التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم-29b
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اقتضاء الصراط المستقيم
الحجم ( 5.53 ميغابايت )
التنزيل ( 607 )
الإستماع ( 70 )


14 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وقد يفعل العبد ما أمر به ابتداء لأجل العبادة لله، والطاعة له، ولما عنده من محبته والإنابة إليه، وخشيته، وامتثال أمره، وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية ، وقد قال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره : " الدعاء هو العبادة " ، ثم قرأ قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } . وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين : " ادعوني " أي اعبدوني وأطيعوا أمري ؛ أستجيب دعاءكم . وقيل : سلوني أعطكم ، وكلا المعنيين حق . وفي الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النزول : " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له . حتى يطلع الفجر " فذكر أولا : إجابته الدعاء ، ثم ذكر : إعطاء السائل ، والمغفرة للمستغفر ، فهذا جلب المنفعة ، وهذا دفع المضرة ، وكلاهما مقصود الداعي المجاب . وقال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . وقد روي : أن بعض الصحابة قال : يا رسول الله ، ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله هذه الآية فأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ثم أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به ، كما قال بعضهم : فليستجيبوا لي إذا دعوتهم ، وليؤمنوا بي إني أجيب دعوتهم . قالوا : وبهذين السببين تحصل إجابة الدعوة : بكمال الطاعة لألوهيته ، وبصحة الإيمان بربوبيته ، فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه ؛ حصل مقصوده من الدعاء ، وأجيب دعاؤه ، كما قال تعالى { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله } أي : يستجيب لهم ، يقال : استجابه واستجاب له . فمن دعاه موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه ، وقد يكون مشركا وفاسقا ، فإنه سبحانه هو القائل : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍ مسه } ، وهو القائل سبحانه : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا } ، وهو القائل سبحانه { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين }{ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } . ولكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته ، وأنه يجيب دعاء المضطر ، إذا لم يكونوا مخلصين له الدين ، في عبادته ، ولا مطيعين له ولرسوله ، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق . وقال تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا }{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيهم مشكورًا }{ كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا } . وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان فقال : { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } . قال الله تعالى : { ومن كفر فأمتعه قليلًا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } فليس كل من متعه الله برزق ونصر ، إما إجابة لدعائه ، وإما بدون ذلك ، يكون ممن يحبه الله ويواليه ، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق . وقد ذكروا أن بعض الكفار من النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد ماؤهم العذب ، فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم ، فاشتور ولاة أمر المسلمين ، وقالوا : بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم ، فقام أولئك فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم ، فاضطرب بعض العامة ، فقال الملك لبعض العارفين : أدرك الناس فأمر بنصب منبر له وقال : اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك : { وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها } ، وقد دعوك مضطرين ، وأنت تجيب المضطر إذا دعاك ، فأسقيتهم ؛ لما تكفلت به من رزقهم ، ولما دعوك مضطرين لا لأنك تحبهم ، ولا تحب دينهم ، والآن فنريد أن ترينا آية يثبت بها الإيمان في قلوب عبادك المؤمنين . فأرسل الله عليهم ريحا فأهلكتهم ، أو نحو هذا . أستمع حفظ

15 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " ومن هذا الباب : من قد يدعو دعاء يعتدي فيه ، إما بطلب ما لا يصلح ، أو بالدعاء الذي فيه معصية الله ، شرك أو غيره ، فإذا حصل بعض غرضه ؛ ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح ، بمنزلة من أملي له ، وأمد بالمال والبنين ، يظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات . قال تعالى : { أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين }{ نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } ، وقال تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون } ، وقال تعالى { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ } والإملاء : إطالة العمر ، وما في ضمنه من رزق ونصر . وقال تعالى : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متينٌ } . وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع : وقال تعالى : { ادعوا ربكم تضرعًا وخفيةً إنه لا يحب المعتدين } والمقصود هنا : أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله ، فيثاب العبد عليه في الآخرة ، مع ما يحصل له في الدنيا ، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته ، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله ، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة ، وقد يكون سببا لضرر دينه ، فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله سبحانه وتعداه من حدوده " أستمع حفظ

16 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته ، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها ، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته . ومن هذا الباب : استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم ، في الاستسقاء وغيره . وقول عمر رضي الله عنه : " إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا " معناه : نتوسل إليك بدعائه وشفاعته ، وسؤاله ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته ، ليس المراد به أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله بعد موته وفي مغيبه ، كما يقول بعض الناس : أسألك بجاه فلان عندك ، ويقولون : إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ، ويروون حديثا موضوعا : " إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ، فإن جاهي عند الله عريض " . فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه ، كما ذكر عمر رضي الله عنه ؛ لفعلوا ذلك به بعد موته ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس ، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء دون الأموات ، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم ، فإن الحي يطلب منه ذلك ، والميت لا يطلب منه شيء ، لا دعاء ، ولا غيره . أستمع حفظ

17 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " وكذلك حديث الأعمى ، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره ، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه ، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه ، وأمره أن يسأل الله قبول الشفاعة ، وأن قوله : " أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة " أي : بدعائه وشفاعته ، كما قال عمر : " كنا نتوسل إليك بنبينا " فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد ، ثم قال : " يا محمد ، يا رسول الله ، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها ، اللهم فشفعه في فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه ، وقوله : " يا محمد يا نبي الله " هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب ، فيخاطب الشهود بالقلب : كما يقول المصلي : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا ، يخاطب من يتصوره في نفسه ، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب . أستمع حفظ

19 - القراءة من قول المصنف مع التعليق عليه ومقابلة النسخ: " فلفظ التوسل بالشخص ، والتوجه به ، والسؤال به ، فيه إجمال واشتراك ، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة ، يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا ، أو لكون الداعي مجيبا له ، مطيعا لأمره ، مقتديا به ، فيكون التسبب : إما لمحبة السائل له واتباعه له ، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته ، فلا يكون التوسل لا لشيء منه ، ولا شيء من السائل ، بل بذاته ، أو بمجرد الإقسام به على الله . فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بشيء قد يراد به المعنى الأول ، وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب ، وقد يراد به الإقسام . ومن الأول : حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار ، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما ، فإن الصخرة انطبقت عليهم " فقالوا : ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله ، فقال أحدهم : اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وإنها طلبت مني مائة دينار ، فلما أتيتها بها قالت : يا عبد الله ، اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فتركت الذهب وانصرفت ، فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ، فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء . وقال الآخر : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا ، فناء بي طلب الشجر يوما ، فلم أرح عليهما حتى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين ، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي ، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر ، فاستيقظا فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها . وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم ، غير رجل واحد ، ترك الذي له وذهب ، فثمرت أجره ، حتى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين فقال : يا عبد الله ، أد لي أجري ، فقلت له : كل ما ترى من أجرك : من الإبل والبقر والغنم والرقيق . فقال يا عبد الله ، لا تستهزئ بي ، فقلت : أنا لا استهزئ بك ، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون " . فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال ؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى ، ويتوجه به إليه ويسأله به ؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويزيدهم من فضله : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ، وهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به ، من العمل الصالح ، وسؤاله والتضرع إليه . ومن هذا : يذكر عن الفضيل بن عياض ، أنه أصابه عسر البول فقال : بحبي إياك إلا فرجت عني " ففرج عنه . وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت : " اللهم إني آمنت بك وبرسولك ، وهاجرت في سبيلك " وسألت الله أن يحيي ولدها . وأمثال ذلك . وهذا كما قال المؤمنون : { ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } . أستمع حفظ