المحاضرة بعنوان ( الحديث حجة بنفسه في الأحكام والعقائد ) .
استفتاح الشيخ بخطبة الحاجة
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
بيان أن السنة هي المرجع الثاني بعد القرآن الكريم وبيان أنه لا يجوز مخالفتها بأي نوع من المخالفة ولا لسبب من الأسباب وسرد الشيخ لأدلة ذلك من القرآن .
قال تعالى (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )) وقال عز وجل (( يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )) وقال (( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين )) وقال عز من قائل (( وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا )) وقال (( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )) وقال (( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبوا إن الله مع الصابرين )) وقال (( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتهم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )) وقال (( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) وقال (( يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون )) وقال (( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )) وقال (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا )) وقال سبحانه (( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون )) (( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )) (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) (( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )) وقال تبارك وتعالى (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكروا )) إلى غير ذلك من الآيات المباركات .
3 - بيان أن السنة هي المرجع الثاني بعد القرآن الكريم وبيان أنه لا يجوز مخالفتها بأي نوع من المخالفة ولا لسبب من الأسباب وسرد الشيخ لأدلة ذلك من القرآن . أستمع حفظ
الأدلة من السنة على وجوب اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتحريم مخالفته .
الثالث : عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال يا قومي إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاة النجاة فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق ) أخرجه البخاري ومسلم .
الرابع : عن أبي رابع قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وإلا فلا ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وبن ماجه والطحاوي وغيرهم بسند صحيح.
الخامس : عن المقداد بن معدي كرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك أن رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السّباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يُعقبهم بمثل قراء ) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أحمد بسند صحيح .
السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ) أخرجه مالك مرسلا والحاكم مسندا وصححه .
ذكر الشيخ إجمالا لما في هذه النصوص من الآيات والأحاديث من القواعد والفوائد الشرعية المهمة .
أولا : أنه لا فرق بين قضاء الله وقضاء رسوله وأن كل منهما ليس للمؤمن الخيرة في أن يُخالفهما وأن عصيان الرسول كعصيان الله تعالى وأنه ضلال مبين .
ثانيا : أنه لا يجوز التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما لا يجوز التقدم بين يدي الله تعالى وهو كناية على عدم جواز مخالفة سنته صلى الله عليه وآله وسلم قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين " أي لا تقولوا حتى يقول ولا تأمروا حتى يأمر ولا تفتوا حتى يفتي ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويُمضي " .
ثالثا : أن التولي عن طاعة الرسول إنما هو من شأن الكافرين.
رابعا : أن المطيع للرسول مطيع لله تعالى.
خامسا : وجوب الرد و الرجوع عند التنازل والاختلاف في شيء من أمور الدين إلى الله وإلى الرسول، قال ابن القيم " فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفصل يعني قوله (( وأطيعوا الرسول )) إعلاما بأن طاعته تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة ولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعته في ضمن طاعة الرسول " انتهى .
ومن المتفق عليه عند العلماء أن الرّد إلى الله إنما هو الرّد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته وأن ذلك من شروط الإيمان .
سادسا : أن الرضا بالتنازع بترك الرجوع إلى السّنة للخلاص منه سبب شرعي لفشل المسلمين في جميع جهودهم وذهاب قوتهم وشوكتهم، أعيد فأقول سادسا : أن الرضا بالتنازع بترك الرجوع إلى السنة للخلاص منه سبب شرعي لفشل المسلمون في جميع جهودهم و إذهاب قوتهم وشوكتهم .
سابعا : التحذير من مخالفة الرسول لما لها من العاقبة السيئة في الدنيا والآخرة .
ثامنا : استحقاق المخالفين لأمره صلى الله عليه وآله وسلم الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة .
تاسعا : وجوب الاستجابة لدعوة الرسول وأمره وأنها سبب الحياة الطيبة والسعادة في الدنيا والآخرة .
عاشرا : أن طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لدخول الجنة والفوز العظيم وأن معصيته وتجاوز حدوده سبب لدخول النار والعذاب المهين .
حادي عشر : أن من صفات المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر أنه إذا دُعُوا إلى أن يتحاكموا إلى الرسول وإلى سنته لا يستجيبون لذلك بل يصدون عنه صدودا
ثاني عشر : وأن المؤمنين على خلاف المنافقين فإنهم إذا دُعُوا إلى التحاكم إلى الرسول بادروا إلى الاستجابة لذلك وقالوا بلسان حالهم وقالهم سمعنا وأطعنا وأنهم بذلك يصيرون مفلحين ويكونون من الفائزين بجنات النعيم .
ثالث عشر : كل ما أمرنا به الرسول يجب علينا اتباعنا فيه كما يجب علينا أن ننتهي عن كل ما نهانا عنه .
رابع عشر : أنه إسوتنا وقدوتنا في كل أمور ديننا إذا كنا ممن يرجوا الله واليوم الآخر .
خامس عشر : وأن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إما له صلة بالدين والأمور الغيبية التي لا تُعرف بالعقل ولا بالتجربة فوحي من الله إليه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
سادس عشر : وأن سنته صلى الله عليه وآله وسلم هي بيان لما أنزل إليه من القرآن .
