يقول الله عز وجل: (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))(( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ )). والكلام على البسملة قد تقدم كثيراً لنا في هذا المجلس وغيره، وبينا أن البسملة آية من كتاب الله تكلم الله بها كما تكلم بالقرآن جل وعلا، ولكنها آية مستقلة لا تعد من آيات السورة التي بعدها ولا من آيات السورة التي قبلها بل هي مستقلة تبدأ بها السور، من الفاتحة إلى (( قل أعوذ برب الناس )) ما عدا سورة براءة، لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح سورة براءة بالبسملة، ولهذا أغفلها الصحابة رضي الله عنهم من أجل السياق وخوفاً من أن تكون سورة مستقلة جعلوا بينها وبين سورة الأنفال فاصلاً .
تفسير قوله تعالى:" لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة "
يقول الله عز وجل: (( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة )): يعني ما كان الكفار من : (( أهل الكتاب )) و(( المشركين منفكين )) أي تاركين لما هم عليه من الكفر (( حتى تأتيهم البينة )). وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، سموا بذلك لأن صحفهم بقيت إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم مع ما فيها من التبديل والتحريف والتغيير، ولكن هم أهل الكتاب، إذا سمعتم في القرآن أهل كتاب فالمراد بهم من؟ اليهود والنصارى، فاليهود لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل، أما المشركون فهم عبدة الأوثان من كل جنس من بني إسرائيل ومن غيرهم، يقول لم يكن هؤلاء (( منفكين )) أي تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر ومنفكين عنه (( حتى تأتيهم البينة )) وما هي البينة؟ البينة ما يبين به الحق في كل شيء، فكل شيء يبين به الحق فإنه يسمى بينة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر )، فكل ما بان به الحق فهو بينة، ويكون في كل شيء بحسبه، فما هي البينة التي ذكرها الله هنا؟
تفسير قوله تعالى:" رسولٌ من الله يتلو صحفاً مطهرةً "
البينة قال: (( رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة. فيها كتب قيمة )) وهذا الرسول هو النبي صلى الله عليه وسلّم محمد رسول الله، محمد ابن عبدالله الهاشمي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، وجاء بصيغة النكرة (( رسول )) تعظيماً له، لأنه عليه الصلاة والسلام جدير بأن يعظم التعظيم اللائق به من غير نقص ولا غلو (( رسول من الله )) يعني أن الله أرسله إلى العالمين بشيراً ونذيراً، قال الله تبارك وتعالى: (( وأرسلناك للناس رسولاً )). وقال: (( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً )). فهو محمد عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام، لأن جبريل هو رسول رب العالمين إلى رسله موكل بالوحي ينزل به على من شاء الله من عباده. إذاً من المراد بالرسول الأخ؟ من المراد به؟ محمد، طيب من الذي أرسله؟ الله، لقوله: (( رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة ))، طيب من هو الواسطة بين الرسول وبين الله؟ جبريل، لأن جبريل موكل بالوحي ينزل به على من يشاء من عباد الله. قوله (( يتلو صحفاً مطهرة )) يعني يقرأ لنفسه وللناس، (( صحفاً )) جمع صحيفة وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبه ذلك مما يكتب به (( مطهرة )) أي منقاة من الشرك، ومن رذائل الأخلاق، ومن كل ما يسوء، لأنها نزيهة مقدسة . (( فيها )) أي في هذه الصحف (( كتب قيمة )) كتب: أي مكتوبات قيمة، فكتب جمع كتاب، بمعنى مكتوب، والمعنى أن في هذه الصحف مكتوبات قيمة كتبها الله عز وجل، ومن المعلوم أن الإنسان إذا تصفح القرآن وجده كذلك، إذ وجد أنه يتضمن كتباً أي مكتوبات قيمة، انظر إلى ما جاء به القرآن من توحيد الله عز وجل، والثناء عليه، وحمده وتسبيحه تجده مملوءاً بذلك، انظر إلى ما في القرآن من وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ووصف أصحابه المهاجرين والأنصار ووصف التابعين لهم بإحسان، انظر إلى ما جاء به القرآن من الأمر بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة تجد أن كل ما جاء به القرآن فهو قيم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره (( فيها كتب قيمة ))، إذاً أخبر الله في هذه الآية أنه لا يمكن أن ينفك هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والمشركين حتى يأتيهم البينة، فلما جاءتهم البينة هل انفكوا عن دينهم؟ عن كفرهم وشركهم؟
تفسير قوله تعالى:" وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " ذكر قصة النجاشي
نستمع إلى الجواب قال: (( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة )) يعني لما جاءتهم البينة هل آمنوا؟ لا، ولكنهم اختلفوا، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن النصارى من آمن مثل النجاشي ملك الحبشة، ومن اليهود من آمن أيضاً مثل عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن علم الله منه أنه يريد الخير، ويريد الدين لله آمن ووفق للإيمان، ومن لم يكن كذلك وفق للكفر، كذلك أيضاً من المشركين من آمن، وما أكثر المشركين من قريش الذين آمنوا، فصار الناس قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام لم يزالوا على ما هم عليه من الكفر حتى جاءتهم البينة، ثم لما جاءتهم البينة ماذا حصل؟ تفرقوا واختلفوا كما قال تعالى: (( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )).
