تفسير سورة التكاثر-25
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة التكاثر: قال الله تعالى:" ألهاكم التكاثر " وذكر أوجه تكاثر الناس
(( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر )): هذه الجملة جملة خبرية يخبر الله عز وجل بها العباد مخاطباً لهم يقول: (( ألهاكم التكاثر ))، ومعنى (( ألهاكم )): أي شغلكم حتى لهوتم عن ما هو أهم من ذكر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب هنا لجميع الأمة إلا أنه يخصص بمن شغلتهم أمور الآخرة عن أمور الدنيا وهم قليل، وإنما نقول هم قليل لأنه ثبت في الصحيحين أن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: ( يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعون )، واحد في الجنة والباقي في النار، وهذا عدد هائل! إذا لم يكن من بني آدم إلا واحداً من الألف من أهل الجنة والباقون من أهل النار، إذاً فالخطاب بالعموم في مثل هذه الآية جار على أصله، لأن الواحد من الألف ليس بشيء بالنسبة إليه، وأما قوله: (( التكاثر )): فهو يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، وبكل ما يمكن أن يقع فيه التفاخر، ويدل لذلك قول صاحب الجنة لصاحبه: (( أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً )). فالإنسان قد يتكاثر بماله فيطلب أن يكون أكثر من الآخر مالاً وأوسع تجارة، وقد يتكاثر الإنسان بقبيلته، يقول نحن أكثر منهم عدداً، كما قال الشاعر: ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنما العـــزة للكــــاثر ، أكثر منهم حصى، لأنهم كانوا فيما سبق يعدون الأشياء بالحصى، فمثلاً: إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والآخرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأول إيش؟ أكثر وأعز، فيقول الشاعر: لست بالأكثر منهم حصى *** وإنما العزةُ للكــــــاثر ، كذلك يتكاثر الإنسان بالعلم، فتجده يفخر على غيره بالعلم لكن إن كان بالعلم الشرعي فهو خير، وإن كان بالعلم غير الشرعي فهو إما مباح وإما محرم، المهم أن أكثر ما يقع منه التكاثر العلم، وهذا هو الغالب على بني آدم التكاثر. فيتكاثرون في هذه الأمور عما خلقوا له من عبادة الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى:" حتى زرتم المقابر " وبيان خطأ قول الناس في الميت: انتقل إلى مثواه الأخير
وقوله: (( حتى زرتم المقابر )) : يعني إلى أن زرتم المقابر، يعني إلى أن مُتم، والإنسان مجبول على التكاثر إلى أن يموت، بل كلما ازداد به الكِبر ازداد به الأمل، فهو يشيب في السن ويشب في الأمل، حتى إن الرجل له تسعون سنة مثلاً تجد عنده من الآمال وطول الأمل ما ليس عند الشاب الذي له خمس عشرة سنة. هذا هو معنى الآية الكريمة. أي: أنكم تلهوتم بالتكاثر عن الآخرة إلى أن متم. وقيل: إن معنى (( حتى زرتم المقابر )): حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي الإنسان فيقول: أنا قبيلتي أكثر من قبيلتك وإذا شئت فاذهب إلى القبور عد القبور منا، وعد القبور منكم فأينا أكثر؟ لكن هذا قول ضعيف بعيد من سياق الآية، والمعنى الأول هو الصحيح، أنه إيش؟ أنكم تتكاثرون إلى أن تموتوا. وقوله: (( حتى زرتم المقابر )): استدل به عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ على أن الزائر لابد أن يرجع إلى وطنه، وأن القبور ليست بدار إقامة، وكذلك يذكر عن بعض الأعراب أنه سمع قارئا يقرأ: (( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ))، فقال: " والله لنبعثن "، لأن الزائر كما هو معروف يزور ويرجع، فقال: " والله لنبعثن " . وهذا هو الحق، وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الآن في الجرائد وغيرها. يقول عن الرجل إذا مات: " إنه انتقل إلى مثواه الأخير "، أن هذا كلام باطل وكذب، لأن القبور ليس هي المثوى الخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلول هذا اللفظ لصار كافراً بالبعث، والكفر بالبعث ردة عن الإسلام، لكن كثيًرا من الناس يأخذون الكلمات على عوائلها ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثة عن الملحدين الذين لا يقرون بالبعث بعد الموت.
2 - تفسير قوله تعالى:" حتى زرتم المقابر " وبيان خطأ قول الناس في الميت: انتقل إلى مثواه الأخير أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون "
ثم قال الله تعالى: (( كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون )) قيل: إن (( كلا )) بمعنى الردع يعني: ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل: إنها بمعنى حقًّا، ومعنى (( سوف تعلمون )) أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الآخرة، وأن هذا التكاثر لا ينفعكم، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم ( يقول ابن آدم: مالي ومالي ـ يعني: يفتخر به ـ وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ) والباقي تاركه لغيرك وهذا هو الحق، أموالنا التي بين أيدينا، إما أن نأكلها فتفنى، وإما أن نلبسها فتبلى، وإما أن نتصدق بها فنمضيها وتكون أمامنا يوم القيامة، وإما أن نتركه لغيرنا لا يمكن أن يخرج المال الذي بأيدينا عن هذه القسمة الرباعية. (( كلا سوف تعلمون )) أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم بالتكاثر الذي ألهاكم عن الآخرة (( ثم كلا سوف تعلمون ))، وهذه الجملة تأكيد للردع مرة ثانية،
تفسير قوله تعالى:" كلا لو تعلمون علم اليقين "
ثم قال: (( كلا لو تعلمون علم اليقين )) يعني: حقًّا لو تعلمون علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال، ولكنكم لا تعلمون علم اليقين، لأنكم غافلون لاهون في هذه الدنيا،ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال وفي خطأ عظيم.