سابع عشر : أن القرآن لا يُغني عن السنة بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع وأن المستغني به عنها مخالف للرسول عليه الصلاة والسلام غير مطيع له فمُخالف لما سبق من الآيات الآمرة بطاعته واتباعه عليه الصلاة والسلام .
ثامن عشر : أن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما حرم الله وكذلك كل شيء جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن فهو مثل ما لو جاء في القرآن لعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )
تاسع عشر : أن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو التمسك بالكتاب والسنة وأن ذلك حكم مستمر إلى يوم القيامة فلا يجوز التفريق بين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تسليما كثير.
5 - ذكر الشيخ إجمالا لما في هذه النصوص من الآيات والأحاديث من القواعد والفوائد الشرعية المهمة . أستمع حفظ
بيان الشيخ أن النصوص المتقدمة تدل أيضا على أمرين هامين الأول شمولها لكل من بلغته إلى يوم القيامة .
الأول : أنها تشمل كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة وذلك صريح في قوله تعالى (( لأنذركم به ومن بلغ )) وقوله (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا )) وفسّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في حديث ( وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة ) متفق عليه، وقوله ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يُؤمن بي إلا كان من أهل النار ) رواه الإمام مسلم في صحيح وابن منده وغيرهما كما خرجته في الأحاديث .الصحيحة رقم سبع وخمسين ومائة.
6 - بيان الشيخ أن النصوص المتقدمة تدل أيضا على أمرين هامين الأول شمولها لكل من بلغته إلى يوم القيامة . أستمع حفظ
الأمر الثاني شمولها لكل أمور الدين لا فرق بين ما كان فقها أو عقيدة أو سلوكا .
بيان إهمال بعض الخلف لكثير من السنة بسبب أصول تبنوها من علم الكلام وكيف أدى بهم ذلك إلى البعد الكبير عن السنة .
8 - بيان إهمال بعض الخلف لكثير من السنة بسبب أصول تبنوها من علم الكلام وكيف أدى بهم ذلك إلى البعد الكبير عن السنة . أستمع حفظ
ضرب الشيخ لمثال على غربة السنة في هذا الزمان .
بيان الشيخ للأصول والقواعد التي صرفت الكثير عن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام .
الأول : قول بعض علماء الكلام إن حديث الأحاد لا تثبت به عقيدة وصرح بعض الدعاة الإسلاميين اليوم بأنه لا يجوز أخذ العقيدة منه بل يحرم .
الثاني : بعض القواعد التي تبنتها بعض المذاهب المتبعة في أصولها يحضرني الآن ما يلي .
أ- تقديم القياس على خبر الآحاد .
ب - رد خبر الآحاد إذا خالف الأصول .
ج - رد الحديث المتضمن حكما زائدا على نص القرآن بدعوى أن ذلك نسخ له والسنة لا تنسخ القرآن .
د - تقديم العام على الخاص عند التعارض أو عدم جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد .
هـ - تقديم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح
الثالث التقليد واتخاذه مذهبا ودينا.
فلندرس الآن هذه الأصول الثلاثة على ضوء الكتاب والسنة والنصوص المتقدمة لنتبين منها حقيقتها في فصول ثلاث مبتدئين بالأول فالأول منها .
كلام الشيخ عن قولهم حديث الآحاد لا يؤخذ به في العقيدة ورده عليهم .
إن القائلين بأن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة يقولون في الوقت نفسه بأن الأحكام الشرعية تثبت بحديث الآحاد فقد فرقوا بين العقائد والأحكام في الحديث فلا تجد هذا التفريق في النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة كلا، بل هي بعمومها وإطلاقاتها تشمل العقائد أيضا وتوجب اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم فيها لأنها بلا شك هي مما يشمله قوله تعالى أمرا في آية (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )) وهكذا أمره تعالى بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن عصيانه والتحذير من مخالفته وثنائه على المؤمنين الذين يقولون عندما يُدعون إلى التحاكم إلى الله ورسوله سمعنا وأطعنا كل ذلك يدل على وجوب طاعته واتباعه عقيدة كما يجب اتباعه حكما .
وقوله تعالى (( وما آتاكم الرسول فخذوه )) فإن " ما " من ألفاظ العموم والشمول كما هو معلوم وأنت لو سألت هؤلاء القائلين بوجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام دون العقائد الدليل عليه لاحتجوا بهذه الآيات السابقة وغيرها مما لم نذكره اختصارا فما الذي حملهم على استثناء العقيدة من وجوب الأخذ بها وهي داخلة في عموم الآيات ؟
بيان الشيخ للشبهة التي سببت هذا التفريق بين الآحاد والمتواتر .
الآحاد لا يُفيد إلا الظن لو سلمنا لهم بهذا على إطلاقه فإنا نسألهم من أين لكم هذا التفريق ؟ وما الدليل عليه من الكتاب والسنة ؟ وأنهم وأنه يجب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام ولا يجوز الأخذ به في العقيدة، لقد رأينا بعض المعاصرين يستدلون على ذلك بقوله تعالى في ...