تفسير قوله تعالى:" إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية " وبيان صفة محمد رسول الله في كتب أهل الكتاب وقد بشر به عيسى عليه السلام
وصلنا إلى قول الله تبارك وتعالى: (( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية )): بيّن الله تعالى في هذه الآية بياناً مؤكداً بـ(( إن )) أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين (( في نار جهنم )) أي في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم، لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الُجهمة، وقيل: إنه اسم أعجمي عربته العرب، وأيًّا كان فإنه أعني لفظ (( جهنم )) اسم من أسماء النار - أعاذنا الله وإياكم منها -. وقوله: (( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين )): (( من )) هنا بيان للإبهام، أعني إبهام الاسم الموصول في قوله: (( إن الذين كفروا )) وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم (( اليهود والنصارى ))، و كذلك الأمر، فإن اليهود والنصارى كفار حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن قالوا: إنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، بل لآمنوا برسلهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف (( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث )). بل إن عيسى صلى الله عليه وسلّم قال لبني إسرائيل (( يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )). فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات، قالوا: هذا سحر مبين، وكذبوه ولم يتبعوه إلا نفراً قليلاً من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه. (( أولئك هم شر البرية )) شر البرية: أي شر الخليقة، فإن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من اليهود والنصارى والمشركين شر البرية شر الخلائق، وقد بين الله ذلك تماماً في قوله: (( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون )). وقال تعالى: (( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون )). فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر، لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبداً أن نحسن الظن بهم، قد نثق بالصادقين منهم كما وثق النبي صلى الله عليه وسلّم بالمشرك، عبد الله بن أريقط، حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق منهم، لأنهم شر. ولما ذكر الله حكم هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ذكر حكم المؤمنين.
تفسير قوله تعالى:" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " وبيان سبب تنوع الأساليب في القرآن
فقال: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ))، والقرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، فيؤتى بالمعنى وما يقابله، ويؤتى بأصحاب النار وأصحاب الجنة، ويؤتى بآيات الترهيب وآيات الترغيب، وهلم جرا، لأجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله عز وجل بين الخوف والرجاء، ولئلا يمل، فإن تنويع الأساليب وتنويع المواضيع لا شك أنه يعطي النفس قوة واندفاعاً، بخلاف ما لو كان الكلام على وتيرة واحدة، فإن الإنسان قد يمل ولا تتحرك نفسه (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )) فخير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم على طبقات أربع بينها الله في قوله: (( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين )). هذه الطبقات الأربع هي طبقات المؤمنين أعلاها: طبقة النبوة، وأعلى طبقات النبوة طبقة الرسالة، ثم بعد ذلك، بعد النبوة الصديقية، وعلى رأس الصديقين أبو بكر رضي الله عنه، والشهداء، قيل: إنهم أُولوا العلم. وقيل: إنهم الذين قتلوا في سبيل الله، والآية تحتمل المعنيين جميعاً بدون مناقضة، والذي ينبغي لمفسر القرآن أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة أن يحملها على المعنيين جميعاً، فالشهداء هم أولوا العلم، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، وكلهم مرتبتهم عالية فوق سائر المتبعين للرسل إلا الصديقين، قال تعالى: (( والصالحين )) وهم أدنى الطبقات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات على اختلاف طبقاتهم هم خير البرية، أي خير ما خلق الله عز وجل من البرايا،
تفسير قوله تعالى:" جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار " وذكرأنواع أنهار الجنة وصفاتها
ثم بين جزاءهم فقال: (( جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار )) وهنا قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم، لأن ثناء الله عليهم أعظم مرتبة وأعلى منقبة، فلذلك قدمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة (( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ))(( جنات )) جمعها لاختلاف أنواعها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: إن الجنات ( جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما )، وإلى هذا يشير قول الله تعالى: (( ولمن خاف مقام ربه جنتان )). ثم ذكر أوصاف هاتين الجنتين، ثم قال: (( ومن دونهما جنتان )). فلهم جنات والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمة أعدها الله عز وجل للمؤمنين المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن لإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الآخرة أبداً، لأنه أعلى وأجل مما نتصور، قال ابن عباس رضي الله عنهما " ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء "، لكنها الحقائق تختلف اختلافاً عظيماً، قال عز وجل: (( جنات عدن )) العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولاً عما هو عليه من النعيم، لأنه لا يرى أن أحداً أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل، قال الله تبارك وتعالى: (( لا يبغون عنها حولاً )). أي لا يبغون تحولاً عما هم عليه لأن الله تعالى قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحداً أكمل نعيماً منهم، ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدن - أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها - .