التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم-26b
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اقتضاء الصراط المستقيم
الحجم ( 5.59 ميغابايت )
التنزيل ( 647 )
الإستماع ( 69 )


3 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " فكيف يجوز - والحال هذه - أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل ، والسلف تنكره ولا تعرفه ، وتنهى عنه ولا تأمر به . نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقًا في كلام بعض الناس : فلان ترجى الإجابة عند قبره . وفلان يدعى عند قبره ، ونحو ذلك . والإنكار على من يقول ويأمر به ، كائنًا من كان ، فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدًا في هذه المسألة أو مقلدًا ، فيعفو الله عنه . أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا . بل قد يقال : هذا من جنس قول بعض الناس : المكان الفلاني يقبل النذر ، والموضع الفلاني ينذر له . ويعينون عينًا أو بئرًا أو شجرة ، أو مغارة ، أو حجرًا ، أو غير ذلك من الأوثان ، فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين ، فكذلك القول الأول . ولم يبلغني - إلى الساعة - عن أحد من السلف رخصة في ذلك ، إلا ما روى ابن أبي الدنيا ، في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال : أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من زارني بالمدينة محتسبًا كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة " . قال ابن أبي فديك : وأخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول : من أحب أن يقوم وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه . قال ابن أبي فديك : وسمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } فقال : " صلى الله عليك يا محمد " حتى يقولها سبعين مرة - ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ، ولم تسقط له حاجة . فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال : فيه استحباب قصد الدعاء عند القبر . ولا حجة فيه لوجوه : أحدها : أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول ، وذكر ذلك المجهول أنه بلاغ عمن لا يعرف ، ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلا ، وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية ، ليس هو من التابعين ، ولا من تابعيهم المشاهير حتى يقال قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة ، وحسبك أن أهل العلم بالمدينة المعتمدين ، لم ينقلوا شيئا من ذلك . ومما يضعفه : أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا " فكيف يكون من صلى عليه سبعين مرة جزاؤه أن يصلي عليه ملك من الملائكة ؟ وأحاديثه المتقدمة تبين أن الصلاة والسلام عليه تبلغه عن البعيد والقريب . والثاني : أن هذا إنما يقتضي استحباب الدعاء للزائر في ضمن الزيارة ، كما ذكر العلماء ذلك في مناسك الحج . وليس هذا مسألتنا ، فإنا قد قدمنا أن من زار زيارة مشروعة ، ودعا في ضمنها لم يكره هذا ، كما ذكره بعض العلماء ، مع ما في ذلك من النزاع ، مع أن المنقول عن السلف كراهة الوقوف عنده للدعاء ، وهو أصح . وإنما المكروه الذي ذكرناه : قصد الدعاء عنده ابتداء ، كما أن من دخل المسجد ، فصلى تحية المسجد ، ودعا في ضمنها ، لم يكره ذلك ، أو توضأ في مكان وصلى هنالك ودعا في ضمن صلاته لم يكره ذلك ، ولو تحرى الدعاء في تلك البقعة ، أو في مسجد لا خصيصة له في الشرع دون غيره من المساجد ، فنهي عن هذا التخصيص . أستمع حفظ

5 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الثالث : أن الاستجابة هنا لعلها لكثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الصلاة عليه قبل الدعاء ، وفي وسطه وآخره ، من أقوى الأسباب التي يرجى بها إجابة سائر الدعاء ، كما جاءت به الآثار ، مثل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ، الذي يروى موقوفا ومرفوعا : " الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك " رواه الترمذي . وذكر محمد بن الحسن بن زبالة ، في كتاب (أخبار المدينة) ، فيما رواه عنه الزبير بن بكار ، روى عنه عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له : محمد بن كيسان ، يأتي إذا صلى العصر من يوم الجمعة ، ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فيقوم عند القبر ، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو حتى يمسي . فيقول جلساء ربيعة : انظروا إلى ما يصنع هذا؟ فيقول : " دعوه ، فإنما للمرء ما نوى " ، ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار ، وهو مضعف عند أهل الحديث ، كالواقدي ونحوه . لكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به . وهذه الحكاية قد يتمسك بها على الطرفين ، فإنها تتضمن أن الذي فعله هذا الرجل أمر مبتدع عندهم ، لم يكن من فعل الصحابة وغيرهم من علماء أهل المدينة ، وإلا لو كان هذا أمرا معروفا من عمل أهل المدينة لما استغربه جلساء ربيعة وأنكروه . بل ذكر محمد بن الحسن لها في كتابه مع رواية الزبير بن بكار ذلك عنه ، يدل على أنهم على عهد مالك وذويه ، ما كانوا يعرفون هذا العمل ، وإلا لو كان هذا شائعا بينهم لما ذكر في كتاب مصنف ، ما يتضمن استغراب ذلك . ثم إن جلساء ربيعة - وهم قوم فقهاء علماء - أنكروا ذلك ، وربيعة أقره . فغايته : أن يكون في ذلك خلاف ولكن تعليل ربيعة له بأن لكل امرئ ما نوى ، لا يقتضي إلا الإقرار على ما يكره ، فإنه لو أراد الصلاة هناك لنهاه ، وكذلك لو أراد الصلاة في وقت نهي . وإنما الذي أراده - والله أعلم - أن من كان له نية صالحة أثيب على نيته ، وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع ، إذا لم يتعمد مخالفة الشرع - يعني فهذا الدعاء ، وإن لم يكن مشروعا ، لكن لصاحبه نية صالحة يثاب على نيته . فيستفاد من ذلك : أنهم مجمعون على أنه غير مستحب ، ولا خصيصة في تلك البقعة ، وإنما الخير يحصل من جهة نية الداعي ، ثم إن ربيعة لم ينكر عليه متابعة لجلسائه: إما لأنه لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيدا ، وعن الصلاة عنده . فإن ربيعة - كما قال أحمد - كان قليل العلم بالآثار . أستمع حفظ

