التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم-05a
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اقتضاء الصراط المستقيم
الحجم ( 3.89 ميغابايت )
التنزيل ( 1121 )
الإستماع ( 115 )


1 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " فالأول : عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه . وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل: صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل: صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق وكذلك إذا قيل: أكرم هذا الرجل . فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا ؛ لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوءه . فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له ؛ لانتفاء أجزاء الإكرام، ولا يقال : الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل بإطعام لقمة كذلك إذا قال : خالفوهم . فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء ، أو في أكثرها على طريق التساوي ؛ لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر ، ولا يقال : إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة ، كما لا يقال : إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة." أستمع حفظ

2 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه: " وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ، فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا . فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها ؛ كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة والمقيدة . وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد. فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا . ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات، فأنت تقول عند التقييد : أكرم الضيف بإعطاء هذا الدرهم . فهذا إكرام مقيد ، فإذا قلت : أكرم الضيف . كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا لا تحصل بحصول إعطاء درهم فقط. وأما القسم الثاني من العموم فهو عموم الجميع لأفراده كما يعم قوله تعالى:{ فاقتلوا المشركين } كل مشرك." أستمع حفظ

3 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه: " والقسم الثالث من أقسام العموم: عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله: " لا يقتل مسلم بكافر " جميع أنواع القتل والمسلم والكافر. إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه، وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها ، إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان ، بل الحكم للغالب وهذا تحقيق جيد ، لكنه مبني على مقدمة وهو أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق ، يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة ، فإن خفي هذا في هذا الموضع المعين فخذ في : الوجه الثاني: وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة ، فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة ، كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من أفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول ، وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } وغير ذلك من الأفعال . وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهو أبلغ إذا صح ." أستمع حفظ

4 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه: " ثم نقول: هب أن الإجزاء يحصل بما يسمى مخالفة ، لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة ؛ إذا كان الأمر مطلقا كما في قوله: { اركعوا واسجدوا } ونحو ذلك من الأوامر المطلقة . الوجه الثالث: في أصل التقرير أن عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كعدوله عن لفظ: أطعمه. إلى لفظ : أكرمه . وعن لفظ: فاصبغوا . إلى لفظ : فخالفوهم . لا بد له من فائدة ، وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص ، وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل ." أستمع حفظ

5 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الوجه الرابع: أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص ، والقصد العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص ، فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر ، وعلمت أن النبيذ مسكر ، كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا ، أو مالا مطلقا ، وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده . فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأول لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به . ففي قوله : أكرمه . طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به الفعل المطلق ؛ وذلك ؛ لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق ، وهذا معنى صحيح ، إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء ؛ انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة . بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور، فما زاد على ذلك لا حاجة إليه. قلت : إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض ؛ لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي . وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم ؛ لأن من قصد مخالفتهم بحيث أمر بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا، ولا قصدنا كيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها ." أستمع حفظ

6 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الوجه الخامس : أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا على أنه علة له من غير وجه حيث قال : إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم، فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون، فالتقدير : اصبغوا ؛ لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع ، وهو المطلوب يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به ، وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين : أحدهما : أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم ، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان . والثاني : أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه ، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال ، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص ؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة ، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص ، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط ، فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرا بأمر الآخرة أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا لمخالفة فيه صلاح لنا . وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب وأشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة ، وإنما الصلاح أن لا تشبه مريض القلب في شيء من أموره ، وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع ، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته ، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض ." أستمع حفظ

8 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: "ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ولكن ملك : هو غاية صلاح من أطاعه من العباد في معاشهم ومعادهم وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها . ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام ، لاستحق بذلك ثواب الآخرة ، ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة ، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم ، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى . فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة ، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة، قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول : ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ، لا يتشبه بأهل الكتاب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " غيروا الشيب ، ولا تشبهوا بأهل الكتاب " . وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله يقول لأبي: يا أبا هاشم اخضب ولو مرة واحدة ، أحب لك أن تخضب، ولا تشبه باليهود . وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود " . قال الترمذي : حديث حسن صحيح. وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هشام بن عروة عن عثمان بن عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " غيروا الشيب ، ولا تشبهوا باليهود " ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي : كلاهما ليس بمحفوظ. وقال الدارقطني: المشهور عن عروة مرسلا. وهذا اللفظ دل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى ، ولهذا كان هذا التشبه يكون محرما بخلاف الأول" . أستمع حفظ

9 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خالفوا المشركين ، أحفوا الشوارب ، وأوفوا اللحى " . رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال : " أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى " . وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى ، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى : { يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } فهذا الذبح والاستحياء هو سوء العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع ,وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقدم العام على الخاص كما يقال : أكرم ضيفك : أطعمه ، وحادثه . " أستمع حفظ

11 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " كما يقال : أكرم ضيفك : أطعمه ، وحادثه فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراما في ذلك الوقت. والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله : لا يصبغون فخالفوهم . وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب ، وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس " فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب ، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع ، وهو العلة في هذا الحكم ، أو علة أخرى، أو بعض علة ، وإن كان الأظهر عند الإطلاق : أنه علة تامة ؛ ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس ، في هذا وغيره ، كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس . وقال المروذي : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا فقال : هو من فعل المجوس ، ومن تشبه بقوم فهو منهم. وقال أيضا : قيل لأبي عبد الله : يكره للرجل أن يحلق قفاه ، أو وجهه . فقال : أما أنا فلا أحلق قفاي . وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة كراهيته وقال : إن حلق القفا من فعل المجوس . قال: وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة." أستمع حفظ