التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم-03a
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اقتضاء الصراط المستقيم
الحجم ( 5.44 ميغابايت )
التنزيل ( 1303 )
الإستماع ( 112 )


5 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله: { عن اليمين وعن الشمال قعيدٌ }. وأمثاله .فعلى قول الأولين يكون التقدير: وعد الله المنافقين النار كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، أو كعذاب الذين من قبلكم، ثم حذف اثنان من هذه المعمولات؛ لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين. وعلى القول الثاني يمكن أن يقال: الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله: وعد وبقوله: ولعن وبقوله: { ولهم عذابٌ مقيمٌ }، لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب، وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر. وإذا قيل : إن الثالث يعمل الرفع ؛ فوجهه : أن العمل واحد في اللفظ ، إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي . وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل، ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب، فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب، وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين. وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب في الحذف وعدمه - إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ، لا تقتضي اختلافا لا في إعراب ولا في معنى ؛ فإذن : الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم : من العمل والجزاء ، فيكون التشبيه فيهما لفظا. وعلى القولين الأولين: يكون قد دل على أحدهما لفظا، على الآخر لزوما. وإن سلكت طريقة الكوفيين - على هذا - كان أبلغ وأحسن؛ فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف، وإلا فيضمر: حالكم كحال الذين من قبلكم، ونحو ذلك، وهو قول من قدره: أنتم كالذين من قبلكم ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره." أستمع حفظ

6 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله : { ويطيعون الله ورسوله } فإن طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبل قال سبحانه: { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا }. فالخطاب في قوله : { كانوا أشد منكم قوةً } وقوله : { فاستمتعتم } إن كان للمنافقين ، كان من باب خطاب التلوين والالتفات ، وهذا انتقال من المغيب إلى الحضور ، كما في قوله : { الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد } ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى المغيب في قوله: { أولئك حبطت أعمالهم } " أستمع حفظ

7 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وكما في قوله : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ وفرحوا بها } وقوله: { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } فإن الضمير في قوله: { أولئك حبطت أعمالهم } الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله - فيما بعد -: { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها، فلا يكون الالتفات إلا في الموضع الثاني . وأما قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } قال : بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي عن ابن عباس: بنصيبهم من الآخرة في الدنيا، وقال آخرون : بنصيبهم من الدنيا . قال أهل اللغة: الخلاق: هو النصيب والحظ، كأنه ما خلق للإنسان، أي ما قدر له، كما يقال: القسم لما قسم له ، والنصيب لما نصب له ، أي أثبت . ومنه قوله تعالى: { ما له في الآخرة من خلاقٍ } أي : من نصيب ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة " . والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم ، فإنه سبحانه قال : { كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالًا وأولادًا } ، فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا بها للدنيا والآخرة ، وكذلك أموالهم وأولادهم ، وتلك القوة والأموال والأولاد: هو الخلاق ، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال : هي دينهم ، وتلك الأعمال ، لو أرادوا بها الله، والدار الآخرة ؛ لكان لهم ثواب في الآخرة عليها ، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها ، فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان جنس العمل من العبادات ، أو غيرها . ثم قال سبحانه: { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا } وفي الذي وجهان: أحسنهما أنها صفة المصدر، أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله : { مما عملت أيدينا } وهو كثير فاش في اللغة، والثاني : أنه صفة الفاعل ، أي : كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا ، كما لو قيل : كالذين خاضوا ." أستمع حفظ

8 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق ، وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل ، والتكلم به ، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق . والأول: هو البدع ونحوها. والثاني: فسق الأعمال ونحوها. والأول: من جهة الشبهات . والثاني: من جهة الشهوات . ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه . وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم ، الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم . ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال : " رحمه الله ، عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها ". وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات. ومنه قوله: { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقوله: { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار }. ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ". فقوله سبحانه : { فاستمتعتم بخلاقكم } إشارة إلى اتباع الشهوات ، وهو داء العصاة ، وقوله : { وخضتم كالذي خاضوا } إشارة إلى اتباع الشبهات ، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات ، وكثيرا ما يجتمعان ، فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو يظهر في عمله . وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا، وهؤلاء فعلوا مثل أولئك. ثم قوله : { فاستمتعتم } و { وخضتم } خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله ، إلى يوم القيامة ، كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين ، عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه ذم لمن حاله كحالهم إلى يوم القيامة ، وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر ؛ لأنه - وإن كان بضمير الخطاب - فهو كالضمائر في نحو قوله : اعبدوا و اغسلوا و { اركعوا واسجدوا } و آمنوا كما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام ؛ لأنه كلام الله ، وإنما الرسول مبلغ له . وهذا مذهب عامة المسلمين - وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتقد أن الضمير إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا : إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم ، كما لو خاطب النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة ، وإما بالسنة ، وإما بالاجماع ، وإما بالقياس ، فيكون : كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله : { فاستمتعتم } و { وخضتم } وهذا أحسن القولين." أستمع حفظ

9 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله: { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية ، وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه ، كما استمتعت الأمم قبلهم ، وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك ، وتوعدهم على ذلك، ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال : { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات } الآية . وقد قدمنا : أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء، من مشابهة القرون المتقدمة ، وذم من يفعل ذلك وأمره بجهاد الكفار والمنافقين - بعد هذه الآية - دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين . ثم هذا الذي دل عليه الكتاب: من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين ، وذم من يفعل ذلك ، دلت عليه - أيضا - سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأول الآية - على ذلك - أصحابه رضي الله عنهم . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم : ذراعا بذراع ، وشبرا بشبر ، وباعا بباع ، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه - قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً } . . الآية - قالوا : يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال : فهل الناس إلا هم؟ ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال : ما أشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم؟ . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا ؟ " أستمع حفظ

12 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : " المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلنا : وكيف؟ قال : أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه ". وأما السنة: فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا ، وذم ذلك ، والنهي عن ذلك وكذلك في الدين .فأما الأول : الذي هو الاستمتاع بالخلاق: ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف ، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال : " أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا : أجل يا رسول الله فقال : أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها ، كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ". فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف فتنة الفقر، وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية. وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : " إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم ، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها " . وفي رواية: " ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم " قال عقبة: فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر " [شرح حديث عقبة بن عامر وذكر بعض مسائله] أستمع حفظ

13 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم ؟ " قال عبد الرحمن بن عوف نكون كما أمرنا الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تنافسون ، ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون أو تتباغضون ، أو غير ذلك - ثم تنطلقون إلى مساكين المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض " وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : " جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال : " إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها ، فقال رجل : أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل : ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال : ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال : أين هذا السائل؟ وكأنه حمده ، فقال : "إنه لا يأتي الخير بالشر " وفي رواية : فقال : " أين السائل آنفا؟ أو خير هو؟ - ثلاثا - إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع : ما يقتل حبطا، أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ، ثم رتعت وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم، وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ، ويكون عليه شاهدا يوم القيامة ". أستمع حفظ