تفسير سورة قريش-29
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة قريش: قال الله تعالى:" لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف "، وبيان صلة هذه السورة بالسورة التي قبلها وهي سورة الفيل
قول الله تبارك وتعالى :(( لإِيلَفِ قُرَيْشٍ . إِيلَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ )) هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبيّن الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، على قريش وهو إيلا فهم مرتين في السنة، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، والإيلاف بمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرحلتين، الرحلة الأولى: رحلة الشتاء، في أي وقت؟ في أي جهة؟ في اليمن، والثانية: رحلة الصيف في جهة؟ الشام.
1 - تفسير سورة قريش: قال الله تعالى:" لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف "، وبيان صلة هذه السورة بالسورة التي قبلها وهي سورة الفيل أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" فليعبدوا رب هذا البيت " وتعريف العبادة، بيان حرمة الكعبة وفضلها
لما ذكرهم بهذه النعمة، وهي نعمة عظيمة، لأنه يحصل منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة من هذه التجارة، أمرهم الله عز وجل أن يعبدوا رب البيت عز وجل قال: (( فليعبدوا رب هذا البيت )) شكراً له على هذه النعمة، والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت، أو تكون فاء التفريع، وأيًّا كان فهي مبنية على ما سبق، أي فبهذه النعم العظيمة فيجب عليهم أن يعبدوا الله، والعبادة هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً، أن يتعبد الإنسان لله يتذلل له بالسمع والطاعة، فإذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال: سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعنا وآمنا، على وجه المحبة والتعظيم، فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى من معاني العبادة، وتطلق العبادة على نفس المتعبد به، وقد حدّها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بهذا المعنى فقال: " إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة "، ولهذا لو سألك سائل: الصلاة ماذا؟ أعبادة أم عادة؟ قل: عبادة. ولو سألك سائل: أنت الآن تصلي فما معنى صلاتك هذه؟ فقل معناها: العبادة لله، نتعبد لله عز وجل، نتذلل له بالسمع والطاعة، وبما أمر أهل العلم. وقوله: (( رب هذا البيت )): يعني به الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى: (( وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ))، وهنا أضاف ربوبيته إليه: (( رب هذا البيت ))، وهل هو رب لغيره؟ الجواب: نعم، لكن إضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم، طيب (( طهر بيتي للطائفين )) أليس كل شيء هو لله؟ لله ملك السماوات والأرض، كل شيء لله، كل شيء ملك لله، لماذا أضاف الله البيت إليه؟ تشريفاً وتعظيماً، إذاً خصصه بالربوبية أي خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسه مرة أخرى تشريفاً وتعظيماً، في آية ثانية: (( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها )) وبعدها قال: (( وله كل شيء )) احتراز من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها فقال: (( وله كل شيء )) ، ولكل مقام صيغة مناسبة، ففي قوله: (( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء )). مناسبة بيان عموم ملكه، لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط، أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت فناسب ذكره وحده ،
تفسير قوله تعالى:" الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " وبيان ما يمنع فعله في الحرم، وهل الحرم المدني مثل الحرم المكي في ذلك
(( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )): (( الذي )) هذه صفة للرب أو للبيت؟ للرب، إذاً فمحلها النصب، ولهذا يحسن أن تقف فتقول (( فليعبدوا رب هذا البيت )) ثم تقول: (( الذي أطعمهم )) لأنك لو وصلت فقلت: (( رب هذا البيت الذي أطعمهم )) لظن السامع أن (( الذي )) صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم به المعنى.(( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )): بين الله نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه، (( وآمنهم من خوف )) وقاية من الهلاك في الأمر الظاهر، لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو، خاف أهلها وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة، (( ... أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )) وآمن مكان في الأرض هو مكة، هي آمن مكان في الأرض، ولذلك لا يُقطع شجرها، ولا يُحش حشيشها، ولا تُلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يسفك فيها دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى حتى المدينة، محرمة ولها حرم، لكن حرمها دون حرم مكة، دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن أن يأتيه أحد من المسلمين لم يأته ولا مرة إلا محرماً، يجب عليه ذلك، والمدينة ليست كذلك، حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض الشجر لحاجة، للحرث مثلاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه، صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه الجزاء، المهم أن أعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه، ولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم قصدي حتى البهائم العامة التي ليست صيوداً تحرم، لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم أن يذبحوا وينحروا في هذا المكان، وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله: (( أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ))، يعني أفلا يشكرون الله على هذا؟!
3 - تفسير قوله تعالى:" الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " وبيان ما يمنع فعله في الحرم، وهل الحرم المدني مثل الحرم المكي في ذلك أستمع حفظ
فوائد سورة قريش، وما الواجب فيمن سكن مكة
فهذه السورة كما ترى كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع، فإذا قال قائل: ما واجب قريش نحو هذه النعمة؟ وكذلك ما واجب من حلّ في مكة الآن من قريش أو غيرهم، قلنا: الواجب الشكر لله تعالى بالقيام بطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر على غيرهم، لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى: (( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ))، فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي من هم به فيه بإلحاد فضلاً عمن ألحد. والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، بلادنا ـ ولله الحمد ـ اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رغداً وعيشاً،
بيان ما يجب على طلاب العلم إذا اختلفوا بينهم
أطعمنا الله تعالى من الجوع، وآمننا من الخوف، فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأنٍ وتثبت، وأن نكون إخوة متآلفين، والواجب علينا ولاسيما على طلبة العلم إذا اختلفوا بينهم أن يجلسوا للتشاور، وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق، ومتى تبين الحق للإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه، لأنه ليس مشرعاً معصوماً حتى يقول إن رأيه هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ. الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه، (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً )) ، أما كون الإنسان ينتصر لرأيه ويصر على ما هو عليه، ولو تبين له أنه باطل فهذا خطأ، هذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسول وقالوا: (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )). نسأل الله أن يديم علينا وعليكم نعمة الإسلام، والأمن في الأوطان، وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
اضيفت في - 2007-02-04