التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم-14b
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اقتضاء الصراط المستقيم
الحجم ( 5.50 ميغابايت )
التنزيل ( 635 )
الإستماع ( 73 )


1 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وقد ذم من يقول الزور ، وإن لم يضر غيره لقوله في المتظاهرين: { وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا }، وقال تعالى :{ واجتنبوا قول الزور } ففاعل الزور كذلك . وقد يقال : قول الزور أبلغ من فعله، ولأنهم إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده، دل على أن فعله مذموم عنده معيب ؛ إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه : لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح، إذ شهود المباحات التي لا منفعة فيها، وعدم شهودها، قليل التأثير . وقد يقال : هذا مبالغة في مدحهم ؛ إذ كانوا لا يحضرون مجالس البطالة، وإن كانوا لا يفعلون الباطل، ولأن الله تعالى قال : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا } فجعل هؤلاء المنعوتين هم عباد الرحمن، وعبودية الرحمن واجبة، فتكون هذه الصفات واجبة . وفيه نظر ؛ إذ قد يقال: في هذه الصفات ما لا يجب، ولأن المنعوتين هم المستحقون لهذا الوصف على وجه الحقيقة والكمال، كما قال الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } وقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء }. وقال صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان " الحديث . وقال : " ما تعدون المفلس فيكم"، " ما تعدون الرقوب " ونظائره كثيرة فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك، أو كراهته أو استحباب تركه : حصل أصل المقصود ؛ إذ من المقصود : بيان استحباب ترك موافقتهم أيضا؛ فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم ؛ لما فيه من التوسيع على العيال، أو من إقرار الناس على اكتسابهم، ومصالح دنياهم، فإذا علم استحباب ترك ذلك : كان أول المقصود وأما السنة: فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال : " ما هذان اليومان ؟ " ، قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما : يوم الأضحى ويوم الفطر " رواه أبو داود بهذا اللفظ: " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد ، عن أنس " ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم . فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال : " إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين، " والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه ؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه " . أستمع حفظ

2 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما، كقوله سبحانه : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوٌ بئس للظالمين بدلًا } وقوله : { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ } وقوله : { فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم } وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب }. ومنه الحديث في المقبور فيقال له: " انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة " ، ويقال للآخر : " انظر إلى مقعدك في الجنة، أبدلك الله به مقعدا من النار ". وقول عمر رضي الله عنه للبيد: " ما فعل شعرك ؟ قال : أبدلني الله به البقرة وآل عمران ". وهذا كثير في الكلام. فقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما " يقتضي ترك الجمع بينهما، لا سيما وقوله: " خيرا منهما " يقتضي الاعتياض بما شرع لنا، عما كان في الجاهلية . وأيضا فقوله لهم : " إن الله قد أبدلكم " لما سألهم عن اليومين فأجابوه : " بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية " دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام ؛ إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا ؛ إذ أصل شرع اليومين الإسلاميين كانوا يعلمونه، ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية. وفي قول أنس : " ولهم يومان يلعبون فيهما " ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما " دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أبدلكم بهما " تعويضا باليومين المبدلين. وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لكانوا قد بقوا على العادة؛ إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها، لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوفة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب". أستمع حفظ

3 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم؛ لقوة مقتضيها من نفوسهم، وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا، وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما؛ إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا. وهذا أمر بين لا شبهة فيه، فإن مثل ذينك العيدين، لو عاد الناس إليهما بنوع مما كان يفعل فيهما - إن رخص فيه - كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه، فهو المطلوب. والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها، أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها؛ فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموما، ولو لم يكن أشد منه، فإنه مثله على ما لا يخفى؛ إذ الشر الذي له فاعل موجود، يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي." أستمع حفظ

12 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الحديث الثاني: ما رواه أبو داود ، حدثنا داود بن رشيد حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو قلابة، حدثني ثابت بن الضحاك قال : " نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ " ، قالوا: لا، قال : " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوف بنذرك ؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم " أصل هذا الحديث في الصحيحين وهذا الإسناد على شرط الصحيحين، وإسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة وبوانة : بضم الباء الموحدة من أسفل فيه يقول وضاح اليمن: أيا نخلتي وادي بوانة، حبذا ... إذا نام حراس النخيل - جناكما وسيأتي وجه الدلالة منه". أستمع حفظ