تفسير قوله تعالى:" لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين "
ثم قال تعالى: (( لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين )): (( لترون )) هذه الجملة مستقلة ليست جواب ( لو ) ولهذا يجب على القارئ أن يقف عند قوله: (( كلا لو تعلمون علم اليقين )) ونحن نسمع كثيراً من الأئمة الذين عندهم علم يَصِلُون فيقولون (( كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم )) وهذا الوصل إما غفلة منهم ونسيان، وإما أنهم لم يتأملوا الآية حق التأمل، وإلا لو تأملوها حق التأمل لوجدوا أن الوصل يفسد المعنى لأنه إذا قال (( كلا لو تعلمون علم اليقين . لترون الجحيم )) صار رؤية الجحيم مشروطة بماذا؟ بعلمهم، وهذا ليس بصحيح، لذلك يجب التنبه والتنبيه لهذا إذا سمعتم أحد يقرأ (( كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم )) نبهوه وقولوا له: يا أخي هذا الوصل يوهم فساد المعنى، فلا تصل وقف، أولاً: لأنها رأس آية، والمشروع أن يقف الإنسان عند رأس كل آية، وثانياً: أن الوصل يفسد المعنى (( كلا لو تعلمون علم اليقين . لترون الجحيم )) إذاً (( لترون الجحيم )) جملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، وهي جملة قسمية، فيما قسم مقدر والتقدير: والله لترون الجحيم، ولهذا يقول المعربون في إعرابها: إن اللام موطئة للقسم، وجملة (( ترون )) هي جواب القسم، والقسم محذوف والتقدير " والله لترون الجحيم "، و(( الجحيم )) اسم من أسماء النار.(( ثم لترونها عين اليقين )) تأكيد لرؤيتها، ومتى ترى؟ تُرى يوم القيامة، يؤتى بها تُجر بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، فما ظنك بهذه النار ـ والعياذ بالله ـ إنها نار كبيرة عظيمة لأن فيها سبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، والملائكة عظام شداد فهي نار عظيمة ـ أعاذنا الله وإياكم منها-.
تفسير قوله تعالى:" ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " وهل السؤال يكون للمؤمن أو للكافر أو معا؟
(( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم )) يعني: ثم في ذلك الوقت في ذلك الموقف العظيم تسألن عن النعيم، واختلف العلماء رحمهم الله في قوله: (( لتسألن يومئذ عن النعيم )) هل المراد الكافر، أم المراد المؤمن والكافر؟ والصواب: أن المراد المؤمن والكافر كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يسأل سؤال تذكير، والدليل على أنه عام ما جرى في قصة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، حيث خرجوا ذات يوم من الجوع، فذهبوا إلى بستان رجل يقال له أبو الهيثم بن التيهان، فاستأذنوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( السلام عليكم )، وكانت امرأته وراء الباب فلم ترد عليهم، فقال :( السلام عليكم ) فلم ترد، فقال: ( السلام عليكم ) فلم ترد، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن الإنسان إذا استأذن ثلاثاً ولم يؤذن له فإنه يرجع، فلحقتهم وقالت: إني سمعت سلامكم، ولكني أحببت أن أزداد في الخير، الرسول يدعوا في السلام عليهم، ولاسيما أنه تكرر من الرسول صلى الله عليه وسلم، فرجعوا فسألوا عن زوجها، فقالت: إنه ذهب يستعذب الماء، أي يأتي بالماء العذب الطيب، فجلسوا ثم جاء الرجل ففرح بهم فرحاً عظيماً، وقال: إنه لا أحد أكرم أضيافاً مني اليوم، ثم قطع لهم عذقاً من نخل وأتى بها، وأعطاه بين أيديهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:( هلا جنيت؟ ) - جنيت يعني خرفت-، وتعلمون أن الخراف أن يجني الإنسان الرطب فقط، فقال: أردت يا رسول الله أن يكون بين أيديكم البُسر والرطب والمذنَّب، لأن العذق يشمل هذا وهذا، ويشمل كل الثلاثة، فأكلوا ثم دعوا بالماء فشربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( ماء طيب، وطعام طيب، وظل طيب، لتسألن يومئذ عن النعيم )، وهذا يدل على أن الذي يُسأل المؤمن والكافر، ولكن يختلف السؤال، سؤال المؤمن سؤال إيش؟ تذكير بنعمة الله عز وجل عليه حتى يفرح، ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا أكرم من أن يهينه في الآخرة، بمعنى أنه إذا تكرم بنعمته عليه في الدنيا تكرم عليه بنعمته في الآخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنديم، أسأل الله تعالى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعل ما رزقنا معونًا على طاعته، إنه على كل شيء قدير.
اضيفت في - 2007-02-04