شرح قول المصنف : باب : قول الله تعالى : (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً )) حفظ
القارئ : " باب قول الله تعالى : (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما كسبت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ))، وقوله: (( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون )) وقوله: (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين ))، وقوله: (( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) ".
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم.
قال رحمه الله تعالى : " باب قول الله تعالى (( ألم تر إلى الذين يزعمون )) " إلى آخره.
هذا الباب له صلة بما قبله صلة قوية، لأنه فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله، والأول الذي قبله فيه بيان حكم من أطاع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله. وانظر إلى قوله تعالى: (( ألم تر إلى الذين )) (( ألم تر )) هذا الاستفهام المراد به التقرير والتعجب من حالهم، تقرير ما هم عليه والتعجب من هذه الحال، (( ألم تر )) والخطاب في قوله: (( تر )) يعود إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لقوله: (( يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ))، وهنا الخطاب يتعين أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا )) ما قال: إلى الذين آمنوا، لأنهم ما آمنوا، لكنهم يزعمون ذلك وهم هاه؟ كاذبون يزعمون ذلك وهم كاذبون. وقوله: (( إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ))، بما أنزل إليك وهو الكتاب والحكمة، كما قال الله تعالى: (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ))، والحكمة قال المفسرون إنها هي السنة، هؤلاء يزعمون يقولون: نحن نؤمن بالله نؤمن بالقرآن نؤمن بالسنة، ولكن أفعالهم تكذب أقوالهم، كيف؟ (( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ))، يعني: هذه إرادتهم، وهذا هواهم أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ما يريدون أن يتحاكموا إلى الله ورسوله، إلى الطاغوت، والطاغوت كما سبق صيغة مبالغة من الطغيان، فهو إذن فيه الاعتداء والبغي، والمراد بالطاغوت هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، أو كل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله ورسوله، بغير ما أنزل الله على رسوله، هذا الطاغوت، لأن كل من حكم بغير كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ورأى أنه يجب أن يكون الحكم إلى ما قال، فإنه طاغية معتدٍ، نزّل نفسه ما لا يستحق، واضح؟ إذن ما هو الطاغوت؟ الطاغوت كل من حكم بغير ما أنزل الله، هذا الطاغوت، لأن الكلام الآن في المحاكمة، وقد حد ابن القيم رحمه الله الطاغوت بمعنى الأعم، فقال : " هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ".
(( يريدون أن يتحاكموا إلى الطغوت وقد أمروا أن يكفروا به )) يعني الأمر ليس فيه لبس وليس فيه خفاء عليهم، بل قد أمروا أن يكفروا به، والذي يؤمر بأن يكفر بالشيء، ثم يريد أن يكون التحاكم إليه، هل هذه الآية منه على بصيرة ولا على جهل وخفاء؟ هي على بصيرة، فهم قد بين لهم الأمر، وأمروا بأن يكفروا بهذا الطاغوت، ويكفروا بكل حكم خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنهم مع ذلك والعياذ بالله ما يريدون إلا هذا.
قال الله تعالى: (( ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا )) يريد الشيطان، هل هنا الشيطان علم أو جنس؟ جنس، فيشمل شياطين الإنس وشياطين الجن.
قال الله تعالى: (( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ))، فالمراد بالشيطان الجنس شياطين الإنس والجن، يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا أي: يوقعهم في الضلال، الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من هذا أن ينقلهم من الحق إلى الباطل طفرة واحدة، بل هو يستدرج بهم شيئا فشيئا، ويمهد لهم الطرق، لأن الشيطان يعلم أنهم لو حكموا بما يخالف الحق طفرة واحدة، هل يُقبلون أم لا يقبلون؟ لا يقبلون، لكنه يمهد لهم الطريق، ويريد أن يضلهم ضلالا بعيدا، ليس قريبا، لكنه بالتدريج شيئا فشيئا حتى يوقعهم في الضلال البعيد.
(( ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا )) سبحان الله القرآن يفسر بعضه بعضا، (( إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ))، (( تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول )) إلى ما أنزل الله وهو؟ القرآن، وإلى الرسول، إلى الرسول نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، لكنا قلنا الخطاب هنا للرسول عليه الصلاة والسلام، فيكون المراد بقوله: (( وإلى الرسول )) أي إلى الرسول نفسه. (( إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ))، قوله: (( رأيت )) يعني: رؤية حال لا رؤية بصر، لأنهم ما هم عند الرسول عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن يكونوا عنده ويقال لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، لكن كلمة تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده، فقوله: (( رأيت )) أي رؤية حال لا رؤية بصر، يعني كأنما تشاهدهم.