13 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وقال أبو داود في سننه : حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي - من أهل الطائف - حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت : " خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت الناس يقولون : رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون : الطبطبية، الطبطبية فدنا إليه أبي، فأخذ بقدمه، قالت : فأقر له، ووقف، فاستمع منه، فقال : يا رسول الله، إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة، في عقبة من الثنايا، عدة من الغنم - قال : لا أعلم إلا أنها قالت : خمسين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل بها من هذه الأوثان شيء ؟ " قال : لا، قال : " فأوف بما نذرت به لله " قال : فجمعها فجعل يذبحها، فانفلتت منه شاة، فطلبها وهو يقول : اللهم أوف بنذري، فظفر بها فذبحها "قال أبو داود : حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عمرو بن شعيب ، عن ميمونة بنت كردم بن سفيان ، عن أبيها . . نحوه مختصرا شيء منه قال : " هل بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية ؟ " قال : لا، قال : قلت : إن أمي هذه عليها نذر مشي، أفأقضيه عنها ؟ وربما قال ابن بشار : أنقضيه عنها ؟ قال : " نعم ". وقال : حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : " يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف"، قال : " أوفي بنذرك " ، قالت : " إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا - مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية - " قال : " لصنم ؟ " قالت : لا، قال: " لوثن؟ " قالت : لا، قال : " أوفي بنذرك " . فوجه الدلالة : أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعما: إما إبلا، وإما غنما، وإما كانت قضيتين، بمكان سماه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : " هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قال : لا، قال : " فهل كان بها عيد من أعيادهم ؟ " قال: لا، قال: " أوف بنذرك " ثم قال: " لا وفاء لنذر في معصية الله " . وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله ، من وجوه : أحدها : أن قوله : " فأوف بنذرك " تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم؛ فيكون سبب الأمر بالوفاء: وجود النذر خاليا من هذين الوصفين، فيكون الوصفان مانعين من الوفاء، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به. الثاني : أنه عقب ذلك بقوله : " لا وفاء لنذر في معصية الله " ولولا اندراج الصورة المسئول عنها في هذا اللفظ العام، وإلا لم يكن في الكلام ارتباط، والمنذور في نفسه - وإن لم يكن معصية - لكن لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصورتين قال له : " فأوف بنذرك " ، يعني: حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمرا بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهى عنه عند وجود هذا، وأصل الوفاء بالنذر معلوم، فبين ما لا وفاء فيه. واللفظ العام إذا ورد على سبب، فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه ". أستمع حفظ

15 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الثالث : أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به، كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به، بل لأوجب الوفاء به؛ إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم ؟ يوضح ذلك: أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد : إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك . فالعيد: يجمع أمورا : منها : يوم عائد، كيوم الفطر، ويوم الجمعة. ومنها : اجتماع فيه. ومنها : أعمال تتبع ذلك: من العبادات، والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل هذه الأمور قد تسمى عيدا. فالزمان، كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة : " إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا " . والاجتماع والأعمال، كقول ابن عباس : " شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " . والمكان، كقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تتخذوا قبري عيدا " . وقد يكون لفظ: (العيد) اسما لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا " فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " هل بها عيد من أعيادهم ؟ " يريد اجتماعا معتادا من اجتماعاتهم التي كانت عيدا، فلما قال : لا، قال له : " أوف بنذرك " وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم: مانع من الذبح بها - وإن نذر - ، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام، ولا حسن الاستفصال . ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك ؛ إذ ليس إلا مكان الفعل، أو نفس الفعل، أو زمانه . فإن كان من أجل تخصيص البقعة - وهو الظاهر - فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح فيها، وقصد التخصيص باق، فعلم: أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا، فكيف بنفس عيدهم ؟وهذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان، كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان ." أستمع حفظ

22 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " فإن كان من أجل تخصيص البقعة - وهو الظاهر - فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح فيها، وقصد التخصيص باق، فعلم: أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا، فكيف بنفس عيدهم ؟ هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان، كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان . وإن كان النهي لأن في الذبح هناك موافقة لهم في عمل عيدهم، فهو عين مسألتنا؛ إذ مجرد الذبح هناك لم يكره على هذا التقدير إلا لموافقتهم في العيد؛ إذ ليس فيه محذور آخر، وإنما كان الاحتمال الأول أظهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله إلا عن كونها مكان عيدهم، ولم يسأله: هل يذبح وقت عيدهم؟ ولأنه قال : " هل كان بها عيد من أعيادهم " . أستمع حفظ