تفسير سورة العاديات-23
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة العاديات: قال الله تعالى:" والعاديات ضبحا "
يقول الله تبارك وتعالى: (( وَالْعَدِيَتِ ضَبْحاً . فَالمُورِيَتِ قَدْحاً . فَالْمُغِيرَتِ صُبْحاً . فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً . فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ... )) الخ السورة. ولا يخفى على الجميع أن هذا قسم، والعاديات صفة لموصوف محذوف فما هو هذا الموصوف؟ هل المراد الخيل يعني والخيل العاديات ؟ أو المراد الإبل يعني والإبل العاديات ؟ في هذا قولان للمفسرين: فمنهم من قال: إن الموصوف هي الإبل، والتقدير والإبل العاديات ويعني بها الإبل التي تعدوا من عرفة إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وذلك في مناسك الحج، واستدلوا لهذا بأن هذه السورة مكية، وأنه ليس في مكة جهاد على الخيل حتى يقسم بها. أما القول الثاني لجمهور المفسرين وهو الصحيح فإن المحذوف هو الخيل والتقدير والخيل العاديات والخيل العاديات معلومة للعرب حتى قبل مشروعية الجهاد، هناك خيل تعدو على أعدائها سواء بحق أو بغير حق فيما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فالخيل تعدوا على أعدائها بحق. يقول الله تعالى: (( والعاديات )): والعادي اسم فاعل من العدو وهو سرعة المشي والانطلاق، وقوله: (( ضبحاً )): الضبح ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدوا بسرعة، يكون لها صوت يخرج من صدورها، وهذا يدل على قوة سعيها وشدته.
تفسير قوله تعالى:" فالموريات قدحا "
(( فالموريات قدحاً )): الموريات من أورى أو ورى بمعنى قدح، ويعني بذلك قدح النار حينما يضرب الأحجار بعضها بعضاً، كما هو مشهور عندنا في حجر المرو، فإنك إذا ضربت بعضه ببعض انقدح، هذه الإبل لقوة سعيها وشدته، وضربها الأرض، إذا ضربت الحجر ضرب الحجر الثاني، يضرب الحجر الثاني ثم يقدح ناراً، وذلك لقوتها وقوة سعيها وضربها الأرض.
تفسير قوله تعالى:" فالمغيرات صبحا "
(( فالمغيرات صبحاً )): أي التي تغير صباحاً على العدو، وهذا أحسن وقت يغار فيه على العدو، (( فالمغيرات صبحاً )): أي التي تغير على عدوها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون إغارة على العدو، أن يكون في الصباح لأنه في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقسم بهذه الخيول أحسن وقت للإغارة وهو الصباح، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يغير على قوم في الليل بل ينتظر فإذا أصبح إن سمع أذان كف وإلا أغار.
تفسير قوله تعالى:" فأثرن به نقعا "
(( فأثرن به نقعاً )): أي أثرن بهذا العدو، وهذه الإغارة (( نقعاً )) وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي، فإن الخيل إذا سعت إذا اشتد عدوها في الأرض، وصار لها غبار من الكر والفر.
تفسير قوله تعالى:" فوسطن به جمعا "
(( فوسطن به )): أي توسطن بهذا الغبار (( جمعاً )): أي جموعاً من الأعداء أي أنها ليس لها غاية، ولا تنتهي غايتها إلا وسط الأعداء، وهذا غاية ما يكون من منافع الخيل، مع أن الخيل كلها خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ). أقسم الله تعالى بهذه العاديات ـ بهذه الخيل التي بلغت الغاية ـ وهو الإغارة على العدو وتوسط العدو، من غير خوف ولا تعب ولا ملل. أما المقسم عليه فهو الإنسان
تفسير قوله تعالى:" إن الإنسان لربه لكنود "
فقال: (( إن الإنسان لربه لكنود )) والمراد بالإنسان هنا الجنس، أي أن جنس الإنسان، إذا لم يوفق للهداية فإنه كفور لنعمة الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: (( وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً )). وقيل: المراد بالإنسان هو الكافر، فعلى هذا يكون عامًّا أريد به الخاص، والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنوداً لربه عز وجل، والكنود هو الكفور، أي كافر لنعمة الله عز وجل، يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الرزق عتواً ونفوراً، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله عز وجل، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله.
