تفسير سورة الهمزة-27
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة الهمزة: قال الله تعالى:" ويل لكل همزة لمزة " وذكر قاعدة في التفسير
قوله تبارك وتعالى: (( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ . الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ. وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأفئِدَةِ .إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ . فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ )) . ففي هذه السورة يبتدئ الله سبحانه وتعالى بكلمة (( ويل ))، وهي كلمة وعيد، أي أنها تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات(( همزة لمزة )) إلى آخره، وقيل: إن (( ويل )) اسم لوادٍ في جهنم ولكن الأول أصح. (( لكل همزة لمزة )): كل من صيغ العموم، والهمزة واللمزة وصفان لموصوف واحد، فهل هما بمعنى واحد؟ يعني همزة ولمزة معناهما واحد؟ أو يختلفان في المعنى؟ قال بعض العلماء: إنهما لفظان لمعنى واحد، يعني أن الهمزة هو اللمزة. وقال بعضهم: بل لكل واحد منهما معنى غير المعنى الآخر. وثم قاعدة أحب أن أنبه عليها في التفسير، وغير التفسير وهي: أنه إذا دار الأمر بين أن تكون الكلمة مع الأخرى بمعنى واحد، أو لكل كلمة معنى، فإننا نتبع الثاني، أي نجعل لكل واحدة معنى، لأننا إذا جعلنا الكلمتين بمعنى واحد صار في هذا تكرار لا داعي له، لكن إذا جعلنا كل واحدة لها معنى صار هذا تأسيسًا وتفريقًا بين الكلمتين، والصحيح في هذه الآية (( لكل همزة لمزة )) أن بينهما فرقًا: فالهمز: بالفعل. واللمز: باللسان، كما قال الله تعالى: (( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون )). فالهمز بالفعل يعني أنه يسخر من الناس بفعله إما أن يلوي وجهه، أو يعبس بوجهه، أو ما أشبه ذلك، أو بالإشارة بأن يشير إلى شخص، يقول: انظروا إليه ليعيبه أو ما أشبه ذلك، فالهمز يكون بإيش؟ بالفعل، واللمز باللسان، يعني أن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ مشغوف بعيب البشر إما بفعله وهو الهمَّاز، وإما بقوله وهو اللمَّاز، وهذا كقوله تعالى: (( ولا تطع كل حلاَّف مهين. هَّماز مشاء بنميم )) .
تفسير قوله تعالى:" الذي جمع مالا وعدده "
(( الذي جمع مالاً وعدده )): هذه أيضاً من أوصافه القبيحة جماع مناع، يجمع المال، ويمنع العطاء، فهو بخيل لا يعطي يجمع المال ويعدده، قيل: معنى التعديد يعني الإحصاء يعني لشغفه بالمال كل مرة يذهب إلى الصندوق ويعد، يعد الدراهم في الصندوق في الصباح، وفي آخر النهار يعدها، وهو يعرف أنه لم يأخذ منه شيئاً ولم يضف إليه شيئاً لكن لشدة شغفه بالمال يتردد عليه ويعدده، ولهذا جاءت بصيغة المبالغة (( عدده )) يعني أكثر تعداده، لماذا؟ لشدة شغفه ومحبته له يخشى أن يكون نقص، أو يريد أن يطمئن زيادة على ما سبق فهو دائماً يعدد المال. وقيل معنى (( عدده )): أي جعله عُدة له يعني ادّخره لنوائب الدهر، وهذا وإن كان اللفظ يحتمله لكنه بعيد، لأن إعداد المال لنوائب الدهر مع القيام بالواجب بأداء ما يجب فيه من زكاة وحقوق ليس مذموماً، المذموم أن يكون أكبر هم الإنسان هو المال، يتردد إليه ويعدده، وينظر هل زاد، هل نقص، فالقول بأن المراد عدده أي: جمعه للمستقبل قول ضعيف.
تفسير قوله تعالى:" يحسب أن ماله أخلده "
(( يحسب أن ماله أخلده )): يعني يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه، إما بجسمه وإما بذكره، لأن عمر الإنسان ليس ما بقي في الدنيا، بل عمر الإنسان حقيقة ما يخلده بعد موته، ويكون ذكراه في قلوب الناس وعلى ألسنتهم، فيقول في هذه الآية: (( يحسب أن ماله أخلده )) أي: أخلد ذكره أو أطال عمره، والأمر ليس كذلك، فإن أهل الأموال إذا لم يُعرفوا بالبذل والكرم فإنهم يخلدون لكن بالذكر السيئ، فيقال: أبخل من فلان، وأبخل من فلان ويذكر في المجالس ويعاب،
تفسير قوله تعالى:" كلا لينبذن في الحطمة " وهل المقصود بها المال أو صاحبها
ولهذا قال: (( كلا لينبذن في الحطمة ))، (( كلا )) هنا يسميها العلماء حرف ردع أي: تردع هذا القائل أو هذا الحاسب عن قوله أو عن حسبانه، ويحتمل أن تكون بمعنى حقًّا يعني حقاً لينبذن وكلاهما صحيح، هذا الرجل لن يخلده ماله، ولن يخلد ذكراه، بل سينسى ويطوى ذكره، وربما يذكر بالسوء لعدم قيامه بما أوجب الله عليه من البذل. (( لينبذن في الحطمة )): اللام هذه واقعة في جواب القسم المقدر، والتقدير " والله لينبذن في الحطمة " أي: يطرح طرحاً، وإذا قلنا: أن اللام لجواب القسم صارت الجملة هذه مؤكدة باللام، ونون التوكيد، والقسم المحذوف، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، أي تأكيد الشيء باليمين، واللام، والنون، هذا تجده كثيراً في القرآن، والله تعالى يقسم بالشيء تأكيداً له وتعظيماً لشأنه. وقوله: (( لينبذن )) ما الذي يُنبذ هل هو صاحب المال أو المال؟ نقول كلاهما ينبذ، أما صاحب المال فإن الله يقول في آية أخرى: (( يوم يدَّعون إلى نار جهنم دعًّا )). يدفعون، ويضربون بالأيدي، أو بما شاء الله، وهنا يقول: " ينبذ " أي يطرح في الحطمة، والحطمة هي التي تحطم الشيء، أي: تفتته وتكسره فما هي؟
تفسير قوله تعالى:" وما أدراك ما الحطمة "
قال الله تعالى: (( وما أدراك ما الحطمة )) وهذه الصيغة للتعظيم والتفخيم .
