التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم-24b
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اقتضاء الصراط المستقيم
الحجم ( 5.59 ميغابايت )
التنزيل ( 617 )
الإستماع ( 69 )


2 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الثاني: أن قصد القبور للدعاء عندها ، ورجاء الإجابة بالدعاء هنالك رجاء أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن ، أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أئمة المسلمين ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين ، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية . وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات ، ودهمتهم نوائب غير ذلك ، فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا ، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . أستمع حفظ

3 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " بل قد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لينزل المطر ، فإنه رحمة تنزل على قبره ولم تستسق عنده ولا استغاثت هناك . ولهذا لما بنيت حجرته على عهد التابعين - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم تركوا في أعلاها كوة إلى السماء وهي إلى الآن باقية فيها ، موضوع عليها مشمع على أطرافه حجارة تمسكه ، وكان السقف بارزا إلى السماء وبني كذلك لما احترق المسجد والمنبر سنة بضع وخمسين وستمائة ، وظهرت النار بأرض الحجاز ، التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى ، وجرت بعدها فتنة الترك ببغداد وغيرها . ثم عمر المسجد والسقف كما كان ، وأحدث حول الحجرة الحائط الخشبي ، ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف ، وأنكره من كرهه . على أنا قد روينا في مغازي محمد بن إسحاق من زيادات يونس بن بكير، عن أبي خلدة خالد بن دينار ، حدثنا أبو العالية قال : " لما فتحنا تستر ، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت ، عند رأسه مصحف له ، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية ، فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءة مثلما أقرأ القرآن هذا ، فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟ ، قال : " سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم ، وما هو كائن بعد " قلت : فما صنعتم بالرجل ؟ قال : " حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه ، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه " فقلت : ما يرجون منه ؟ قال : " كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون " . فقلت : من كنتم تظنون الرجل؟ قال : " رجل يقال له دانيال " فقلت : منذ كم وجدتموه مات؟ قال : " منذ ثلاثمائة سنة " . قلت : ما كان تغير منه شيء؟ قال : " لا ، إلا شعيرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ، ولا تأكلها السباع " . ففي هذه القصة : ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره ، لئلا يفتتن به الناس ، وهو إنكار منهم لذلك أستمع حفظ

4 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " ويذكر أن قبر أبي أيوب الأنصاري عند أهل القسطنطينية كذلك ، ولا قدوة بهم ، فقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير ، وعندهم التابعون ، ومن بعدهم من الأئمة ، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط ، ولا استسقوا عند قبره ولا به ، ولا استنصروا عنده ولا به . ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، بل على نقل ما هو دونه . ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف ، تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور ، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا ، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جهالهم . كما قد ذكرنا بعضه . فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة ، أو لا يكون . فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم ، ويعلمه من بعدهم . ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل العظيم ويزهدوا فيه ، مع حرصهم على كل خير ، لا سيما الدعاء ، فإن المضطر يتشبث بكل سبب ، وإن كان فيه نوع كراهة ، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء ، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ، ثم لا يقصدونه ؟ هذا محال طبعا وشرعا . وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل ، كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية ، كما لو تحرى الدعاء وقصده عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها ، من شطوط الأنهار ، ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق ، وجوانب الطرقات ، وما لا يحصي عدده إلا الله . أستمع حفظ

5 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وهذا الدليل قد دل عليه كتاب الله في غير موضع ، مثل قوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه ؛ فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وقال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا ، لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره . ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله ما لا يعلم . وما أحسن قوله تعالى : { ما لم ينزل به سلطانًا } لئلا يحتج بالمقاييس والحكايات . ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل : { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيءٍ علمًا أفلا تتذكرون. وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء إن ربك حكيمٌ عليمٌ } . فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يخوفون المخلصين بشفعائهم ، فيقال لهم : نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم ، فإنهم خلق من خلق الله ، لا يضرون إلا بعد مشيئة الله ، فمن مسه بضر فلا كاشف له إلا هو ، ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله ، وقد أحدثتم في دينه من الشرك ما لم ينزل به وحيا من السماء ؟! فأي الفريقين أحق بالأمن؟ من كان لا يخاف إلا الله ، ولم يبتدع في دينه شركاء ، أم من ابتدع في دينه شركا بغير إذنه؟ بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك فهؤلاء من المهتدين . وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم . أستمع حفظ