وتعالى المشركين على تبنيهم الظن واتباعهم إيّاه وقال هؤلاء مستدلين أن الظن المرجوح في هذه الآيات ليس المراد به الظن الغالب الذي يُفيده خبر الآحاد ويجب الأخذ به اتفاقا وإنما هو الشك الذي هو ال ... فقد جاء في " النهاية في غريب الحديث " و " اللسان " وغيرهما من كتب اللغة ما نصه " الظن الشك يعرض لك في الشيء فتحققه وتحكم به " انتهى.
فهذا هو الظن الذي نعاه الله تعالى على المشركين ومما يؤيد ذلك قوله تعالى فيهم (( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )) فجعل الظن هو الخلط الذي هو مجرد الحزر والتخمين .
بيان الشيخ أن الظن لا يجوز مطلقا لا في الأحكام ولا في العقائد .
الأول أن الله أنكره عليهم إنكارا مطلقا لم يخصه بالعقيدة دون الأحكام والآخر أنه تعالى صرح في بعض الآيات أن الظن الذي أنكره على المشركين يشمل القول به في الأحكام أيضا التي كانوا يظنون فيها ظنا فاسمع إلى قوله تعالى الصريح في ذلك (( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا )) فهذا عقيدة (( ولا حرّمنا من شيء )) وهذا حكم (( كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون )) ويفسّرها قوله تبارك وتعالى (( قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ))، فثبت مما تقدم أنّ الظن الذي لا يجوز الأخذ به إنما هو الظن اللغوي المرادف للخرص والتخمين والقول بغير علم وأنه يحرم الحكم به في الأحكام أيضا كالعقائد و ... وإذا كان الأمر كذلك فقد سلم لنا القول المتقدم أن كل الآيات والأحاديث المتقدمة الدالة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام تدل أيضا بعمومها وشمولها على وجوب الأخذ به في العقائد أيضا ...
والحق أن التفريق بين العقيدة والأحكام في وجوب الأخذ فيها بحديث الآحاد فلسفة دخيلة في الإسلام لا يعرفها السّلف الصالح ولا الأئمة الأربعة الذين يقدرهم جماهير المسلمين اليوم في العصر الحاضر .
وإن من أعجب ما يسمعه المسلم العاقل اليوم هو هذه الكلمة ... كلما ضعف إيمانهم عن التطبيق بحديث حتى ولو كان متواترا عند أهل العلم بالحديث كحديث نزول عيسى عليه السّلام في آخر الزمان فإنهم يتسترون بقولهم حديث الآحاد لا يثبت به عقيدة و ... العجب أن قولهم هذا هو في نفسه عقيدة كما قلت مرة لبعض من ناظرتهم في هذه المسألة وبناء على ذلك فعليهم أن يأتوا بالدليل القاطع على صحة هذا القول وإلا فهم متناقضون فيه وهيهات هيهات فإنه لا دليل لهم إلا مجرد الدعوى والظن والخرص ومثل ذلك مردود في الأحكام ... العقيدة وبعبارة أخرى لقد فروا من القول بالظن الراجح في العقيدة فوقعوا فيما هو أسوأ منهم وهو قولهم بالظن المرجوح فيها (( فاعتبروا يا أولي الأبصار )) وما ذلك إلا بسبب البعد عن التفقه في الكتاب والسنة والاهتداء بنورها مباشرة والانشغال عنه بآراء الرجال فإن هناك أدلة أخرى أخص في الدلالة مما سبق، ترى أنه لا بد .
ذكر الشيخ لبعض الأدلة من القرآن على وجوب الأخذ بخبر الواحد خاصة في العقائد .
ومما لا ريب فيه أن العقائد أهم من الأحكام ومن أجل ذلك زعم الزاعمون أن العقائد لا تثبت بحديث الآحاد فيبطل ذلك عليهم ... الآية الكريمة فإن الله كما حض فيها الطائفة على التعلم والتفقه عقيدة وأحكاما حضهم على أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما تعلموه من العقائد والأحكام، والطائفة في لغة العرب تقع على الواحد فما فوقه فلولا أن الحجة تقوم بحديث الآحاد عقيدة وحكما لما حض الله الطائفة على التحذير معللا ذلك بقوله تعالى (( لعلهم يحذرون )) الصريح في أن العلم يحصل بإنذار الطائفة فإنه كقوله تعالى في آياته الشرعية والكونية (( لعلهم يتفكرون )) (( لعلهم يعقلون )) (( لعلهم يهتدون )) فالآية نص في أن خبر الآحاد حجة في ... عقيدة وأحكاما .
الثاني : قوله تعالى (( ولا تقف ما ليس لك به علم )) أي لا تتبعه ولا تعمل به ومن المعلوم أن المسلمين لم يزالوا من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويُثبتون بها الأمور الغيبية والحقائق الاعتقادية مثل بدء الخلق وأشراط الساعة ويُثبتون بها لله تعالى الصفات فإذا كانت لا تُفيد علما ولا تُثبت عقيدة لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه " مختصر الصواعق " .