(( تجري من تحتها الأنهار ))(( من تحتها )) قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة محمد فقال: (( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى )). هذه الأنهار وقد جاء في الآثار من وصف هذه الأنهار أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق، ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يميناً وشمالاً، وفي هذا يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه النونية: أنهارها من غير أخدود جرت *** سبحان ممسكها عن الفيضان،
تفسير قوله تعالى:" الدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه "
(( خالدين فيها أبداً )): أي ماكثين فيها أبداً، لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا يألمون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائماً وأبداً أبد الآبدين ـ اللهم اجعلنا منهم ـ .(( رضي الله عنهم ورضوا عنه )) وهذا أكمل نعيم أن الله تعالى يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبداً، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامون في ذلك، أي لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الآخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل. ثم قال عز وجل: (( ذلك لمن خشي ربه )): أي ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله كما قال تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور )) ، وبهذا تمت هذه السورة العظيمة.
تفسير قوله تعالى:" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " ومعنى العبادة وذكر ركنيها وهما الإخلاص والمتابعة مع الأدلة
وهي قوله تبارك وتعالى: (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )) قوله تبارك وتعالى: (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله (( أي أن الناس لم يؤمروا بشيء يتعلق بأمور الدنيا أو بشيء يكلفهم بل هو بشيء سهل عليهم وهو عبادة الله عز وجل، (( ليعبدوا الله مخلصين له الدين )) فما هي العبادة؟ العبادة تطلق على معنيين: المعنى الأول: التعبد، فيقال هذا الرجل تعبد لله عبادة. والمعنى الثاني: المتعبد به، فيقال الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، وهكذا. فعلى المعنى الأول يكون معنى العبادة تذلل العبد لربه عز وجل محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وعلى المعنى الثاني أن العبادة هي المتعبد به يكون معناها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله إنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال و الأعمال، فالصلاة عبادة و الطهارة عبادة والزكاة عبادة والصوم عبادة والحج عبادة وبر الوالدين عبادة وصلة الأرحام عبادة، وكل عمل يقرب إلى الله تعالى فإنه عبادة، لكن الله سبحانه وتعالى ذكر أن هذا الأمر مقرون بشيئين الأول: الإخلاص لله تعالى بحيث يقصد الإنسان بعبادته وجه الله والدار الآخرة، لا يقصد بها دنيا يصيبها ولا امرأة يتزوجها ولا جاه يشرف به عند الناس ولا غير هذا من الأمور الدنيوية، فمن قصد سوى الله في عبادته فهو مشرك حابط عمله ودليل هذا قول الله تعالى: (( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )) ، وفي الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) ، وفي الحديث النبوي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، هذه أدلة وجوب إخلاص العبادة، وأما الثاني: فهو الإتباع يعني إتباع شريعة الله، ودليله قوله تعالى: )) حنفاء )) والحنيف: هو المائل عما سوى شريعة الله، مأخوذ من الحنف: وهو ميل الإصبع، فلا بد من إتباع الشريعة، والدليل لذلك قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وقوله: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) فلا بد في العبادة من الإخلاص والمتابعة.
تفسير قوله تعالى:" ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة "
وقوله عز وجل: (( ويقيموا الصلاة (( : أي معطوفة على قوله)) يعبدوا (( أي ما أمروا إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ونص عليهما لأنهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، والصلاة أوكد من الزكاة، ولهذا كان ترك الصلاة كفراً، ولم يكن الكفر بالزكاة كفراً. الناس (( وذلك دين القيمة )): ذلك المشار إليه ما ذكر من عبادة الله تعالى على الوجه المذكور بالإخلاص والمتابعة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو دين القيمة، أي دين الملة القيمة لأنها شريعة الله التي جاء بها رسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا هو تفسير هذه الآية الكريمة.