تفسير سورة العصر-26
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة العصر: قال الله تعالى:" والعصر " وأن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى
يقول الله عز وجل: (( والعصر. إن الإنسان لفي خسر )) فما المراد بالعصر؟ قيل: إن المراد بالعصر آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك. وقيل: إن العصر هو الزمان، وهذا هو الأصح أن العصر هو الزمان، أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب، فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع. وأقسم الله به على أي شيء؟
تفسير قوله تعالى:" إن الإنسان لفي خسر "
على قوله: (( إن الإنسان لفي خسر )): والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل " ال " كلمة " كل " فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الآية الكريمة أن الله أقسم قسماً على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: " إنّ " والثالث: " اللام "، وأتى بقوله (( لفي خسر )) ليكون أبلغ من قوله: " لخاسر " وذلك أن " في " للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب.
تفسير قوله تعالى:" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " والكلام على الصفة الأول من هذه الصفات الأربع وهو الإيمان بالله وذكر أركانه وبيان أقسام الناس فيه
(( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )): استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع: الصفة الأولى: الإيمان، الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بماذا؟ بما بينه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم حين سأله جبريل عن الإيمان قال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ). وشرح هذا الحديث يطول لو تكلمنا عليه الآن، لكنه قد تكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيماناً لا شك معه ولا تردد، بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام: القسم الأول: مؤمن خالص إيماناً لا شك فيه ولا تردد. والقسم الثاني: كافر جاحد منكر. والقسم الثالث: متردد. فمن الناجي من هؤلاء الأقسام الثلاثة؟ الناجي القسم الأول الذي يؤمن إيماناً لا تردد فيه، يؤمن بالله، بوجوده، بأسمائه بصفاته، بألوهيته، وربوبيته، وغير ذلك مما هو معلوم من صفات الله جل وعلا، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل عليه الصلاة والسلام مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات، وإسرافيل: موكل بالنفخ في الصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضاً، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالاً، لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: (( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك )). واليوم الآخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلاً، بهماً، فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أن أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا، والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم عراة قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: ( الأمر أعظم من ذلك ) أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الآخر فإنه داخل في قولنا ( أن تؤمن بالله واليوم الآخر )، والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، إذاً فالإيمان في قوله: (( إلا الذين آمنوا )) يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام.
3 - تفسير قوله تعالى:" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " والكلام على الصفة الأول من هذه الصفات الأربع وهو الإيمان بالله وذكر أركانه وبيان أقسام الناس فيه أستمع حفظ
الكلام على الصفة الثانية من هذه الصفات الأربع وهي العمل الصالح وبيان ركنيه وهما الإخلاص والمتابعة
أما قوله: (( وعملوا الصالحات )) فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة للأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و(( الصالحات )) هي التي اشتملت على شيئين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام. وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصاً لله فهو مردود، قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )، فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحاً في ظاهره. كذلك الإتباع لو أنك عملت عملاً لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ). إذاً العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول؟ الإخلاص لله . والثاني؟ المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
4 - الكلام على الصفة الثانية من هذه الصفات الأربع وهي العمل الصالح وبيان ركنيه وهما الإخلاص والمتابعة أستمع حفظ
الكلام على الصفة الثالثة من هذه الصفات الأربع وهي التواصي بالحق
(( وتواصوا بالحق )) أي: صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الآخر إذا رآه مفرطاً في واجب. أوصاه، قال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلاً لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، تواصوا بالحق، الحق هنا بمعنى ايش؟ الشرع، يوصي بعضهم بعضاً به.
الكلام على الصفة الرابعة من هذه الصفات الأربع وهي التواصي بالصبر، وبيان أقسام الصبر
(( وتواصوا بالصبر )) والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسّمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام فقالوا إن الصبر: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله، ثلاثة أقسام. الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلاً، لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل نقول: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد، أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وبعدين أطلعه، وما أشبه ذلك، نقول: يا أخي اصبر نفسك، كلفها على إخراج الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: (( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين )). أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر، اصبر على الطاعة، لا تمل لا تكسل. كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلاً تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش والكذب، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فنقول: اصبر، أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضاً يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشياً في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فنقول: يا أخي اصبر، اصبر نفسك عن هذا الشيء. على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع، ويتسخط، ويتألم فيوصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئاً، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، اصبر، قدر أن هذا الشيء لم يكن اصبر، لأن مثلاً الإنسان فقد مليون ريال فحزن لذلك وتعذر منها ماذا نقول له؟ نقول اصبر يا أخي، وقدر أن هذا المليون لم يوجد، ألست قد خرجت من بطن أمك ليس عليك ثياب؟ قدر أن هذا ما كان. كذلك أيضاً الأولاد، مثل إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته: ( مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى ). الأمر كله لله، ما هو له، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط؟ فهذه أنواع الصبر: الأول: على طاعة الله. الثاني: على معاصي الله. والثالث: على أقدار الله. وأيها أشق على النفوس؟ هذا يختلف، بعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جداً، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق يشق عليه مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تعالى: (( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )).
خلاصة الكلام في هذه السورة، وبيان فضل هذه السورة
إذاً نأخذ من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإنّ، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: " لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم ". أي: كفتهم موعظة وليس كفتهم تشريعاً، لأن ما فيها شيئا من التشريع، ما فيها طهارة ولا صلاة ولا زكاة ولا حج ولا صيام، لكن كفتهم موعظة، كل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع.
اضيفت في - 2007-02-04