الثالث : قوله تعالى (( يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا )) وفي القراءة الأخرى (( فتثبتوا )) فإنها تدل على أن العدل إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة وأنه لا يجب التثبت ولذلك قال ابن القيم وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت ولو كان خبره لا يُفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل ذلك ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون قال رسول الله كذا وفعل كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وهذا معلوم من كلامهم بالضرورة وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدّة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " وإنما سمعه من صحابي غيره وهذه شهادة من القائل و ... على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل فلو كان خبر الواحد لا يُفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير علم انتهى .
والسّنة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبعد وفاته تدل أيضا دلالة قاطعة على عدم التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام وأنه حجة قائمة في كل ذلك وأنا ذاكر الآن بإذن الله بعض ما وقفت عليه من الأحاديث الصحيحة في ذلك، قال الإمام البخاري في صحيحه باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصّلاة والصوم والفرائض والأحكام وقول الله تعالى (( ولولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )) ويسمّى الرجل طائفة في قوله تعالى (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا )) فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية وقوله تعالى (( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا )) وكيف بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراءه واحد بعد واحد فإن انتهى أحد منهم ردّ إلى السنّة .
ذكر الشيخ لبعض الأدلة التي أوردها البخاري في وجوب الأخذ بخبر الواحد وكذا الاستدلال بكلام الإمام الشافعي في الرسالة وكذا ابن القيم في الصواعق المرسلة .
الأول : عن مالك بن حويرث قال أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده نحو من عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما رفيقا فلما ظن أننا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال ( ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ) فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد من هؤلاء الشببة أن يعلم كل واحد منهم أهله والتعليم يعمّ العقيدة بل هي أول ما يدخل في العموم كما سبق فلو لم يكن خبر الآحاد تقوم به حجة لم يكن لهذا الخبر معنى .
الثاني : عن أنس بن مالك أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والكتاب قال فأخذ بيدي أبي عبيدة فقال ( هذا أمين هذه الأمة ) أخرجه مسلم ورواه البخاري مختصرا، قلت فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم أبا عبيدة وحده وكذلك يُقال في بعثه صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في نوبات مختلفة أو إلى بلاد منها متفرقة غيره من الصّحابة رضي الله عنهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وأحاديثهم في الصحيحين وغيرهما، ومما لا ضير فيه أن هؤلاء ال ... الذين أرسلوا إليهم العقائد من جملة ما يُعلمونهم فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرادا لأنه عبث يتنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول الإمام الشافعي في "الرسالة " وهو صلى الله عليه وسلم لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادرا على أن يبعث إليهم فيشابههم أو يبعث إليهم عددا فبعث واحدا يعرفونه بال ...
الثالث : عن عبد الله بن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة رواه البخاري ومسلم فأنا ... على أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد في نفس ما كان مقطوعا عندهم من وجوب استقبال بيت المقدس فتركوا ذلك واستقبلوا الكعبة بخبر فلولا أنه حجة عندهم ما خالفوا المقطوع عندهم من القبلة الأولى، قال ابن القيم ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شُكروا على ذلك .
الرابع : عن سعيد بن جرير قال قلت لابن عباس إن نوفلا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبيّ بن كعب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى عليه السلام صاحب الخضر أخرجه ، الشيخان مطولا والشافعي ... مختصرا وقال فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكذّب به امرءا من المسلمين إذ حدّثه أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر.
قلت وهل القول للإمام الشافعي رحمه الله دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد لأن كون موسى عليه السلام هو صاحب الخضر عليه السلام هي مسألة علمية وليست حُكما عمليا كما هو بيّن و يؤيد ذلك أن الإمام رحمه الله تعالى عقد فصلا هاما في الرسالة تحت عنوان الحجة في تثبيت خبر الواحد وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسّنة من الصفحة الواحدة والأربعمائة إلى الصفحة السادسة والخمسين بعد الأربعمائة وهي أدلة مطلقة أو عامة تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضا وكذلك كلامه عليها عام أيضا وختم هذا البحث بقوله " وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل وكذلك حُكِي لنا عمن حُكِي لنا عنهم من أهل العلم في البلدان " وهذا عام أيضا وكذلك قوله في الصفحة السابعة والخمسين بعد الأربعمائة " ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبّته جاز لي ولكني أقول لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد " وهذا من ورعه وتدقيقه رحمه الله في التعبير عن مقصده تعبيرا علميا دقيقا .
وبالجملة فأدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال العلماء تدل دلالة قاطعة على ما شرحنا ألا وهو وجوب الأخذ بأحاديث الأحاد في كل أبواب الشريعة سواء ما كان في الاعتقاديات أو العمليات وأن التفريق بينهما بدعة لا يعرفها السّلف ولذلك قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى "وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم ترد تحتج بهذه الأحاديث الخبريات العلميات يعني العقيدة كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات و القدر والأسماء والأحكام ولم يُنقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار دون الإخبار عن الله ... فالعمليات أمران العلم والعمل والمطلوب من العلميات أيضا العلم والعمل وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته وبغضه الباطل الذي يُخالفها فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه وذلك عمل ... أصل العمل " .