(( يصدون عنك صدودا )) يعرضون عنك إعراضا، وقوله: (( رأيت المنافقين )) هذا كما يعلم أكثركم إظهار في موضع الإضمار، وكان مقتضى السياق أن يقال: رأيتهم يصدون عنك صدودا، لكن قال: (( رأيت المنافقين )) وفي هذا الإظهار في مقام الإضمار فائدتان، الفائدة الأولى: أن هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا كانوا منافقين، يزعمون أنهم آمنوا ولكن ما آمنوا. ثانيا: أن مثل هذه الحال لا تصدر إلا من منافق، وأن من كانت هذه حاله ولو إلى يوم القيامة فإنه منافق، لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله وأمر رسوله مهما كان الأمر.
قال ... غلطان، نعم انتبه.
قوله: (( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين )) هذي جواب إذا، يعني بمجرد ما يقال لهم هذا الكلام يعرضون.
كلمة صد تستعمل لازمة ومتعدية، فإن كانت لازمة فالمصدر صدود، صد يصد صدودا، كقعد يقعد قعودا، وهنا لازمة ولا متعدية؟ لازمة، لأن مصدرها صدود. أما إذا كانت متعدية بمعنى صد غيره فإن مصدرها صدا، صده يصده صدّا، كرده يرده ردا، واضح ؟طيب هنا هم يصدون إذا دعوا، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا.
قال الله عز وجل: (( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا )) يعني: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، هذه، الاستفهام هنا المراد به التعجب، يعني: كيف تكون حالهم إذا أصابتهم مصيبة، وهذه المصيبة التي ذكر الله هل هي مصيبة دنيوية أم أنها مصيبة شرعية أم الأمران؟ الأمران، لأنه كلما أمكن أن تكون الآية شاملة للمعنيين وهما لا يتضادان فهو أولى، إذا أصابتهم مصيبة قد تكون مصيبة دنيوية بالفقر والجدب وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، ويقولون: يا رسول الله أصبنا بهذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق، أو أنها مصيبة شرعية، ويكون المراد بها إذا أظهر الله رسوله على أمرهم، جاؤوا يحلفون إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، وكلا الأمرين صحيح، فإذا أطلع الله نبيه عليهم جاؤوا يعتذرون يقولون: إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا.
وقوله: (( بما قدمت أيديهم )) الباء هنا للسببية، بما قدمت، وما اسم موصول وقدمت صلته والعائد محذوف، والتقدير بما قدمته أيديهم، أي: بما قدموا هم، لكن في اللغة العربية يطلق مثل هذا التعبير ويراد به نفس الفاعل، بما قدمت أيديهم أي بما قدموه من الأعمال السيئة والنفاق، جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله أي يقسمون به، إن بمعنى ما، ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، إحسانا لكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين، أو بين طريق الكفر والإيمان، يعني: ودّنا نوفق بين طريقكم أنتم يا أيها المسلمون وبين طريق الكفار، نمشي معكم ونمشي معهم، وهذه حال المنافقين، فهم يقولون ما أردنا إلا الإحسان، أن نحسن المسلك والمنهج، ونعيش مع هؤلاء وهؤلاء، فنوفق بين الطرفين، وهذا ممكن ولا غير ممكن؟ غير ممكن، ولهذا توعدهم الله بقوله: (( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم )) لأنه جل وعلا علام الغيوب (( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ))، بل الرب جل وعلا أعلم منك بما في نفسك، أو لا؟ (( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه )) أبلغ من هذه الحيلولة، أحد يحول بينك وبين قلبك؟ ما فيه أحد يحول بينك وبين قلبك، الإنسان قلبه هو الذي يدبره، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، لكن الرب عز وجل يحول بينك وبين قلبك، وهذا من أبلغ ما يكون في العلم والخبرة أنه جل وعلا يحول بين المرء وقلبه، ولهذا أحيانا تجد الإنسان عازما على فعل شيء، ثم لا يدري إلا وأن الله تعالى صرفه عنه، ولهذا " قيل لأعرابي بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم "، شف كيف الأعرابي؟ بنقض العزائم وصرف الهمم، هذا صحيح ولا لأ؟ دائما الإنسان يعزم، ربما يخطو خطوات لما يريد ثم ما يدري إلا والأمر العزيمة منتقضة، بدون أي سبب حسي، وصرف الهمم، يهم الإنسان بشيء، والهمة قبل العزيمة، ثم يصرف عنه، بدون أن يكون هناك سبب ظاهر، وهذا كقول الأعرابي الآخر " بم عرفت ربك ؟ - لكن ذاك استدل بأمر حسي، قيل له بم عرفت ربك ؟ - قال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، - يعني صاحب إبل هذا الأعرابي - فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أما تدل على السميع البصير " سبحان الله، تدل ولا لأ؟ تدل والله أعظم دلالة.
فالحاصل أن هؤلاء يقول الله فيهم متوعدا لهم (( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم )) ما فيها من النفاق والمكر والخداع والعياذ بالله، (( فأعرض عنهم )) وهذا غاية ما يكون من الإهانة، أعرض عنهم فالله تعالى يتولاهم، (( وعظهم )) يعني ذكرهم وخوفهم، لكن لا تجعلهم أكبر همك، اتركهم ما كأنهم وجدوا، وقم بما يجب عليك من الموعظة.