تفسير سورة البروج-08
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة البروج: الكلام على البسملة , وبيان بطلان قول العامة أن سبب عدم ذكر البسملة في سورة التوبة أن الجن اختطفتها
(( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ )) البسملة آية مستقلة في الكتاب العزيز ليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها نقرأها في أول كل سورة إلا سورة براءة، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوها في هذه السورة فبقيت بدون بسملة، وما اشتهر عند العوام من أن الجن اختطفوا بسملة سورة البراءة فهذا لا شك أنه باطل لأن الله يقول:(( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ))، لا يمكن أن يسلط عليه الشياطين أو الجن حتى يعتقدون لأن الله تعالى حماه حين نزوله وحماه بعد نزوله، أما ما ذكر عن بعض العلماء أنها لم يذكر فيها البسملة لأنها نزلت بالسيف، وفيها الأمر بقتال المشركين، فهذا أيضاً غير صحيح لأن البسملة بركة، وفي هذه الأدلة من أعظم ما يطلب فيها البركة، على كل حال هي آية مستقلة في أول كل سورة إلا سورة براءة، وليست من الفاتحة على القول الراجح، والذي دل عليه الحديث القدسي وهو قوله تبارك وتعالى فيما رواه عنه نبيه صلى الله عليه و على آله وسلم، أنه قال:: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال الحمد لله قال: حمدني عبدي، ... ) الخ الحديث، وهذا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة، وكذلك أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقرأه إياها جبريل ولم يكن فيها بسم الله الرحمن الرحيم فدل هذا على أنها ليست من الفاتحة من السورة.
1 - تفسير سورة البروج: الكلام على البسملة , وبيان بطلان قول العامة أن سبب عدم ذكر البسملة في سورة التوبة أن الجن اختطفتها أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" والسماء ذات البروج " وبيان أنه لا يجوز الحلف بمخلوق
قوله تعالى: (( والسماء ذات البروج )): الواو هذه حرف قسم يعني يقسم تعالى بالسماء، (( ذات البروج )): أي صاحبة البروج، والبروج هي: جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم وسميت بروجاً لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثنا عشر برجاً جمعت في قول الناظم: حملٌ فثور فجوزاء فسرطان *** فأســــــــدٌ سنبــلــة ميـــــزان، فعقــربٌ قــوسٌ فجـــــــــدي *** وكـذا دلو وذي آخرها الحيتان هذه اثنا عشر برجاً، ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء، فيقسم الله تعالى بذات البروج، بالسماء ذات البروج وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله: بأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، ولقوله: ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )، (( والسماء ذات البروج )): إذن ذات البروج : أي صاحبة البروج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم،وفي السماء اثنا عشر برجاً.
تفسير قوله تعالى:" واليوم الموعود "
(( واليوم الموعود )) : اليوم الموعود هو يوم القيامة، وعد الله تعالى به وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتماً، كما قال تعالى: (( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنَّا كنا فاعلين ))
تفسير قوله تعالى:" وشاهدٍ ومشهودٍ "
(( وشاهد ومشهود )): ذكر العلماء، علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا، ومنهم نحن هذه الأمة شهداء على الناس، ومنهم أعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر، ومنهم الملائكة يشهدون يوم القيامة فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله (( وشاهد ))، وأما (( المشهود )) فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى: (( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود )) . فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود.
تفسير قوله تعالى:" قتل أصحاب الأخدود "
(( قتل أصحاب الأخدود )) (( قتل )) يعني أهلك، وقيل: القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، و(( أصحاب الأخدود )) هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام، ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدوداً حُفراً ممدودة في الأرض كالنهر وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها ـ والعياذ بالله ـ
تفسير قوله تعالى:" النار ذات الوقود "
ولهذا قال: (( النار ذات الوقود )) يعني أن الأخدود هي أخدود النار. (( ذات الوقود )) أي الحطب الكثير المتأجج.
تفسير قوله تعالى:" إذ هم عليها قعودٌ "
(( إذ هم عليها قعود )) يعني أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا ـ والعياذ بالله ـ عندهم قسوة وجبروت يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فكهون كأن شيئاً لم يكن - والعياذ بالله-، وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان البشر تلتهمه النار وهو جالس على سريره يتفكه بالحديث ولا يبالي.