15 - ذكر الشيخ لبعض الأدلة التي أوردها البخاري في وجوب الأخذ بخبر الواحد وكذا الاستدلال بكلام الإمام الشافعي في الرسالة وكذا ابن القيم في الصواعق المرسلة . أستمع حفظ
بيان الشيخ لضلال كثير من المتكلمين في تفريقهم بين العلم والعمل .
فتحرر من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن التفريق المذكور مع كونه باطلا بالإجماع لمخالفته لما جرى عليه السلف مع ظواهر الأدلة المتقدمة على مخالفته وهو باطل أيضا من جهة تصور المفرقين عدم وجوب اقتران العلم بالعمل والعمل بالعلم وهذه نقطة هامة جدا تساعد المؤمن على تفهّم الموضوع فهما صحيحا وعلى الإيمان ببطلان التفريق المذكور يقينا ثم إن ما تقدم من البحث وتحقيق القول ببطلان التفريق المذكور إنما هو قائم كله على افتراض صحة القول بأن خبر الواحد لا يُفيد إلا الظن الراجح ولا يُفيد اليقين والعلم القاطع .
بيان أن خبر الواحد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان وبيان أمثلته ونقل كلام ابن القيم عن شيخ الاسلام الدال على ذلك .
وذكره ابن الصلاح وصححه واختاره ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم وإنما قال بموجب الحجة الصحيحة وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح انفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى سيف الآمدي وإلى الخطيب فإن على سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني " .
قال " وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو، والحجة على قول الجمهور، أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحد من المخبرين بمفرده، ولا يجوز على المجموع، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها " .
قال " والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنونا بشروطها، فإذا قويت صارت علوما، وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات فاسدة " .
قال: " واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهر السّلفي وغيره، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصّل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوالهم متبوعيهم .
فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به ألبتة " .
قال ابن القيم " وإنما أتي منكر إفادة خبر الواحد العلم من جهة القياس الفاسد، فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرع عام للأمة أو بصفة من صفات الرّب تعالى على خبر الشاهد على قضية معينة، ويا بعد ما بينهما فإن المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قُدّر أنه كذب عمدا أو خطأ ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم على ذلك إضلال الخلق، إذْ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرب وأفعاله، فإن ما يجب قبوله شرعا من الأخبار لا يكون باطلا في نفس الأمر، ولا سيما إذا قبلته الأمة كلهم، وهكذا يجب أن يقال في كل دليل يجب اتباعه شرعا لا يكون إلا حقا، فيكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر.
هذا فيما يخبر به عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معيّن فهذه قد لا يكون مقتضاها ثابتا في نفس الأمر.
وسر مسألة أنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة وتعرف به إليهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذبا وباطلا في نفس الأمر فإنه من حجج الله على عباده، وحجج الله لا تكون كذبا وباطلا، بل لا تكون إلا حقا في نفس الأمر، ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبها للوحي الذي أنزله على رسوله وتعبد به خلقه، بحيث لا يتميز هذا عن هذا فإن الفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب ووحي الشيطان ووحي الملك عن الله أظهر من أن يشتبه أحدهما بالآخر، ألا وقد جعل الله على الحق نورا كنور الشمس يظهر للبصائر المستنيرة، وألبس الباطل ظلمة الليل، وليس بمستنكر أن يشتبه الباطل بالنهار على أعمى البصر، كما يشتبه الحق والباطل على أعمى البصيرة .
قال معاذ بن جبل تلق الحق ممن قاله *** فإن على الحق نورا ، ولكن لما أظلمت القلوب وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال، التبس عليها الحق بالباطل، فجوزت على أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذبا، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلفة التي توافق أهواءها أن تكون صدقا فاحتجب بها " .
قال " وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر الصديق والفاروق وأبيّ بن كعب بأخبار آحاد الناس، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرين، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من أفراد الناس في عدم إفادة العلم، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل .
فإذا قالوا : أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منها العلم، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم، كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة " .
قال " إذْ لا يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلم أهل السنة ما حصل لهم، فقولهم لم نستفد بها العلم، لم يلزم منها النفي العام على ذلك بمنزلة الاستدلال على أن الواجد للشيء العالم به غير واجد له ولا عالم به، فهو كمن يجد من نفسه وجعا أو لذة أو حبا أو بغضا فينتصب له من يستدل على أنه غير وجع ولا متألم ولا محب ولا مبغض، ويكثر له من الشبه التي غايتها إني لم أجد ما وجدته، ولو كان حقا لاشتركت أنا وأنت فيه، وهذا عين الباطل، وما أحسن ما قيل :
أقول للائم المهدي ملامته *** ذق الهوى وإن اسطعت الملام لُمِ
... فيقال له : اصرف عنايتك إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والحرص عليه وتتبعه وجمعه ومعرفة أحوال نقلته وسيرتهم، وأعرض عما سواه واجعله غاية طلبك ونهاية قصدك، بل احرص عليه حرص أتباع أرباب المذاهب على معرفة مذاهب أئمتهم بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهب أئمتهم بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهبهم وأقوالهم، ولو أنكر ذلك عليهم منكر لسخروا منه وحينئذ تعلم هل تفيد أخبار رسول صلى الله عليه وسلم العلم أو لا تفيده فأما مع إعراضك عنها وعن طلبها فهي لا تفيدك علما، ولو قلت: لا تفيدك أيضا ظنا لكنت مخبرا بحصتك ونصيبك منها " ... أقول .
