير ممدودة، أولاً: أنها كرة مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلاً ـ أي ممتدة قليلاً ـ فهي مدورة الآن، ثم هي أيضاً معرجة فيها المرتفع جداً، وفيها المنخفض، فيها الأودية، فيها السهول، فيها الرمال، فهي غير مستوية لكن يوم القيامة
تفسير قوله تعالى:" وإذا الأرض مدت "
(( وإذا الأرض مدت )) أي تمد مدًّا واحداً كمد الأديم يعني كمد الجلد، كأنما تفرش جلداً أو سماطاً، تُمد حتى إن الذين عليها ـ وهم الخلائق ـ يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، لكن الآن لا يمكن لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث: ( يسمعهم الداعي، وينفُذُهُم البصر ) . (( وإذا الأرض مدت ))
تفسير قوله تعالى:"وألقت ما فيها وتخلت "
. (( وألقت ما فيها وتخلت . وأذنت لربها وحقت )) (( ألقت ما فيها )) ما الذي فيها؟ فيها جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل، كما بدأهم أول خلق، أي كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافياً أو منتعلاً؟ أجيبوا حافياً، كاسياً أو عارياً؟ عارياً،نعم مختوناً أو أغرل؟ أغرل، إلا أن بعض الناس قد يخلق مختوناً لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة: يا رسول الله: الرجال والنساء؟ قال:" الرجال والنساء "، ظاهرة عوراتهم؟ نعم، لكن الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك، الأمر شديد، كل إنسان لاهٍ عن نفسه (( لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه )) . والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت إذا تصور مجرد تصور فإنه يرتعب ويخاف، وإذا كان عاقلاً مؤمناً عمل لهذا اليوم، ولهذا قال الله عز وجل (( وإذا الأرض مدت . وألقت ما فيها وتخلت . وأذنت لربها وحقت )) أذنت يعني استمعت وأطاعت لربها وحقت فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتداداً واحداً.
تفسير قوله تعالى:"يا أيها الأنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه " ذكر قصة الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، وذكر قصة أصحاب الكهف
ثم قال عز وجل: (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً )) الكادح: هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله: (( إلى ربك )) يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، كدحاً يوصل إلى الله، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى، إلى من؟ إلى الله، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل (( وأن إلى ربك المنتهى )). ولهذا قال: (( كادح إلى ربك كدحاً )) حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل (( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم )). لكن الفرق بين المطيع والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله، لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذاً قوله: (( يا أيها الإنسان )) يعم كل إنسان مؤمن وكافر (( إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )) الفاء يقول النحويون: إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني، فأنت ملاقيه عن بعد أو عن قرب؟ عن قرب (( إن ما توعدون لآت )) . وكل آت قريب (( وما يدريك لعل الساعة قريب )). وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة إذا شئت أن يتبين لك انظر ما مضى من عمرك الآن، لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنة أيش؟ ساعة واحدة. كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة. إذاً هو قريب، ثم إذا مات الإنسان، هل تظنون أن البرزخ الذي بين الحياة الدنيا والآخرة هل تظنونه طويلاً؟ هو قريب، قريب كاللحظة، الإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة، وقام إيش يقدر النوم هذا ،إيش؟ أكيد بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم، ستمر ملايين السنين على الإنسان وهو كأنه لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، أليس كذلك؟ توافقوني على هذا؟ فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً؟ نعم، ما كأنها شيء، والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه (( قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم )). وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ قالوا: (( لبثنا يوماً أو بعض يوم ))، وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات؟ نقول نعم، هذه ملايين السنين لكن ما كأنها إلا دقيقة واحدة، يعني حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تطيل عليه الزمن، لكن حال النوم يتقلص الزمن كثيراً، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا منذ ملايين السنين أو آلاف السنين، كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال: (( فملاقيه )) أتى بالفاء الدالة على إيش؟ الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل.