تفسير قوله تعالى:" وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهودٌ "
(( وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود )) يعني هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين أي حضور لا يغيب عنهم ما فعلوه بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد، بل استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته.
(( قتل أصحاب الأخدود )) .
(( قتل أصحاب الأخدود )) .
تفسير قوله تعالى:" وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد "
وقفنا على قوله تعالى: (( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) : أي ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي: إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل، (( إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) وهذا الإنكار أحق أن ينكر، لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكر عليهم، بل هم يحمدون على ذلك، لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة، وهو الله جل وعلا، الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها. وقوله: (( إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحد، ولما قال المنافقون: (( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل )) قال الله تبارك وتعالى: (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )) .
الكلام على اسم الله الحميد، وبيان خطأ قول الناس: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، وبيان ما يشرع قوله في السراء والضراء
وقوله: (( الحميد )) بمعنى المحمود فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال وكان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا جاءه ما يُسر به قال: ( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ) ، وإذا جاءه خلاف ذلك قال: ( الحمد لله على كل حال )، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقول عند المكروه ( الحمد لله على كل حال ) أما ما نسمعه من بعض الناس يقول: " الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه " فهذا خلاف ما جاءت به السنة ، بل قل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( الحمد لله على كل حال ) أما أن تقول: " الذي لا يحمد على مكروه سواه " فكأنك الآن تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يرضى الإنسان بما قدر الله عليه مما يسوؤه أو يُسره، لأن الذي قدره عليك من؟ الله عز وجل هو ربك وأنت عبده، هو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الرضا والصبر وألا تتسخط لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك، اصبر وتحمل والأمر سيزول ودوام الحال من المحال، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً )، فقوله جل وعلى (( الحميد ))، ما معنى (( الحميد ))؟ أجيبوني؟ المحمود على كل حال في سراء أو ضراء لأنه قدر السراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى: (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة )). ولما رأى سليمان عرش بلقيس بين يديه قال: (( هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر )). فأنت يا أخي إذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها نعمة فتمرح وتفرح، هي نعمة لا شك لكن اعلم أنك ممتحن بها هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي، إن أصابتك ضراء فاصبر فإن ذلك أيضاً ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر، وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول: (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) ويجوز أن يكون معنى قوله: (( الحميد )) أن يكون له معنىً آخر وهو الحامد، فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمدٌ لهم، فهو جل وعلا حامد، وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة والشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى: (( أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون )) ؟ أجب على هذا السؤال، الله يسألنا أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ وما الجواب؟ الجواب: بل أنت يا رب (( لو نشاء لجعلناه حطاماً )) بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس يجعله الله حطاماً، ولم يقل الله عز وجل لو نشاء لم ننبته لأن كونه ينبت وتتعلق به النفس ثم يكون حطاماً أشد وقعاً على النفس من كونه لا ينبت أصلاً (( لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون . إنا لمغرمون . بل نحن محرومون )) ثم جاء للشرب فقال: (( أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون )) الجواب: بل أنت يا ربنا (( لو نشاء لجعلناه أجاجاً )) أي مالحاً غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه (( فلولا تشكرون )) يعني فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يقل لو نشاء لم ننزله من المزن، لأن كونه ينزل ولكن لا يشرب لا يطاق أشد من كونه لم ينزل أصلاً فتأملوا يا أهل القرآن الكريم تجدون فيه من الأسرار والحكم الشيء الكثير. (( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) .
10 - الكلام على اسم الله الحميد، وبيان خطأ قول الناس: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، وبيان ما يشرع قوله في السراء والضراء أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيءٍ شهيدٌ "
(( الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد )) : (( الذي له ملك السماوات والأرض )) له وحده ملك السماوات والأرض، لا يملكها إلا هو عز وجل، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأرضين ومن فيها، وما بينهما، وما فيها كل شيء ملك لله ولا يشاركه أحد في ملكه، وما يضاف إلينا من الملك فيقال: مثلاً هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان فهو ملك قاصر وليس ملكاً حقيقياً، لأنه لو أن إنسان أراد أن يهدم بيته بدون سبب فهل يملك ذلك؟ أجيبوا؟ لا، لو أردت أن تهدم بيتك بلا سبب لا يمكنك ذلك، هذا حرام عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن إضاعة المال، لو أردت أن تحرق سيارتك بدون سبب هل ينفع هذا؟ لا ينفع هذا. حتى لو أنك فعلت لحجر الناس حتى القاضي يحجر عليه يمنعه من التصرف في ماله، مع أن الله منعه قبل، إذن ملكنا قاصر، والملك التام لله، (( الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد )) أي: مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار، وسوف يجازيهم، لكن مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة .
تفسير قوله تعالى:" إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق "
قال: (( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق )) قال بعض السلف: انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول: (( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم )) ولو تابوا؟ ها، إيش؟ لا شيء عليهم، إن تابوا فلا شيء عليهم، فتأمل يا أخي حلم الله عز وجل، كيف يحرق هؤلاء الكفار أوليائه، والتحريق أشد ما يكون من التعذيب ثم يقول: (( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات )): قال العلماء: (( فتنوا )) بمعنى أحرقوا كما قال تعالى: (( يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون )). هؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات ، يأتون بالرجل، بالمرأة، يقذفونهم في النار. يقول عز وجل: (( ثم لم يتوبوا )): أي يرجعوا إلى الله،(( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ))، لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزائهم مثل عملهم، جزاءً وفاقاً.
12 - تفسير قوله تعالى:" إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " أستمع حفظ
ذكر الحكمة من تسليط الله الكفار على المسلمين
في هذه الآيات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلاً نحن الآن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق يحرّقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، علينا أن نعتبر، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.و أيضاً في هذه الآيات من العبر: أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئاً واحداً وهو: أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي ينكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان.
ذكر قاعدة في التفسير: إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما
(( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق )): فتنوهم يعني: أحرقوهم على قول بعض أهل العلم، لأن هؤلاء المشركين خدوا أخاديد، أي شقوا سراديب في الأرض وأوقدوا فيها النيران، وأحرقوا فيها المؤمنين، فيكون معنى فتنوا المؤمنين: يعني أحرقوهم. وقيل: فتنوهم أي صدوهم عن دينهم. والصحيح: أن الآية شاملة للمعنيين جميعاً، لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن معانيه أوسع من أفهامنا، معاني القرآن أوسع من أفهامنا، وأنه مهما بلغنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علماً، إنما نعلم منه ما تيسر، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعاً، فنقول: هم فتنوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضاً. ولكن مع هذا يقول الله عز وجل: (( ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم )) فدل في الآية الكريمة على أنهم لو تابوا لغفر الله لهم رغم أنهم فعلوا بأوليائه ما فعلوا فإن الله يتوب عليهم، لأن الله يقول: (( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات )) ، (( فلهم عذاب جهنم )): أي عذاب النار، يعذبون بها، (( ولهم عذاب الحريق )): يحرقون بنار جهنم - نسأل الله السلامة -
ذكر شروط قبول التوبة وهي خمسة:
وفي الآية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن يا إخواني لابد أن نعلم أن التوبة لا تكون توبة نصوحاً مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة: الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه، لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبة يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، كل هؤلاء لا تقبل توبتهم، لماذا؟ لأن التوبة يجب أن تكون خالصة، خالصة لله عز وجل، وأما من أراد بعمله الدنيا فإن الله تعالى يقول في كتابه: (( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار )). الثاني: من شروط كون التوبة نصوحاً: الندم، الندم على ما حصل من الذنب بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب، لا يتحسر ولا يحزن، لابد أن يندم، إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني، فيندم، كما لو عصى الإنسان أباه فإنه يندم. الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب، لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لا يزال يرابي فهل تصح توبته؟ لا تصح توبته، لو قال: أستغفر الله من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس فهل تصح توبته لا ، كيف تصح وهو مصر على المعصية، فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق من هذا، وأخذ مال هذا بخداع وغش فهل تصح توبته،لا حتى يرده، حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى الناس، لو فرضنا أن شخصاً أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه وقال إني تائب، ماذا نقول له؟ نقول له: رد المراسيم إلى حدودها الأولى وإلا فإن توبتك لا تقبل، لأنه لابد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه. والشرط الرابع: أن يعزم عزماً تاماً ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو في نفسه لو حصل له الفرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، بل لابد أن يعزم عزماً أكيداً على ألا يعود. والشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، لأنه يأتي أوقات ما تقبل فيها التوبة، انتبهوا لهذا الشريط الأخير ، تأتي أوقات لا تقبل توبة الإنسان، وذلك في حالين: الحال الأولى: إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل لقول الله تبارك وتعالى: (( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن )). بعدما عاين الموت وشاهد العذاب يقول تبت فلا ينفع هذا، ومثال واقع لهذه المسألة وهو أن فرعون لما أدركه الغرق ماذا قال؟ (( قال آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل )) يعني بالله ولم يقل آمنت بالله إذلالاً لنفسه حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والآن يقول آمنت بالذي آمنوا به فكأنه جعل نفسه تابعاً لمن؟ لبني إسرائيل إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له (( آلآن )) تتوب، آلآن تؤمن بالذي آمنت به بنوا إسرائيل (( وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين )) . إذاً إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، وأنا أسأل كل واحد منكم الآن هل يعلم متى يحضره الموت؟ ها؟ لا، إذن فلابد من المبادرة بالتوبة لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، ألم تعلموا أن من الناس من نام على فراشه في صحة وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير غسله؟! لأجل التغسيل، اعلموا هذا، ألم تعلموا أن بعض الناس جلس على كرسي العمل يعمل ثم حمل من كرسي العمل إلى سرير الغسل؟! الغسيل، كل هذا واقع، إذا يجب أن نبادر بالتوبة، المبادرة بها نسأل الله أن يعينني وإياكم على ذلك، بادروا بالتوبة قبل أن تغلق الأبواب بادروا. يقول الله عز وجل: )) ثم لم يتوبوا ((، قلنا إنها التوبة لا تقبل في حالين: الحالة الأولى: هي معاينة الموت. والحالة الثانية: هي إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا لكن الله يقول: (( لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً )) .فشروط قبول التوبة خمسة - نسأل الله أن يعينني وإياكم على تحقيقها -.
تفسير قوله تعالى:" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير " ذكر أركان الإيمان بالله، وشروط قبول العمل الصالح
ثم قال تعالى: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير )) لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي الطريقة المتبعة فيما يراد به الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم قال الله تعالى إنه (( مثاني ))، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويعرف نعمة الله عليه في الإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين. وصلنا إلى قوله تعالى في سورة البروج: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير )): (( الذين آمنوا )) هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره )، وأما قوله: (( وعملوا الصالحات )) فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، وإتباع شريعة الله، فمن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره فعمله مردود عليه، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ). وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وبناء على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس فيمدحوه هو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضاً، كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس ويمدحوه على ذكره لله فهذا أيضاً مراءٍ، عمله مردودٌ عليه، لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبّد للناس فهذا مشرك شرك أكبر يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيماً له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشرك شركاً أكبر مخرجًا عن الملة، وكذلك أيضاً من ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو رتب أذكاراً معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر الله لو كان تسبيحاً، أو تحميداً، أو تكبيراً، أو تهليلاً ولكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عز وجل، لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل، لأن مجرد العقيدة لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي أن تقول ونعمل العمل الصالح، لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل أين الإيمان بالله؟ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، وكذلك أيضاً يمر علينا في نور على الدرب أسئلة حول هذا الموضوع ونبين الأدلة بما يغني عن إعادتها هنا. (( إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار )) (( لهم )) يعني عند الله (( جنات تجري من تحتها الأنهار )) وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: (( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )). وقال الله في الحديث القدسي: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ). لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات: نخلا، ورمان، وفاكهة، ولحما طيرا، وعسلا، ولبنا، وماء، وخمرا، لكن لا تظنوا أن حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، لكنها أعظم وأعظم بكثير مما تتصوره، الرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن ليس الرمان الذي في الآخرة كهذا فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط "، أما الحقائق فهي غير معلومة. وقوله تعالى: (( تجري من تحتها الأنهار )) قال العلماء: (( من تحتها )) أي من تحت أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية: أنهــارها في غيــر أخدود جــرت *** سبحان ممسكــها عن الفيضــان ، الأنهار في المعروف عندنا أنها تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار هنا وفي آيات كثيرة مجملة لكنها فصلت في سورة القتال ـ سورة محمد ـ قال: (( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى )) . (( تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير )) (( ذلك )) المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم (( الفوز الكبير )) يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب، لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب - نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها -.