17 - بيان أن خبر الواحد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان وبيان أمثلته ونقل كلام ابن القيم عن شيخ الاسلام الدال على ذلك . أستمع حفظ
ضرب الشيخ لمثلين في رد بعض الفقهاء بعض الأحاديث بسبب هذه الشبهة وهي رد خبر الآحاد .
فهذان مثالان من مئات الأمثلة تبيّن لنا أن الحديث النبوي لم ينل من أهل العلم العناية الواجبة عليهم على اعتبار أنه الأصل الثاني للشريعة الإسلامية الذي بدونه لا يمكن أبدا أن يُفهم الأصل الأول فهما صحيحا كما أراده الله تبارك وتعالى فوقعوا بسبب ذلك في هذا الجهل الفاضح بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الانحراف المكشوف عن التطبيق بها وهي قطعا مما جاء به عليه الصلاة والسلام والله تبارك وتعالى يقول (( وما آتاكم الرسول فخذوه )) الآية فأخذوا بعضه وتركوا بعضه (( فما جزاء من يفعل ذلك )) إلخ .
والخلاصة أنه يجب على المسلم أن يؤمن بكل حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان في العقائد أو في الأحكام وسواء أكان متواترا أم أحادا وسواء كان الآحاد عنده يفيد القطع واليقين أو الظن الغالب على ما سبق بيانه فالواجب في كل ذلك الإيمان به و ... له وبذلك يكون قد حقّق في نفسه الاستجابة المأمور في قول الله تبارك وتعالى (( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون )) وغيرها من الآيات التي سبق ذكرها في مطلع هذه الكلمة التي أرجو الله تعالى أن ينفع بها ويجعلها خالصة لوجهها ناصرة لكتابه خادمة لسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تسليما .
الكلام في الفصل الثاني على تقديم القياس على االحديث .
أيها السادة إن ردّ الحديث الصحيح بالقياس أو غيره من القواعد التي سبق ذكرها ... و ... لعمل أهل المدينة خلافه لهو مخالفة صريحة لتلك الآيات والأحاديث المتقدمة القاضية بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسّنة عند الاختلاف والتنازع، ثم لا شك فيه عند أهل العلم أن رد الحديث في مثل ما ذكرنا من القواعد ليس والحمد لله مما اتفق عليه أهل العلم كلهم بل إن جماهير العلماء المخالفون تلك القواعد ويقدمون عليها الحديث الصحيح اتباعا للكتاب والسنة كيف لا وهو الواجب أهل العمل بالحديث ولو مع ... الاتفاق على خلافه أو عدم العلم بمن عاد به .
نقل بعض النقول عن الأئمة العلماء في تقديم الحديث على القياس ونحوه ..
و ... لك من لم يعلم … في حكم … أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص .
ذكر كلام ابن القيم في اشتداد نكير السلف على من يقدم القياس على الحديث أو يضرب له الأمثال .
قلت وإذا كان هذا ... مخالف السنة وهو يظن أن العلماء اتفقوا على خلافها فكيف يكون حال من يُخالفها إذا كان يعلم أن كثيرا من العلماء قد قالوا بها، وإنّ من خالفها لا حجة له إن لم ... تلك القواعد المشار إليها أو التقليد على ما سيأتي في الفصل التالي .
21 - ذكر كلام ابن القيم في اشتداد نكير السلف على من يقدم القياس على الحديث أو يضرب له الأمثال . أستمع حفظ
بيان سبب وقوعهم في هذا المنحدر وهو تقديم القياس على الحديث .
قلت وهذا يعيد ما ذكرنا من أن الشك في ثبوت السنة هو مما رماهم في ذاك الخطأ وإلا فلو كانوا على علم بها وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قالها لم يتفوهوا بتلك القواعد فضلا عن أن يطبقوها وأن يخالفوا بها مئات الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا مستند لهم في ذلك إلا الرأي والقياس أو اتباع عمل طائفة من الناس كما ذكرنا وإنما العمل الصحيح ما وافق السّنة والزيادة على ذلك زيادة في الدين والنقص منه نقص في الدين قال ابن القيم فالأول القياس والثاني التخصيص الباطل، وكلاهما ليس من الدّين، ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ويقول : هذا قياس، ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول : هذا تخصيص، ومرة يترك النص جملة ويقول : ليس العمل عليه، أو يقول : هذا خلاف القياس، أو خلاف الأصول .