6 - تفسير قوله تعالى:"يا أيها الأنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه " ذكر قصة الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، وذكر قصة أصحاب الكهف أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:"وأما من أوتي كتابه وراء ظهره - إلى قوله - بلى إن ربه كان به بصيراً "
ثم قسّم الله عز وجل الناس عند ملاقاة الله تعالى إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه -وأسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- ، ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره. من هنا (( فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً . وينقلب إلى أهله مسروراً . وأما من أوتي كتابه وراء ظهره . فسوف يدعوا ثبوراً . ويصلى سعيراً . إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيراً )) لم يفسر الشيخ هذه الآيات.
7 - تفسير قوله تعالى:"وأما من أوتي كتابه وراء ظهره - إلى قوله - بلى إن ربه كان به بصيراً " أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:"فلا أقسم بالشفق "
".(( فلا أقسم بالشفق. والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق. لتركبن طبقاً عن طبق )). هذه الجملة مكونة من قسم، ومُقسم به، ومقسم عليه، ومُقسِم، فالقسم في قوله: (( لا أقسم بالشفق )) قد يظن الظان أن معنى (( لا أقسم )) نفي، وليس كذلك بل هو إثبات و (( لا )) هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام ولها نظائر مثل (( لا أقسم بهذا البلد )). (( لا أقسم بيوم القيامة )). (( فلا أقسم برب المشارق )). (( فلا أقسم بما تبصرون )). وكلها يقول العلماء: إن (( لا )) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت، أما المقسِم فهو الله عز وجل فهو مُقْسِم ومُقْسَم به، يعني أنه فهو سبحانه مقسم، أما المقسَم به في هذه الآية فهو الشفق وما عطف عليه. فإن قال قائل: لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم؟ قلنا: إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن العربي ، نزل باللسان العربي وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جارياً على اللسان العربي الذي نزل به القرآن. وقوله: (( بالشفق )) الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس. وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء وبعضهم قال إذا غاب البياض وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور، ويقال: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه: هو أن الشفق هو الحمرة وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب .
تفسير قوله تعالى:"والليل وما وسق "
(( والليل وما وسق )) هذا أيضاً مقسم به معطوف على الشفق، يعني وأقسم بالليل وما وسق وهذان قسمان الليل وما وسق: الليل معروف، فما معنى (( ما وسق ))؟ أي ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك، تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض.
تفسير قوله تعالى:" والقمر إذا اتسق "
(( والقمر إذا اتسق )) القمر معروف. ومعنى (( إذا اتسق )) يعني إذا جتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار. فأقسم الله عز وجل (( بالليل وما وسق )) أي ما جمع. وبالقمر لأنه آية الليل،
تفسير قوله تعالى:" لتركبن طبقاً عن طبقٍ " وبيان خطأ قول الناس إذا مات شخص: انتقل إلى مثواه الأخير، وذكر أحوال الإنسان في هذه الدنيا
ثم قال بعد ذلك: (( لتركبن طبقاً عن طبق )) والخطاب هنا لجميع الناس، أي لتركبن حالاً عن حال، وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب، انتبهوا تتضمن أربعة أشياء: (( لتركبن طبقاً عن طبق )) ماذا قلنا فيها؟ حالاً بعد حال ، فما هي؟ قلنا: أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب أحوال الزمان نعرف أنها تتنقل (( وتلك الأيام نداولها بين الناس )). فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس، حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر: ويوم علينا ويوم لنا *** ويوم نساء ويوم نسر. وهذا شيء يعرفه منا كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحاً مسروراً وفي اليوم الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً عن طبق. كذلك في الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم التالي منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، وما قبل الآخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة. القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: (( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر )) فقال الأعرابي: " والله ما الزائر بمقيم " يعني الأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه، لأنه كما نعرف أن الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد " فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير " أن هذه الكلمة غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الآخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء وهذا كفر، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى، كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار. ذكرنا الآن حالين: الحال الأولى : الزمان. والحال الثانية : المكان . الثالث: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى: (( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير )). أول ما يخلق الإنسان طفلاً صغيراً يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد ضعيفًا، ثم لا يزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلىء نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة،هذا حال الأبدان . رابعاً: حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب؟! أحوال القلوب هي البلية، هي المصيبة، هي النعمة، هي النقمة، القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، كل قلب، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث قال: ( اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )، فالقلوب لها أحوال، أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل دائماً مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا، لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا. سبحان الله ، أصحاب الدنيا هل تظنون أن الدنيا تخدمهم أم هم الذين يخدمونها؟ نعم، أصحاب الدنيا هم يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها. لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً، وأقوله لنفسي قبلكم أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب؟ أين ذهبت؟ لماذا تنصرف عن الله؟ لماذا تلتفت يميناً وشمالاً؟ ولكن نستعيذ من الشيطان الرجيم، الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وغلب على كثير من الناس، حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله؟ فيقال: يا أخي هل صلاتك صلاة إذا كنت من حين تكبر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها، فهل أنت مصل؟ صليت بجسمك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها نصفها، ربعها، ثلثها، عشرها، خمسها ) حسب ما تعقل منها، إذاً فالقلوب تركب طبقاً عن طبق
11 - تفسير قوله تعالى:" لتركبن طبقاً عن طبقٍ " وبيان خطأ قول الناس إذا مات شخص: انتقل إلى مثواه الأخير، وذكر أحوال الإنسان في هذه الدنيا أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون " "
ثم قال تعالى: (( فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون )): (( ما لهم )) أي شيء يمنعهم من الإيمان؟ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله، أي شيء يمنعهم من الإيمان؟ وأي شيء يضرهم إذا آمنوا، قال مؤمن آل فرعون: (( أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم فإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم )). فأي شيء على الإنسان إذا آمن؟ ولهذا قال موبخاً لهم: (( فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون )) أي لا يخضعون لله عز وجل فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض لكن يسجد قلبك لله ذلاً وخضوعاً إذا سمعت آياته جرّب نفسك يا أخي إذا تلي عليك القرآن هل قلبك يسجد ويلين ويذل؟ إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين (( إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً )) . وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبهٌ من المشركين الذين إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلاً له وخضوعاً له، وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب السجود أي سجود التلاوة. وقال: إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثماً. والصحيح: أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه خطب الناس يوماً فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد فقال رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم يُنكر عليه أحد. وسنته رضي الله عنه من السنن التي أُمرنا باتّباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب، لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت في الصباح، في المساء، في الليل، في النهار، تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إن سجدت في الصلاة فلابد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت، لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم السجود في الصلاة. قال الله تعالى: (( بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )) لما ذكر سبحانه وتعالى أنهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بيّن سبحانه وتعالى أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، لأن كل من كان إيمانه صادقاً فلا بد أن يمتثل الأمر، وأن يجتنب النهي، لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصاً ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات، أو بعضاً منها، أو يفعل المحرمات فاعلم أن إيمانه ضعيف إذ لو كان إيمانه قوياً ما أضاع الواجبات ولا انتهك المحظورات،
تفسير قوله تعالى:" بل الذين كفروا يكذبون
ولهذا قال هنا: (( بل الذين كفروا يكذبون )) أي في تركهم السجود كان ذلك بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل.
تفسير قوله تعالى:" والله أعلم بما يوعون "
(( والله أعلم بما يوعون )) أي أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه أي بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفة الرسل، بل محاربة الرسل وقتالهم، وأنتم تعلمون أن الكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يجمعون لهم ويكيدون لهم فتوعدهم الله تعالى في هذه الآية (( والله أعلم بما يوعون )) أي بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام،
تفسير قوله تعالى:" فبشرهم بعذابٍ أليمٍ "
ثم قال: (( فبشرهم بعذاب أليم )) أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله: (( فبشرهم )) عام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل من يصح منه خطابه، ولكل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، وأن نبشر كل كافر بعذاب أليم، فنحن نبشر كل كافر بعذاب أليم ينتظره، كما قال تعالى: (( وانتظر إنهم منتظرون )) .