12 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " فإن قيل : فقد نقل عن بعضهم أنه قال : " قبر معروف : الترياق المجرب ، وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره . وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد ، أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء عند قبر أحمد ، ويتوخى الدعاء عنده ، وأظنه ذكر ذلك للمروذي ، ونقل عن جماعات أنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين ، من أهل البيت وغيرهم ، فاستجيب لهم الدعاء ، وعلى هذا عمل كثير من الناس . وقد ذكر العلماء المصنفون في مناسك الحج إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يدعو عنده ، وذكر بعضهم أنه من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له . وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر : أنها بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها ، فجازت القراءة كغيرها . وقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ ، وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة ، كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي ، وغيره . وقد أدركنا في أزماننا وما قاربها من ذوي الفضل علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها أو العكوف عليها ، وفيهم من كان بارعا في العلم ، وفيهم من كان له كرامات ، فكيف يخالف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين ، لأنه غاية ما يتمسك به المقبريون . قلنا : الذي ذكرنا كراهته ، لا ينقل في استحبابه - فيما علمناه - شيء ثابت ، عن القرون الثلاثة التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليها حيث قال : " خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " مع شدة المقتضي فيهم لذلك لو كان فيه فضيلة ، فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضي لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه . وأما من بعد هؤلاء ، فأكثر ما يفرض : أن الأمة اختلفت ، فصار كثير من العلماء أو الصديقين إلى فعل ذلك ، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك ، فإنه لا يمكن أن يقال : قد أجمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين : أحدهما : أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره ، قديما وحديثا . الثاني : أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ، ولم يفعلوه ، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات ، وهي لا تتناقض أستمع حفظ

14 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم : هو الكتاب والسنة ، وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا ، فكيف - والحمد لله - لا ينقل هذا عن إمام معروف ، ولا عالم متبع ؟ بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه ، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال : " إني إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب " أو كلاما هذا معناه . وهذا كذلك معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل ، فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا ، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين ، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين ، أفضل من أبي حنيفة ، وأمثاله من العلماء . فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده ؟ ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه ، مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم ، لم يكونوا يتحرون الدعاء ، لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره . ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها ، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه . وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى ، لما جاز التمسك بها حتى تثبت . فكيف بالمنقول عن غيره ؟ ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله ، باجتهاد يخطئ ويصيب ، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه ، فحرف النقل عنه ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها ، من حجها للصلاة عندها ، والاستغاثة بها . ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به ، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله ، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها ، وتركه مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله ، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس - من غير نقل عن الأنبياء - النصارى وأمثالهم . وإنما المتبع في إثبات أحكام الله : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسبيل السابقين أو الأولين ، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة ، نصا أو استنباطا بحال . أستمع حفظ

15 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " والجواب عنها من وجهين : مجمل ومفصل . أما المجمل : فالنقض : فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير ، بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا ، كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا ، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة ، فإن كان هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه ، فليطرد الدليل . وذلك كفر متناقض . ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون ، عند قبر أو غيره ، كل منهم قد اتخذ وثنا أحسن به الظن ، وأساء الظن بآخر ، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ، ولا يستجاب عند غيره ، فمن المحال إصابتهم جميعا ، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم ، وترجيح بلا مرجح ، والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد . فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم - فيما يزعمون - بقدر إقبالهم على وثنهم ، وانصرافهم عن غيره ، وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه - دون ما ينفونه - ، بضعف التأثير على زعمهم ، فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا ، لم يكن تأثره مثل تأثر الحسن الظن بواحد دون آخر . وهذه كلها من خصائص الأوثان . ثم قد استجيب لبلعم بن باعور في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان . والمشركون قد يستسقون فيسقون ، ويستنصرون فينصرون . أستمع حفظ

16 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وأما الجواب المفصل فنقول : مدار هذه الشبه على أصلين : منقول : وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عن بعض الأعيان . ومعقول : وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة . فأما النقل في ذلك : فإما كذب ، أو غلط ، أو ليس بحجة ، بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك . وأما المعقول فنقول : عامة المذكور من المنافع كذب ، فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم - إنما يستجاب لهم في النادر . ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات ، فيستجاب له في واحدة ، ويدعو خلق كثير منهم ، فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار ، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم ، وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا من جنس ابتهال المقابريين لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع . أستمع حفظ