قال ونحن نرى أن كلّما اشتد توغل الرجل في القياس اشتدت مخالفته للسنن، ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس، فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به ؟ ، وكم من أثر درس حكمه بسببه ؟
فالسنن والآثار عند والآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها، معطلة أحكامها، معزولة عن سلطانها وولايتها، لها الاسم ولغيرها الحكم، لها السّكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي، وإلا .
ذكر كثير من الأحاديث التي تركت بسبب هذه الفلسفات الداخلة على الإسلام .
وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين، وحديث قطع السارق في ربع دينار، وحديث ( من تزوج امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله )، وحديث ( لا يقتل مؤمن بكافر )، وحديث ( لعن الله المحلل والمحلل له )، وحديث ( لا نكاح إلا بولي ).
وحديث المطلقة ثلاثا ( لا سكنى لها ولا نفقة )، وحديث ( أصدقها ولو خاتما من حديد )، وحديث إباحة لحوم الخيل، وحديث (كل مسكر حرام )، وحديث ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )، وحديث المزارعة والمساقاة، وحديث ( ذكاة الجنين ذكاة أمه )، وحديث الرهن مركوب ومحلوب، وحديث النهي عن تخليل الخمر، وحديث ( لا تحرم المصة والمصتان )، وحديث ( أنت ومالك لأبيك )، وحديث الوضوء من لحوم الإبل، وأحاديث المسح على العمامة .
وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده، وحديث ( من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد )، وحديث الصلاة على الغائب، وحديث الجهر بآمين في الصلاة، وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره، وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال، وحديث نضح بول الرضيع الذي لم يأكل الطعام، وحديث الصلاة على القبر، وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره، وحديث النهي عن جلود السباع، وحديث ( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره )، وحديث ( إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء )، وحديث الوتر على الراحلة، وحديث ( كل ذي ناب من السباع حرام ) وحديث من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وحديث ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده )، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، وأحاديث الاستفتاح في الصلاة .وحديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وحديث حمل الصبية في الصلاة، وأحاديث العقيقة، وحديث ( لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك )، وحديث ( إن بلالا يؤذن بليل )، وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء، وحديث عسب الفحل، وحديث ( المحرم إذا مات لم يخمر رأسه ولم يقرب طيبا ) .
قلت هذه الأحاديث كلها وجلها إلى أضعافها تركت من أجل القياس أو القواعد التي سبق ذكرها وبعضها … للسّنة من غير عمل أهل المدينة وإليكم أمثلة أخرى عن هؤلاء حديث قراءته صلى الله عليه وآله وسلم بالطور في المغرب وبالمرسلات صلى الله عليه وآله وسلم حديث تأمينه صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفاتحة سجوده صلى الله عليه وآله وسلم فيه (( إذا السماء انشقت )) صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس جالسا وهم جلوس وراءه فقالوا صلاة من صلى كذلك باطلة، حديث أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتدأ بالناس الصلاة فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجلس إلى جنبه أبو بكر رضي الله عنه فأتم عليه السلام الصلاة بالناس فقالوا ليس عليه العمل ومن صلى هكذا بطلت صلاته ، حديث جمعه بين الظهر والعصر يعني في المدينة في غير خوف ولا سفر، حديث أنه أتي بصبي فبال على ثوبه فدعى بماء فأتبعه … ونضح .
حديث أنه عليه السلام أنه كان يقرأ في صلاة العيد بسورة ق و واقتربت الساعة ، حديث أن عليه السلام صلى علي سهيل بن بيضاء في المسجد، حديث أنه عليه السلام … يهوديين … فقالوا لا يجوز … حديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم، حديث تطيبه صلى الله عليه وسلم لحِلّه قبل أن يطوف بالبيت، أحاديث التسليمتين في الصلاة إلى غير ذلك من الأحاديث التي خالفوا فيها أوامره صلى الله عليه وآله وسلم التي لو تتبعها متتبع لربما بلغت الألوف كما قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى .
كلام الشيخ على الفصل الثالث وهو التقليد وجعله دينا .
لا يخفى على الإخوة الحاضرين أن التقييد في اللغة مأخوذ من القلادة التي يُقلد غيره بها ومنه تقليد الهدي فكأن المقلد جعل ذلك الحكم الذي قلّد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده و … والعمل بقول غيره من غير حجة ف … العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول فإنها قد قامت الحجة في ذلك .
وقد أفادها هذا النص الأصولي أمرين هامين، الأول أن التقليد ليس بعلم نافع والآخر أنه وظيفة العامي الجاهل ولا بد من بيان حقيقة هذين الأمرين الوقوف عندهما قليلا والنظر إلى كل منهما على ضوء الكتاب والسنة مستشهدين على ذلك بأقوال الأئمة ثم يتبع ذلك بالنظر في أقوال المتبعين لهم بزعمهم ومدى صحة اتباعهم لأقوالهم .
بيان أن التقليد ليس علما والدليل عليه .
وقال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب فقال لي : ( يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك ) ، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )) قال : قلت : يا رسول الله إنا لا نتخذهم أربابا، قال : ( بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرّمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟ ) فقلت : بلى، قال : ( تلك عبادتهم ) .