تفسير قوله تعالى:" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنونٍ "
ثم قال: (( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )) (( إلا )) هذه بمعنى لكن ولا تصح أن تكون استثناء متصلاً، لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون، وهذا هو الاستثناء المنقطع، أي إذا كان المستثنى ليس من جنس المستثنى منه فهو استثناء منقطع وتقدر (( إلا )) بــ لكن أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون. الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، هؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب لهم أجر غير ممنون. فإن قيل: ما هو العمل الصالح؟ فالجواب: أن العمل الصالح ما جمع شيئين: الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته، وابتغاء ثوابه، وابتغاء النجاة من النار لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا، ولهذا قال العلماء: إن الأعمال التي لا تقع شرطاً في العبادة لا يصح أخذ الأجرة عليها كالأذان مثلاً لا يصح أن تؤذن بأجرة ، والإمامة لا يصح أن تؤم بأجرة، وقراءة القرآن لا يصح أن تقرأ بأجرة، بخلاف تعليم القرآن فيصح أخذ الأجرة لأنه متعدي و تكون الأجرة على العمل لا على التلاوة لكن يريد بأخذ القرآن تلاوة القرآن، إذا جاء إنسان قال أنا أريد أن آخذ القرآن بأجرة فإن ذلك لا يصح ولكن، لأن من شرط العمل الصالح أن يكون مخلصاً لله عز وجل ومن قرأ بأجرة أو تعلّم بأجرة فإنه لم يخلص العمل لله فلا يكون عمله مقبولاً. أما الشيء الثاني: أن يكون متبعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن يتبع الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك. فما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم مع وجود سببه فالسنة فعله إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه، ولهذا نقول: إن ما يفعله كثير من المسلمين اليوم من الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني عشر من هذا الشهر بدعة ليس لها أصل من السنة،لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحتفل بعيد مولده ولا خلفائه الراشدون، مع أننا نعلم علم اليقين أنه لو كان مشروعاً ما تركه النبي عليه الصلاة والسلام بلا بيان للأمة لأن عليه البلاغ فلما لم يقل للأمة إنه يشرع الاحتفال بهذه المناسبة، ولما لم يفعله هو بنفسه، ولم يفعله خلفائه الراشدون، علم أنه بدعة، وأنه لا يزيد فاعله من الله إلا بعداً - نسأل الله العافية-، وهذه البدعة حدثت أول ما حدثت في القرن الرابع أي بعد مضي أكثر من ثلاثمائة سنة على الأمة الإسلامية حدثت هذه البدعة، زعموا أنهم يعظمون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أن كل بدعة ليس فيها تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في اتباع سنته، كما قال الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )) ، ولننظر هذه البدعة هل لها أصل من التاريخ؟ هل لها أصل من الشرع؟ نقول: ليس لها أصل من التاريخ، كذلك أن مولد الرسول عليه الصلاة والسلام مختلف فيه على أكثر من خمسة أقوال فهناك اتفاق على أنه في ربيع لكنهم اختلفوا أول يوم، في ثاني يوم، في التاسع، في العاشر، في الثاني عشر، فيها أقوال، وقد رجح بعض علماء العصر الفلكيين أنه كان في اليوم التاسع وليس في اليوم الثاني عشر، فبطل من الناحية التاريخية أن يكون في اليوم الثاني عشر، أما من الناحية الشرعية فهو باطل من وجوه: الأول: أنه عبادة لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا الخلفاء الراشدون الذين أمرنا باتّباع سنتهم، فإن ادعى مدعٍ أن ذلك مشروع في القرآن والسنة، أو في عمل الخلفاء الراشدين من الصحابة، فعليه الدليل؟ لأن البينة على المدعي، ومن يستطيع إلى ذلك سبيلاً؟ لن يستطيع سبيلا أن يأتي بدليل واحد من الكتاب أو السنة أو فعل الخلفاء الراشدين أو الصحابة على أنه يسن الاحتفال بيوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثانياً: أن نقول هذه البدعة إما أن تكون حقاً أو تكون باطلاً، فإن كانت حقاً لزم من ذلك أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إما جاهلاً بحق، وإما عالماً به وكاتماً له، وكلا الأمرين باطل ممتنعاً غاية الامتناع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً بشيء من شريعة الله أو أن يكون عالماً به ولكن لم يبينه للأمة لأن الاحتمال الأول يقتضي أن يكون جاهلاً بالشرع، مع أنه هو صاحب الشرع، والاحتمال الثاني يقتضي أن يكون كاتماً ما أنزل الله إليه وحاشاه من ذلك، لو كان كاتماً ما أنزل الله إليه لكتم قول الله تعالى : (( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه )) ،ثالثا : بقي أن نقول: إذا تبين أنها بدعة فإنه لا يحل لأحد أن يقيمها، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )، (( ولو اتبع الحق أهوائهم )) لو أن كل من عنّ له أن في هذا مشروعية شرعها لاختلفت الأمة، ولتمزق الدين، ولكان كل فرد له دين معين، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة الإسلامية من وجوب الالتفاف على كلمة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. رابعاً نقول: هذه البدعة لم تقتصر على مجرد الاجتماع والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه وذكر مآثره وذكر شريعته، بل عدل من هذا إلى شيء آخر، إلى قصائد المديح البالغة في الغلو غايته، بل المتجاوزة لطبيعة البشر إلى حقوق الله عز وجل فقد كان هؤلاء الذين يجتمعون يترنمون بقصيدة البوصيري والتي كان يقول فيها يخاطب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: يا أكمل الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم ، إن لم تكن آخذاً يوم المعاد بيدي *** وإلا فقل يا زلة القدم ، فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلـــم قال بعض العلماء: إذا كان الأمر هكذا لم يبق لله شيء، ولم يكن الله تعالى هو المرجع عند الشدائد والفزع، بل كان الرسول عليه الصلاة والسلام الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله هو المرجع وهذا غاية ما يكون من الغلو الذي نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فصار هؤلاء الذين يدّعون أنهم يتقربون إلى الله بمثل هذه الاحتفالات، وأنهم المحبون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاروا في الحقيقة هم الذين يبتعدون عن الله عز وجل كما أشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يرضى بمثل هذا أبداً، فإذا قالوا: إن منشأ هذا هو محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أجل أن نبين للنصارى أننا نعتني برسولنا كما هم يعتنون برسولهم حين يتخذون من ميلاده عيداً، قلنا: إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله فهنا الميزان ميزان قسط عادل وهو قوله تعالى : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) ولهذا كل ما كان الإنسان أشد حباً لله كان أشد اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما كان أقل حباً لله كان أقل اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا رأيت الرجل يدعي محبة الله ورسوله ولكنه لا يحكم بالشريعة فاعلم أنه كاذب، لأن محبة الله ورسوله تنتج منهاجاً لازماً اتباعاً الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الحاصل أنه يجب على طلبة العلم هنا في السعودية وفي غيرها من البلاد الإسلامية أن يبينوا للعامة ولغير العامة أن هذا الاحتفال ليس له أصل من السنة وأنه بدعة وأنه لا يزيد الإنسان إلا بعداً من الله عز وجل لأنه شرع في دين الله ما ليس منه، فإن قال قائل: أليست الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام مشروعة كل وقت؟ والجواب: بلى، أكثرْ من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعظم الله لكم أجرا ، ومن صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً لكن بيد معلم والاجتماع إليه، وذكر المدائح والقصائد الغالية البالغة في الغلو غايته هذا هو الممنوع ونحن لا نقول لا تصلوا على الرسول، نقول أكثر من الصلاة، ولا نقول لا تحب الرسول، نقول حبوا الرسول، أكثر مما تحبون أنفسكم ولا يتم إيمانكم إلا بذلك لكن لا تشرعوا في دينه ما ليس منه، والواجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس ويقولوا لهم اشتغلوا بالعبادات الشرعية الصحيحة، اذكروا الله، صلوا على النبي في كل وقت، أقموا الصلاة، آتوا الزكاة، أحسنوا إلى المسلمين في كل وقت، أما أن تجعلوا عيداً معيناً في السنة، والله تعالى لم يجعل في السنة إلا في ثلاثة أعياد فقط : عيد الأضحى، و عيد الفطر، وعيد الأسبوع وهو الجمعة، أما أن أعياداً أخرى فإنكم تثبتون لله ما لم يشرعه. ثم قال الله تبارك وتعالى: (( إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون لهم أجر )) : أي ثواب، (( غير ممنون )): أي غير مقطوع، بل هو مستمر أبد الآبدين، والآيات في تأبيد الجنة كثيرة معلومة في الكتاب والسنة، وليس من السهولة حيث نسوقها إليكم الآن لأنها واضحة ولله الحمد، فأجر الآخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا فيه وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، والجنة الأجر فيها دائم، (( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً )) نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين العاملين بالصالحات، المجتنبين للسيئات.
اضيفت في - 2007-02-04