16 - تفسير قوله تعالى:" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير " ذكر أركان الإيمان بالله، وشروط قبول العمل الصالح أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" إن بطش ربك لشديدٌ "
ثم قال تعالى: (( إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد )): (( بطش )) يعني أخذه بالعقاب شديد كما قال تعالى: (( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم )). فبطش الله يعني انتقامه وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب، ما أكثر ما يستر الله من العيوب، ما أكثر ما يدفع الله من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، وتلا قوله تعالى: (( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ))، وعلى هذا فنقول: (( بطش ربك )) أي فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه .
تفسير قوله تعالى:" إنه هو يبدئ ويعيد "
(( إنه هو يبدئ ويعيد )) يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى: (( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده )) فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال (( يبدئ )) ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه (( يبدئ )) كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أصلك من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل . (( إنه هو يبدئ ويعيد )).
تفسير قوله تعالى:" وهو الغفور الودود "
(( إنه هو يبدئ ويعيد )) يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى: (( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده )) فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال (( يبدئ )) ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه (( يبدئ )) كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أصلك من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل . (( إنه هو يبدئ ويعيد )).
تفسير قوله تعالى:" ذو العرش المجيد " وذكر القراءات في المجيد وتوجيهها
(( ذو العرش المجيد. فعال لما يريد )) (( ذو العرش )) أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، ( وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة )، إذن الكرسي لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التباين العظيم في أحجامها. أطلعني رجل على صورة الشمس، مصورة، وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما غاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى: (( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )). فالحاصل أن العرش هذا الذي هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن ـ جل وعلا ـ كما قال تعالى: (( الرحمن على العرش استوى )). وقوله: (( ذو العرش المجيد )): هذه فيها قراءتان (( المجيدِ )) و(( المجيدُ )) فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد.
تفسير قوله تعالى:" فعالٌ لما يريد "
(( فعال لما يريد )) كل ما يريده فإنه يفعله عز وجل، لأنه تام السلطان لا أحد يمانعه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه (( وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )). فكل ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدنيا وإن عظمت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع، أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم الذي لا يرد ما أراده شيء. (( فعال لما يريد )) وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون فإنه بإرادة الله عز وجل، لأن الله هو الذي خلقه فيكون واقعاً بإرادته، ولكن اعلموا أن الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله فإنه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها. قوله تبارك وتعالى: (( فعال لما يريد )): هذه وصف لله سبحانه وتعالى أنه فعال لما يريد، وكل ما أراده فإنه يفعله، لا يمنعه شيء من ذلك، لأن له ملك السماوات والأرض، ومالك السماوات والأرض لا أحد يمنعه من أن يفعل في ملكه ما شاء، وهذا كقوله تبارك وتعالى: (( ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )) الخلق مهما كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما شاءوا، بل قد يريدون الشيء إرادة جازمة، وبكل قلوبهم و يتمنون هذا ولكنهم لا يحصل لهم هذا، يحول بينهم وبينه قدر الله عز وجل، ثم الله سبحانه وتعالى فإنه فعال لما يريد. وفي الآية الكريمة إثبات مراد الله عز وجل وهو كذلك فإنه تعالى له الإرادة الكاملة التامة في خلقه حتى فيما يتعلق بأفعال الخلق، لا يكون فعل من الناس إلا بإرادة الله كما قال الله تعالى : (( لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ))، فعلق مشيئتهم بمشيئته سبحانه وتعالى، وقال جل وعلا: (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ))، وهو سبحانه وتعالى إرادته كاملة لما يكون من فعله وما يكون من فعل عباده، أنا مثلا إذا تكلمت بكلامي هذا أو بغيره أو بما سبقه بكل كلامي، فعلته بإرادة الله، لو شاء الله ما تكلمت وإذا شاء الله أن أتكلم تكلمت، فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلم، ولهذا قال: (( فعال لما يريد )).
