تفسير سورة النصر-33
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة النصر: قال الله تعالى:" إذا جاء نصر الله والفتح "
يقول الله تبارك وتعالى: (( إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَجاً . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوِبَا )). الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لا شك فيه. يقول الله تعالى: (( إذا جاء نصر الله والفتح )): النصر هو تسليط الله الإنسان على عدوه بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته، وهو أعني النصر أعظم سرور يحصل للعبد في أعماله، لأن المنتصر يجد نشوة عظيمة، وفرحاً وطرباً، لكنه إذا كان بحق فهو خير، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) أي أن عدوه مرعوب منه إذا كان بينه وبينه مسافة شهر، والرعب أشد شيء يفتك بالعدو، لأن الذي حصل في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت أبداً، بل سيطير طيران الريح فقوله: (( إذا جاء نصر الله )) أي نصر الله إياك على عدوك، (( والفتح )) معطوف على النصر، والفتح به نصر لا شك، ولكنه عطفه على النصر تنويهاً بشأنه، وهو من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى: (( تنزل الملائكة والروح فيها )). أي في ليلة القدر فالملائكة هم الملائكة والروح جبريل وخصه بالذكر لشرفه،
الكلام على فتح مكة
و" الـ " في قوله والفتح للعهد الذهني، أي: الفتح المعهود المعروف في أذهانكم، وهو فتح مكة، وكان فتح مكة من السنة الثامنة للهجرة في رمضان، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريش في غزوة الحديبية ـ الصلح المشهور ـ نقضوا العهد فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام وخرج إليهم مختفياً وقال: ( اللهم عمي أخبارنا عنهم ) فلم يفجأهم إلا وهو محيط بهم عليه الصلاة والسلام، ودخل مكة في العشرين من شهر رمضان، عام ثمان من الهجرة، منصوراً مظفّراً مؤيداً، حتى إنه في النهاية اجتمع إليه كفار قريش حول الكعبة فوقف على الباب يقول: ( يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ ) وهو الذي كان قبل ثمان سنوات كان هارباً منهم وكانوا الآن في قبضته وتحت تصرفه، قال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: ( فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته (( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم )) ) ثم من عليهم عليه الصلاة والسلام بالعفو، فعفا عنهم، هذا الفتح سماه الله فتحاً مبيناً، فقال تعالى: (( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً )): أي بيناً عظيماً واضحاً .
تفسير قوله تعالى:" ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا "
ولما حصل عرف الناس جميعاً أن العاقبة لمحمد صلى الله عليه وسلّم، وأن دور قريش وأتباعها قد انقضى فصار الناس (( يدخلون في دين الله أفواجاً )) : أي جماعات بعد ما كانوا يدخلون فيه أفراداً، ولا يدخل فيه الإنسان في بعض الأحيان إلا مختفياً، صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً، وصارت الوفود ترد على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة من كل جانب حتى سمي العام التاسع " عام الوفود "، لأن الناس يدخلون في دين الله أفواجاً،
تفسير قوله تعالى:" فسبح بحمد ربك واستغفره "
يقول الله عز وجل إذا رأيت هذه العلامة (( فسبح بحمد ربك واستغفره )) كان المتوقع أن يكون الجواب فاشكر الله على هذه النعمة واحمد الله عليها، نصر وفتح ما جزاءه من العبد؟ الشكر، هذا هو المتوقع، لكن صار المتوقع على خلاف ما نتوقع (( فسبح بحمد ربك واستغفره )) وهذا نظير قوله تعالى: (( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً. فاصبر لحكم ربك )). كان المتوقع (( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً )) أن يقال: فاشكر ربك على هذا التنزيل وقم بحقه، وما أشبه ذلك، ولكنه قال: (( فاصبر لحكم ربك )) إيذاناً بأنه سوف ينال أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأمة. (( فسبح بحمد ربك واستغفره ))، فكان الجواب يبدوا متنافرا مع الشرط، لكن عندما تتأمل ستعرف الحكمة، فالمعنى أنه إذا جاء نصر الله والفتح فقد قرب أجلك فما بقي عليك إلا الاستغفار والحمد، إلا التسبيح والحمد. ومعنى: (( فسبح بحمد ربك )) أي سبحه تسبيحاً مقروناً بالحمد، والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله، والحمد: هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم. اجمع بين التنزيه وبين الحمد. (( فسبح بحمد ربك واستغفره )): يعني اسأله المغفرة، فأمره الله تعالى بأمرين: الأمر الأول: التسبيح المقرون بالحمد. والثاني: الاستغفار، والاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها، وهذا غاية ما يريد العبد، لأن العبد ذَنُوب، أي كثير الذنب يحتاج إلى مغفرة إن لم يتغمده الله برحمته هلك.
شرح حديث:" لن يدخل أحدكم الجنة بعمله "
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )، اللهم تغمدنا برحمتك، ما أحد يدخل بعمله أبداً، لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابلة نعمة من النعم، نعمة واحدة لأحاطت به النعم، فكيف يكون عوضاً تدخل به الجنة؟ ولهذا قال بعض العارفين في نظم له: إذا كان شكري نعمة الله نعمة *** علي له في مثلهـا يجب الشكــر ، فكيف بلوغ الشكر إلا بفضلـه *** وإن طالت الأيام واتصل العمر ،
تفسير قوله تعالى:" إنه كان توابا " وذكر قصة ابن عباس مع عمر في تفسير هذه السورة
(( إنه كان تواباً )) أي: لم يزل عز وجل تواباً على عباده، فإذا استغفرته تاب عليك، هذا هو معنى السورة. لكن السورة لها مغزى، مغزى عظيم لا يتفطن له إلا الأذكياء، ولهذا لما سمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن الناس انتقدوه في كونه يُدني عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع صغر سنه ولا يدني أمثاله من شباب المسلمين، وعمر ـ رضي الله عنه ـ من أعدل الخلفاء الراشدين، أراد أن يبين للناس أنه لم يحابِ ابن عباس في شيء، فجمع كبار المهاجرين والأنصار في يوم من الأيام ومعهم عبد الله بن عباس وقال لهم: ما تقولون في هذه السورة (( إذا جاء نصر الله والفتح ))؟ ففسروها بحسب ما يظهر فقط، فقال: ما تقول يا ابن عباس قال: يا أمير المؤمنين هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، المعنى كأن الله يقول له: (( إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ))فقد انتهت مهمتك، ولم يبق عليك إلا الرحيل، وأنت ما خلقت للدنيا لتتنعم فيها وتبقى فيها طويلاً، خلقت لمهمة، فهو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " والله ما أعلم منها إلا ما تعلم ". فتبيّن بذلك فضل ابن عباس وتميزه، وأن عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله عز وجل، ما افتقده كثير من الناس. لما نزلت هذه السورة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي هو أشد الناس عبادة لله وأتقاهم لله جعل يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ). فنقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اضيفت في - 2007-02-04