تفسير قوله تعالى:" وإنه على ذلك لشهيد "
(( وإنه على ذلك لشهيد )) ((إنه (( الضمير قيل: يعود على الله، أي أن الله تعالى يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله. وقيل: إنه عائد على الإنسان نفسه، أي أن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله عز وجل. والصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، فالله شهيد على ما في قلب ابن آدم، وشهيد على عمله، والإنسان أيضاً شهيد على نفسه، لكن قد يقر بهذه الشهادة في الدنيا، وقد لا يقر بها فيشهد على نفسه يوم القيامة كما قال تعالى: (( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون )).
تفسير قوله تعالى:" وإنه لحب الخير لشديد "
(( وإنه )) أي الإنسان (( لحب الخير لشديد )) الخير هو المال كما قال الله تعالى (( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية )). أي: إن ترك مالاً كثيراً. فالخير هو المال، والإنسان حبه للمال أمر ظاهر، قال الله تعالى: (( وتحبون المال حبًّا جًّما )). ولا تكاد تجد أحداً يسلم من الحب الشديد للمال، أما الحب مطلق الحب فهذا ثابت لكل أحد، ما من إنسان إلا ويحب المال، لكن الشدة ليست لكل أحد، بعض الناس يحب المال الذي تقوم به الكفاية، ويستغني به عن عباد الله، وبعض الناس يريد أكثر، وبعض الناس يريد أوسع وأوسع. فالمهم أن كل إنسان فإنه محب للخير أي المال، لكن هذه الشدة تختلف، ويختلف فيها الناس من شخص لآخر، ثم إن الله تعالى ذكَّر الإنسان حالاً لابد له منها .
تفسير قوله تعالى:" أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور "
فقال: (( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور )) فيعمل لذلك، ولا يكن همه المال.(( أفلا يعلم )) أي يتيقن. (( إذا بعثر ما في القبور )) أي: نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين، كأنهم جراد منتشر، يخرجون جميعاً بصيحة واحدة (( إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون )) .
تفسير قوله تعالى:" وحصل ما في الصدور "
(( وحصل ما في الصدور )): أي ما في القلوب من النيات، وأعمال القلب كالتوكل، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك. وهنا جعل الله عز وجل العمدة ما في الصدور كما قال تعالى: (( يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر )). لأنه في الدنيا يعامل الناس معاملة الظاهر، حتى المنافق يعامل كما يعامل المسلم، كما يعامل المسلم حقًّا، لكن في الآخرة العمل على ما في القلب، ولهذا يجب علينا أن نعتني بقلوبنا قبل كل شيء قبل الأعمال، لأن القلب هو الذي عليه المدار، وهو الذي سيكون الجزاء عليه يوم القيامة، ولهذا قال: (( وحصل ما في الصدور )) ومناسبة الآيتين بعضهما لبعض أن بعثرة ما في القبور إخراج للأجساد من بواطن الأرض، وتحصيل ما في الصدور إخراج لما في الصدور، مما تكنه الصدور، فالبعثرة بعثرة ما في القبور عما تكنه الأرض، وهنا عما يكنه الصدر، والتناسب بينهما ظاهر.
تفسير قوله تعالى:" إن ربهم بهم يومئذ لخبير "
(( إن ربهم بهم يومئذ لخبير )) أي إن الله عز وجل بهم: أي: بالعباد لخبير، وقال (( بهم )) ولم يقل ( به ) مع أن الإنسان مفرد، باعتبار المعنى، أي: أنه أعاد الضمير على الإنسان باعتبار المعنى، لأن معنى (( إن الإنسان )) أي: أن كل إنسان، وعلق العلم بذلك اليوم (( إن ربهم بهم يومئذ )) لأنه يوم الجزاء، والحساب، وإلا فإن الله تعالى عليم خبير في ذلك اليوم وفيما قبله، فهو جل وعلا عالم بما كان، وما يكون لو كان كيف يكون.هذا هو التفسير اليسير لهذه السورة العظيمة، ومن أراد البسط فعليه بكتب التفاسير التي تبسط القول في هذا، و إنما نحن نشير إلى المعاني إشارة موجزة،
بيان سبب تفسير الشيخ لجزء عم
وقد بينا أول ما بدأنا في هذا الجزء المبارك بأننا اخترنا هذا لأنه كثيراً ما يسمعه الناس في الصلاة الجهرية، في المغرب والعشاء والفجر، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق، وأن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.
اضيفت في - 2007-02-04