تفسير قوله تعالى:" هل أتاك حديث الجنود "
ثم قال عز وجل: (( هل أتاك حديث الجنود )) وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل من يصح أن يتوجه إليه الخطاب، والاستفهام للتنبيه، لأن الشيء إذا جاء باستفهام انتبه له الإنسان أكثر، والله عز وجل يقول: (( هل أتاك حديث الجنود )) الجنود جمع جند وهو هنا مبهم لكنه فسره بقوله:(( فرعون وثمود )): يعني هل أتاك خبرهم؟ الجواب: نعم، أتانا خبرهم، قص الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون وقص علينا من نبأ ثمود ما فيه العبرة لمن كان قلبه حي أو ألقى السمع وهو شهيد، فقصة فرعون، ذكرها الله في آيات كثيرة في القرآن الكريم، وفي سور متعددة، وذلك لأن قصة فرعون مقدمة بين يدي رسالة موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وموسى كما هو معروف للناس مبعوث إلى اليهود، إلى بني إسرائيل، فكأن الله سبحانه وتعالى يقص من نبأ موسى ما لم يقص من نبأ غيره، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف يكون مهاجره إلى المدينة والمدينة فيها ثلاث قبائل من اليهود، ساكنة فيها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من نبأهم الشيء الكثير من أجل أن يكون على استعداد لمناظرتهم ومجادلتهم بالحق، حتى لا يخفى عليه من أمرهم شيء، فرعون ملك مصر، وهل هو علم شخص أو علم وصف؟ بمعنى: هل إن فرعون اسم للجبار العنيد الذي بعث إليه موسى أم أنه وصف لكل من ملك مصر وهو كافر؟ يعني : هل هو علم واحد أو علم شخص؟ من العلماء من يقول إنه علم شخص، يعني أن الرجل الذي أرسل إليه موسى وهو الجبار العنيد يسمى فرعون، ومنهم من قال إنه علم وصف لكل من ملك مصر كافراً كما يقال كسرى لكل من ملك الفرس، وهرقل لكل من ملك الروم، والنجاشي لكل من ملك الحبشة، وما أشبه ذلك يعني الاختلاف في هذا ليس بذاك المهم، المهم أن فرعون شخص معروف، كان جباراً عنيداً متكبراً ادّعى أنه الرب، ويستهزئ بموسى وبما جاء به من الآيات، ويتحداه ويقول له صراحة وجهاً لوجه (( إني لأظنك يا موسى مسحوراً ))، ويفتخر يقول لقومه: (( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ))، وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السحرة، فإن السحرة لما جمعوا كل ما عندهم من السحر وجاءوا لمقابلة موسى عليه الصلاة والسلام، حيث أن موسى أتى بآية تشبه السحر ولكنها ليست بسحر بل هي آية من آيات الله، وهي أنه يضع العصا التي بيده عصا من خشب فإذا وضعه في الأرض صار حية تسعى، وهذا يشبه السحر، فجُمع السحرة كلهم، أكبر السحرة وأحذقهم بالسحر جمعوا، جمعوا في وقت حدده موسى، حيث قال له فرعون: (( اجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى )) يعني مكاناً مستوياً منبسطاً حتى يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر، وأما السحرة فقال لهم موعدكم يوم الزينة، ويوم الزينة يوم عيدهم، هو يوم العيد كما تعلمون يكثر تجمع الناس ويهني بعضهم بعضاً بالأعياد، اجتمعوا وواعدهم موسى يوم الزينة، وحشر الناس، ومتى حشروا؟ لم يحشروا بالليل، أو بآخر النهار، أو بأول النهار، حشروا ضحىً في رابعة النهار، ولما حشروا ألقى السحرة كل ما يملكونه من كيد وسحر، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوجس في نفسه خيفة موسى، لأنه شاهد شيئاً عظيماً، فأوحى الله إليه أن يلقي العصا، فألقى العصا فإذا هي تلقف ما يأفكون، حينئذ علم السحرة أن موسى صادق وأنه ليس بساحر، لأنه لو كان ساحراً ما غلبهم بسحره، فآمنوا وكفروا بفرعون، وقالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، وتحدوا فرعون، وفي النهاية نهاية فرعون أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به بالأمس، كان يقول: هذه الأنهار تجري من تحتي، والأنهار المياه فأهلكه الله بجنس ما كان يفتخر به . أما ثمود فإن ثمود ءاتاهم الله تعالى قدرة وقوة وأترفهم حتى كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ويتخذون من السهول قصوراً، وكان لهم قوة وصرامة، فأهلكوا حين كذّبوا نبيهم صالحاً صلى الله عليه وسلم، أهلكوا برجفة وصيحة، صيح بهم فارتجفت بهم الأرض فهلكوا عن آخرهم، وأصبحوا في دارهم جاثمين -والعياذ بالله- ،
تفسير قوله تعالى:" فرعون وثمود "
فالله عز وجل يقول: (( هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمو )) وماذا كان من نبأهم، وفي هذا التنبيه فائدتان: الفائدة الأولى: تسلية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتثبيته، وأن من نصر أول الرسل سوف ينصره، ولا شك أن هذا يقوي العزيمة، ويوجب أن ينتفع الإنسان بما كلف به من تبليغ الرسالة. والثانية: تهديد قريش الذين كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم ليسوا أشد قوة من فرعون وثمود، ومع ذلك أهلكهم الله سبحانه وتعالى، ويكون في ذكر هذا فائدتان: الفائدة الأولى: تسلية الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والفائدة الثانية: تهديد قريش الذين كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام.