وقال عز وجل (( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم )) فمنعهم الاقتداء بآبائهم من الاتباع فقالوا (( إنا بما أرسلتم به كافرون )) .
وقال الله عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم : (( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين )) ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء، وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أؤلئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلَّد كما لو قلد رجل فكفر وقلّد آخر فأذنب وقلّد آخر في مسألة فأخطأ فيها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة، لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه، ثم رورى عن ابن مسعود أنه كان يقول: " اغد عالما أو متعلما ولا تغدون إمعة فيما بين ذلك " ومن طريق أخرى أنه قال: " كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بآخر وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال " يعني المقلد .
وعن ابن عباس قال : " ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع " ثم قال ابن عبد البر وثبت عن النبي أنه قال ( تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤوسا جهالا يُسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون ) ، وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهُدي لرشده ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار ونقله ابن القيم رحمه الله تعالى في ... وقال لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وكذلك قال العلامة السّيوطي أن المقلد لا يُسمّى عالما كما نقله أبو الحسن السندي الحنفي في أول حاشيته على ابن ماجه و ... الشوكاني في " إرشاد الفحول " وقال إن التقليد جهل وليس بعلم ، وهذا يتفق مع ما جاء في كتب الحنفية أنه لا يجوز تولية الجاهل على القضاء وفسّر العلامة ابن الهمام الجاهل هنا بالمقلد ومن هنا جاءت أقوال الأئمة المجتهدين تتابعوا على النهي الأكيد عن التقليد لهم أو لغيرهم فقال أبو حنيفة " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " وفي رواية " حرام على من لم يعرف دليله أن يُفتي بـ ... فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا " وقال مالك " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " وقال الشافعي " أجمع المسلمون على أن من استبان له السّنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد " وقال " كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند نقله خلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي " وقال " كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني " وقال الإمام أحمد " لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا " واشتهر عنهم أنهم قالوا " إذا صحّ الحديث فهو مذهبي " إلى غير ذلك من الأقوال المأثورة عنهم وقد ذكرت نبذة منها قليلة في مقدمة كتابي " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم" و فيما ذكرناه كفاية .
بيان الواجب على العلماء في تحري اتباع الكتاب والسنة وذكر كلام العلماء المحققين في ذلك .
إذا غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة في فضل العلم والعلماء وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتابه السابق "فضل العلم" بابا خاصا لبيان هذه الحقيقة فقال باب معرفة أصول العلم حقيقته ومن لم يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقا وتبعه عليه العلامة الفُلاّني في كتابه " إيقاظ همم أولي الأبصار" ثم ذكر تحته بعض الأحاديث والآثار التي تترجم عنه وختم الفُلاني ذلك بقوله قلت فهذه معاني الأحاديث والأثار مصرحة بأن اسم العلم إنما يطلق على ما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإجماع أو ما قيس على هذه الأصول عند فقد نص على ذلك عند من يرى ذلك لا على ما لهج به أهل التقليد والعصبية من حصرهم العلم على ما دُوِّن من كتب الرأي المذهبية مع مصادمة بعض ذلك لنصوص الأحاديث النبوية .
وجملة القول أن التقليد مذموم لأنه جهل وليس بعلم وإنما العلم الحقيقي العلم بالكتاب والسّنة والتفقه بهما وقد يقول قائل ليس كل أحد يستطيع أن يكون عالما بهذا المعنى فنقول نعم هو كذلك ولكن من الذي يُنازع في ذلك والله عزّ وجلّ يقول (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) ويقول (( فاسأل به خبيرا )) وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمن أفتوا بجهل ( ألا سألوا حين جهلوا فإنما شفاء العي السؤال ) على أن البحث لم يكن في تحديد من يستطيع ذلك ومن لا يستطيع بل سياق كلامنا يدل على أنه منصب على الخاصة الذين يظن أنهم من أهل العلم وفي إمكانهم معرفة المسائل أو بعضها على الأقل بالدليل وهم في الحقيقة علماء بأقوال المذاهب جهلاء الكتاب والسنة فالسؤال غير وارد أصلا لاسيما وقد ذكرت في مطلع هذا الفصل أن النص الأصولي المذكور أفادنا أمرين هامين الأول أن التقليد ليس بعلم نافع وقد بيّنت ذلك بما فيه مقنع إن شاء الله والأمر الآخر أنه وظيفة العامي الجاهل فخرج به العالم المتمكن من معرفة الأدلة وأنه هو الذي ليس وظيفته التقليد وإنما الاجتهاد أو الإتباع على الأقل .
وهذه مما يوضحه شرط الأمر الآخر ولذلك فإني أقول قال ابن عبد البر عقب ما سبق نقله عنه ملخصا وهذا كله لغير العامّة فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبيّن بها الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم .
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنّ المرادين بقول الله عز وجل (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بمعرفته بالقبلة إذا أشكلت عليه وكذلك من لا علم له ولا ... بما بمعنى ما يدري .
وبهذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين .
السائل : بارك الله فيك .