6 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " أو بلغه ذلك لكن لم ير مثل هذا داخلا في معنى النهي ، أو لأنه لم ير هذا محرما ، وإنما غايته أن يكون مكروها ، وإنكار المكروه ليس بفرض . أو أنه رأى أن ذلك الرجل إنما قصد السلام ، والدعاء جاء ضمنا وتبعا . وفي هذا نظر . ولا ريب أن العلماء قد يختلفون في مثل هذا كما اختلفوا في صحة الصلاة عند القبر ، ومن لم يبطلها قد لا ينهى من فعل ذلك . والعمدة على الكتاب والسنة ، وما كان عليه السابقون ، مع أن محمد بن الحسن هذا قد روى أخبارا عن السلف تؤيد ما ذكرناه . فقال : حدثني عمر بن هارون ، عن سلمة بن وردان قال : رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ، ثم يدعو " فهذا إن كان ثابتا عن أنس فهو مؤيد لما ذكرناه ، فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة ، وإنما كان يقدم من البصرة ، إما مع الحجيج أو نحوهم ، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إذا أراد الدعاء الذي في حق مثله إنما يكون ضمنا وتبعا ، استدبر القبر . أستمع حفظ

15 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وذكر محمد بن الحسن ، عن عبد العزيز بن محمد ومحمد بن إسماعيل وغيرهما ، عن محمد بن هلال ، وعن غير واحد من أهل العلم : أن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي فيه قبره - هو بيت عائشة الذي كانت تسكن ، وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة ، والذي يلي القبلة منه أطوله ، والشرقي والغربي سواء ، والشامي أنقصها ، وباب البيت مما يلي الشام ، وهو مسدود بحجارة سود وقصة . ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر ، وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيها الصلاة من بين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما حدثني عبد العزيز بن محمد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . وحدثني مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . فهذه الآثار ، إذا ضمت إلى ما قدمنا من الآثار ، علم كيف كان حال السلف في هذا الباب . وأن ما عليه كثير من الخلف في ذلك من المنكرات عندهم . ولا يدخل في هذا الباب : ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قبور غيره من الصالحين . وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة . ونحو ذلك . فهذا كله حق ليس مما نحن فيه ، والأمر أجل من ذلك وأعظم . أستمع حفظ

17 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لغيره من أمته حاجة فتقضى له ، فإن هذا قد وقع كثيرا ، وليس هو مما نحن فيه . وعليك أن تعلم : أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ، ليس مما يدل على استحباب السؤال ، فإنه هو " القائل صلى الله عليه وسلم : " إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها ، فيخرج بها يتأبطها نارا " ، فقالوا : يا رسول الله ، فلم تعطيهم؟ قال : " يأبون إلا أن يسألوني ، ويأبى الله لي البخل " . وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال ، لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم ، كما أن السائلين به في الحياة كانوا كذلك ، وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة . فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر ، أما أن يدل على حسن حال السائل ، فلا فرق بين هذا وهذا . فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور ، واتخاذها مساجد استهانة بأهلها ، بل لما يخاف عليهم من الفتنة ، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها ، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك . وكذلك ما يذكر من الكرامات ، وخوارق العادات ، التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها ، واندفاع النار عنها وعمن جاورها ، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى ، واستحباب الاندفان عند بعضهم ، وحصول الأنس والسكينة عندها ، ونزول العذاب بمن استهانها - فجنس هذا حق ، ليس مما نحن فيه . وما في قبور الأنبياء والصالحين ، من كرامة الله ورحمته ، وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق ، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك . وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة ، أو قصد الدعاء أو النسك عندها ، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم . فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمناه ، وليس كذلك . أستمع حفظ

18 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " الوجه الرابع : أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله ، قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد ، وربما اجتمع عندها اجتماعات كثيرة ، في مواسم معينة ، وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا تتخذوا قبري عيدا " وبقوله : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وبقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تتخذوا القبور مساجد ، فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " . حتى إن بعض القبور يجتمع عندها في يوم من السنة ويسافر إليها : إما في المحرم ، أو رجب ، أو شعبان ، أو ذي الحجة ، أو غيرها . وبعضها يجتمع عنده في يوم عاشوراء! ، وبعضها في يوم عرفة ، وبعضها في النصف من شعبان ، وبعضها في وقت آخر ، بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه ، ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى ، في أيام معلومة من السنة ، أو كما يقصد مصلى المصر يوم العيدين ، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد . ومنها : ما يسافر إليه من الأمصار ، في وقت معين أو في وقت غير معين ، لقصد الدعاء عنده ، والعبادة هناك ، كما يقصد بيت الله لذلك ، وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه ، إلا أن يكون خلافا حادثا . وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور. فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة ، أو نحو ذلك : فهذا لا ريب فيه . حتى إن بعضهم يسميه الحج ويقول : نريد الحج إلى قبر فلان وفلان . ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع . وفي الجملة : هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا تتخذوا قبري عيدًا " فإن اعتياد قصد المكان المعين ، وفي وقت معين ، عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع ، هو بعينه معنى العيد . ثم ينهى عن دق ذلك وجله ، وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره لما قال : " قد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا " وذكر ما يفعل عند قبر الحسين . وقد ذكرت فيما تقدم : أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة . فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟ . أستمع حفظ