تفسير قوله تعالى:" بل الذين كفروا في تكذيبٍ "
ثم قال تعالى: (( بل الذين كفروا في تكذيب ))، هذا استطراد أي انتقال من موضوع لآخر، والذين كفروا يعني بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في تكذيب : في للظرفية، كأن هؤلاء منغمسون في التكذيب، والتكذيب محيط بهم من كل جانب، وهذا أبلغ من قوله (( بل الذين كفروا يكذبون )) في هذا الموضع (( وبل الذين كفروا يكذبون )) في موضع آخر، تكون أبلغ، لأن القرآن الكريم قد يأتي بكلمتين مختلفتين في موضعين وتكون كل واحدة في موضعها أبلغ من الأخرى، لأن القرآن مشتمل على غاية البلاغة.(( بل الذين كفروا في تكذيب )) . (( والله من ورائهم محيط )): والله تعالى من ورائهم محيط أي: غالبهم ومحيط بهم ومهما فروا فإن الله تعالى مدركهم لا محالة، فهو محيط بهم علماً وقدرةً وسلطاناً، لن يفلتوا من الله تعالى إذا أراد بهم سوءاًكما قال تعالى: (( ولو أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما له من دونه من وال )). ثم قال تعالى: (( بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ )): ونتكلم عليه إن شاء الله في اللقاء القادم لأنه مهم، ونذكر المناسبة بين الختم لهذه السورة بهذه الآيتين وبين ابتدائها بالسماء ذات البروج وما ذكر فيها من العبر و القصص، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته إنه على كل شيء قدير.(( بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط )): الذين كفروا يشمل كل من كفر بالله ورسوله سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو النصارى أو غيرهم، وذلك لأن اليهود والنصارى الآن وبعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم ليسوا على دين ولا تنفعهم أديانهم لأنه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلّم ـ خاتم الأنبياء فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إنه سبق لنا أن من لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، يعني مثلاً من لم يؤمن بنوح أنه رسول ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لجميع الأنبياء، والدليل على هذا قوله تعالى: (( كذبت قوم نوح المرسلين )) ، فبين الله أن هؤلاء كذبوا جميع الرسل مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً، إذ أنه ليس رسول، فهذا الذي كذب محمداً صلى الله عليه وسلم هو مكذّب لغيره من الرسل، فإذا ادعت اليهود أنهم على دين وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى نقول لهم: أنتم كافرون بموسى كافرون بالتوراة، وإذا ادعت النصارى الذين يسمون أنفسهم اليوم " بالمسيحيين " أنهم مؤمنون بعيسى قلنا لهم: كذبتم أنتم كافرون بعيسى، لأنكم كافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام، والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمد عليه الصلاة والسلام مع أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن العناد والكبرياء والحسد منعهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام (( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق )). فالحاصل أن قوله تعالى: (( بل الذين كفروا )) يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يعني أمة الدعوة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار )، كل الكفار في تكذيب وقال: (( في تكذيب )) فجعل التكذيب كالظرف لهم يعني : أنه محيط بهم من كل جانب - والعياذ بالله-. (( بل الذين كفروا في تكذيب .