تفسير قوله تعالى:" نار الله الموقدة "
(( نار الله الموقدة )) هذا الجواب أي: هي نار الله الموقدة. وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، لأنه يعذب بها من يستحق العذاب فهي عقوبة عدل وليست عقوبة ظلم، يعني: نار يحرق الله بها من يستحق أن يُعذب بها، إذاً هي نار عدل وليست نار ظلم، لأن الإحراق بالنار قد يكون ظلماً وقد يكون عدلاً، فتعذيب الكافرين في النار لا شك أنه عدل، وأنه يُثنى به على الرب عز وجل حيث عامل هؤلاء بما يستحقون. وتأمل قوله: (( الحطمة )) مع فعل هذا الفاعل (( همزة لمزة )) حطمة، على وزن واحد ليكون الجزاء مطابقاً للعمل حتى في اللفظ .(( نار الله الموقدة )) أي: المسجّرة المسعرة.
تفسير قوله تعالى:" التي تطلع على الأفئدة "
(( التي تطلع على الأفئدة )): الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب، والمعنى: أنها تصل إلى القلوب ـ والعياذ بالله ـ من شدة حرارتها، مع أن القلوب مكنونة في الصدور وبينها وبين الجلد الظاهر ما بينها من الطبقات لكن مع ذلك تصل هذه النار إلى الأفئدة.
تفسير قوله تعالى:" إنها عليهم مؤصدة "
(( إنها )) أي: الحطمة وهي نار الله الموقدة،(( عليهم مؤصدة )) على من؟ على الهمَّاز اللمَّاز الجمَّاع للمال المناع للخير، ولم يقل إنها عليه مع أن المرجع مفرد (( ويل لكل همزة لمزة. الذي جمع ))، لكنه أعاد الضمير بلفظ الجمع باعتبار المعنى، لأن (( لكل همزة )) عام يشمل جميع الهمَّازين وجميع اللمَّازين .(( إنها عليهم مؤصدة )) أي: مغلقة، مغلقة الأبواب لا يُرجى لهم فرج ـ والعياذ بالله ـ (( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها )) يعني: يرفعون إلى أبوابها حتى يطمعوا في الخروج ثم بعد ذلك يركسون فيها ويعادون فيها، كل هذا لشدة التعذيب، لأن الإنسان إذا طمع في الفرج وأنه سينجو ويخلص يفرح، فإذا أعيد صارت انتكاسة جديدة، فهكذا يعذبون بضمائرهم وأبدانهم، وعذاب أهل النار مذكور مفصل في القرآن الكريم والسنة النبوية. (( إنها عليهم مؤصدة )): مغلقة، تأمل الآن لو أن مثلاً إنسان كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مخرج، الأبواب مغلقة ماذا يكون؟ في حسرة عظيمة لا يمكن أن يماثلها حسرة. فهم ـ والعياذ بالله ـ هكذا في النار، النار عليهم مؤصدة .
تفسير قوله تعالى:" في عمد ممددة "
(( في عمد ممددة )) أي: أن هذه النار مؤصدة، وعليها أعمدة ممدة يعني كما نقول: سقوف عظيمة حتى لا يحاول أحد فتحها . (( في عمد ممددة )): أي ممدودة على جميع النواحي، والزوايا لا أحد يتمكن من فتحها أو الخروج منها.
فوائد هذه السورة وذم المال والحرص عليه
حكى الله سبحانه وتعالى ذلك علينا وبينه لنا لا لمجرد أن نتلوه بألسنتنا، أو نعرف معناها بأفهامنا، لكن المراد أن نحذر من ذلك، أن نحذر من هذه الأوصاف الذميمة: عيب الناس بالقول، عيب الناس بالفعل، الحرص على المال حتى كأن الإنسان إنما خلق للمال ليخلد له، أو يخلد المال له، ونعلم أن من كانت هذه حاله فإن جزاءه هذه النار التي هي كما وصفها الله، الحطمة، تطلع على الأفئدة، مؤصدة، في عمد ممدة. نسأل الله تعالى أن يجيرنا وإياكم منها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل .
اضيفت في - 2007-02-04