تفسير قوله تعالى:" والله من ورائهم محيطٌ "
والله من ورائهم محيط )) يعني أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب لا يشذون عنه لا عن علمه ولا سلطانه ولا عقابه، ولكنّه عز وجل قد يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
تفسير قوله تعالى:" بل هو قرآنٌ مجيدٌ "
(( بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ )) (( بل هو )) أي ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام (( قرآن مجيد )) أي ذو عظمة ومجد، ووصف القرآن بأنه مجيد لا يعني أن المجد وصف للقرآن نفسه فقط، بل هو وصف للقرآن، ولمن تحمّل هذا القرآن فحمله وقام بواجبه من تلاوته حق تلاوته، فإنه سيكون لهم المجد والعزة والرفعة. وقوله تعالى: (( في لوح محفوظ )) يعني بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب كما قال الله تبارك وتعالى: (( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )). هذا اللوح إذا سألنا سائل: من أي مادة هو؟ ماذا نقول؟ نعم، نقول لوح من خشب؟ من حديد؟ من زجاج؟ من ذهب؟ من فضة؟ من إيش؟ قل: هو لوح كتب الله به مقادير كل شيء، ومن جملة ما كتب به أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم .
تفسير قوله تعالى:" في لوحٍ محفوظٍ "
فهو (( في لوح محفوظ ))، قال العلماء ((محفوظ )) لا يناله أحد، محفوظ عن التغيير والتبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى، لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع : أرجوا أن تنتبهوا لهذا النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه، لأنه ، الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم، لأن الإنسان في بطن أمه إذا تمّ له أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكاً موكلاً بالأرحام، فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. هناك كتابة أخرى حولية كل سنة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى: (( فيها يفرق كل أمر حكيم )) . فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة. هناك كتابة رابعة وهي: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون، قال الله تعالى: (( كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون )). لكن هذه الكتابة الأخيرة تختلف عن الثلاث السابقة لأنها كتابة ما بعد العمل، حتى يكتب على الإنسان ما عمل فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى: (( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )). يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت: اقرأ حاسب نفسك، قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك، وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك، أليس هذا هو الإنصاف؟! بل أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحًا أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا، كذا وكذا، شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك (( يوم تشهد عليهم ألسنتهم )) يقول اللسان: نطقت بكذا (( وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون )) تقول اليد: بطشت، تقول الرجل: مشيت، بل يقول الجلد أيضاً، الجلود تشهد بما لمست (( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون )). المهم الآن أن اللوح المحفوظ هو هذا اللوح الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء هو محفوظ من التغيير، محفوظ من أن يناله أحد، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كتب فيه، وقلنا إنه محفوظ لأنه لا يتغير وما بأيد الملائكة يتغير، وقلنا أن الكتابات أربع: اللوح المحفوظ، و الأجنة، والكتابة الحولية تكون في ليلة القدر، والرابعة؟ كتابة الأعمال بعد وقوعها وتكون هذه بأيد الملائكة، على اليمين واحد من الملائكة وعلى الشمال واحد، يسجلون على الإنسان كل ما يقول، نحن الآن نسجل بمسجل الشريط لا يفوت شيء من الإنسان حتى النَّفَس يوجد في هذا الشريط، هم أيضاً الملائكة يكتبون كل شيء، (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ))، و(( من قول )) هذه يقول علماء البلاغة: " إن النكرة في سياق النفي تكون للعموم "، أي قول تقوله عندك رقيب حسيب حاضر لا يغيب عنك، ويُذكر أن الإمام أحمد رحمه الله كان مريضاً وكان يئن في مرضه، من شدة المرض، فدخل عليه أحد أصحابه وقال : يا أبا عبد الله -وهو طاووس الشامي- وهو رجل من التابعين معروف، يقول: إن الملائكة تكتب على الإنسان حتى أنين المرض، حتى أنينه في مرضه، فأمسك رحمه الله عن الأنين، فالأمر ليس بهين، نسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه ومغفرته. و إلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله: (( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ )) فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة، ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، ونوجه الدعوة على وجه أوكد، وأوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحداً يتصور الآن أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو: التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمورنا وأنا أقصد بولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين جميعاً، لأننا أمة واحدة، وإن تفرقت منا البلدان، واختلفت منا الألسن، أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقيًّا إلى كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء، وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه، أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب، وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا الملك الأكبر وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد، بعيد، بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه - نسأل الله العافية-، وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه، فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك وأن يعينهم على ما أصابهم من هؤلاء النصارى الذين لا يريدون أن يقيم للمؤمنين قائمة ونسأل الله أن يذل النصارى واليهود، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين،وكذلك كل عدو، إنه على كل شيء قدير.
اضيفت في - 2007-02-04